سمح الاحتياطي الكبير للذهب في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية بأن تقوم واشنطن بإعادة بناء نظام النقد العالمي وجعله يستند على الدولار بشكل أساسي، لكن هذا النظام بدأ يتفكك في الفترة الأخيرة لعدة أسباب، منها سياسي، ومنها اقتصادي، بحسب التقارير.
ربط النظام الجديد، الذي تم إنشاؤه في مؤتمر “بريتون وودز” عام 1944، عملات كل دولة في العالم تقريبا بالدولار الأمريكي من خلال سعر صرف ثابت، كما ربط الدولار الأمريكي بالذهب بسعر ثابت قدره 35 دولارا للأونصة، وهو ما شجع البنوك حول العالم على اعتماد الدولار في احتياطياتها.
حقبة ربط الدولار بالذهب
جعل نظام “بريتون وودز” الدولار الأمريكي العملة الاحتياطية الأولى في العالم، وأجبرت الدول الأخرى على تخزين الدولارات للتجارة الدولية أو استبدالها مع حكومة الولايات المتحدة بالذهب بالسعر المحدد.
اليوم الذي فاجأت فيه واشنطن العالم.. قطع ارتباط الدولار بالذهب
أدى الإنفاق الجامح على الحرب والرعاية الاجتماعية إلى قيام الحكومة الأمريكية بطباعة دولارات أكثر مما يمكن أن تدعمه بالذهب وبالسعر الموضوع له، بحسب تقرير نشر على موقع “internationalman”.
وبحلول عام 1967، زاد عدد الدولارات المتداولة بشكل كبير بالنسبة لمقدار الذهب الذي يدعمها، الأمر الذي شجع الدول الأخرى على استبدال دولاراتها بالذهب، مما أدى إلى استنزاف المعروض من الذهب الأمريكي بمعدل ينذر بالخطر، وانهيار لمجمع لندن للذهب، وفي هذه المرحلة، كان من الواضح أن هذا النظام كان قد بدأ بالإنهيار.
وليلة الأحد، بتاريخ 15 أغسطس/آب من عام 1971 ، قطع الرئيس الأمريكي نيكسون بث جميع البرامج التلفزيونية المقررة وأصدر إعلانًا مفاجئًا للشعب الأمريكي والعالم، معلنا نهاية أحادية الجانب لنظام “بريتون وودز” وقطع آخر ارتباط للدولار بالذهب.
أمريكا تبتكر “البترودولار” للخروج من مأزقها
كان لانتهاء دعم الذهب للدولار عواقب جيوسياسية كبيرة، والأهم من ذلك، أنه قضى على السبب الرئيسي الذي جعل الدول تخزن كميات كبيرة من الدولارات الأمريكية وتستخدم الدولار الأمريكي في التجارة الدولية ونتيجة لذلك، بدأت الدول المنتجة للنفط في المطالبة بمدفوعات الذهب بدلا من خفض قيمة الدولار بشكل سريع.
وللخروج من مأزق ربط الدولار بالذهب، قامت واشنطن، والتي تعتبر من أكبر المستهلكين للطاقة، بريط عمليات شراء النفط بالدولار، ومنذ ذلك الوقت، ظهر مصطلح “البترودولار”.
وقامت واشنطن بإعادة تدوير مئات المليارات من الدولارات الأمريكية من عائدات النفط السنوية وتحويلها إلى سندات الخزانة الأمريكية، الأمر الذي أتاح لها إصدار المزيد من الديون وتمويل عجز الميزانية الذي لم يكن من الممكن تخيله في السابق، لكن هذه الإجراءات تسببت أيضا بمشكلات كبيرة على رأسها الأزمات المالية العالمية.
لكن هذه الطريقة جهلت الدول تستمر أيضا باستخدام الدولار، ومنحه المزيد من الوقت، ليحافظ على المكانة الفريدة له كأكبر عملة احتياطي في العالم.
لماذا تم اختيار النفط؟
النفط هو أكبر سوق للسلع الأساسية وأكثرها استراتيجية في العالم، قيمة الإنتاج السنوي لسوق النفط أكبر بعشر مرات من سوق الذهب.
وبحسب التقرير فإن كل بلد يحتاج إلى النفط، وإذا احتاجت الدول الأجنبية إلى دولارات أمريكية لشراء النفط، فإن لديها سببًا مقنعًا للاحتفاظ بالدولار الأمريكي حتى لو لم تكن مدعومة بوعد باستردادها بالذهب، فعلى سبيل المثال إذا أرادت فرنسا شراء النفط من أي دولة نفطية، فعليها شراء الدولار الأمريكي من سوق الصرف الأجنبي لدفع ثمن النفط أولا.
وهذا يخلق سوقًا اصطناعيًا ضخمًا للدولار الأمريكي ليتميز الدولار الأمريكي عن العملة المحلية، وليصبح الدولار مجرد وسيط يتم استخدامه في معاملات لا حصر لها، تصل قيمتها إلى تريليونات الدولارات التي لا علاقة لها بالمنتجات أو الخدمات الأمريكية.
نظرا لأن سوق النفط ضخم، فإنه يعمل كمعيار للتجارة الدولية، فإذا كانت الدول الأجنبية تستخدم الدولار بالفعل في النفط، فمن الأسهل استخدام الدولار في التجارة الدولية الأخرى.
بالإضافة إلى أن جميع مبيعات النفط تقريبا، يتم استخدام الدولار الأمريكي في حوالي 80٪ من جميع المعاملات الدولية، ليعزز في النهاية، نظام “البترودولار” من القوة الشرائية للدولار الأمريكي عن طريق إغراء الأجانب بشراء الدولار.
ساعد نظام البترودولار في إنشاء سوق أعمق وأكثر سيولة للدولار وسندات الخزانة الأمريكية، كما أنها ساعدت الولايات المتحدة على إبقاء أسعار الفائدة أقل مما كانت ستصبح لولا ذلك، مما سمح للحكومة الأمريكية بتمويل عجز هائل ما كان لولا ذلك أن يكون قادرًا على ذلك.
الجيش الأمريكي يحمي الدولار وليس الاقتصاد
أشار التقرير أن “الولايات المتحدة تحمي هيمنة الدولار بشكل كبير، فعلى سبيل المثال حاول عدد من الرؤوساء التخلي عن هيمنة الدولار وبيع النفط بهذه العملة ليكون مصيرهم الموت، كما حصل مع الرئيس العراقي صدام حسين والليبي معمر القذافي”.
لكن الأمر ييدو مختلفا بظهور قوى نووية عظمى مثل روسيا والصين اللتان تتحديان الدولار، حيث لن تدخل الولايات المتحدة في صراع عسكري مباشر مع هاتين القوتين على الرغم من اتخاذهم خطوة بالتخلي عن “البترو دولار”.
العقوبات الأمريكية تسرع انهيار نظام البترو دولار
تحدث التقرير عن العقوبات التي فرضت على روسيا بعد عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، حيث فرضت الولايات المتحدة عقوبات شرسة ضد روسيا وصفها مسؤول سابق في الخزانة الامريكية بمثابة “حرب نووية مالية وأكبر حدث للعقوبات في التاريخ”.
حقبة فقدان الثقة وفك الارتباط بالدولار
فرضت واشنطن عقوبات على احتياطات البنك المركزي الروسي، لكن هذا الإجراء أظهر للعلن أن الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على الاستيلاء على احتياطيات الدولار للدول الأخرى ذات السيادة، وهو الأمر الذي جعل العديد من الدول تعيد النظر بهذا الارتباط وتحاول إيجاد بدائل له.
وأظهرت العقوبات أنه يمكن سحب احتياطيات العملات التي تراكمت لدى البنوك المركزية، مع ملاحظة أن الصين، قد تستطيع إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية والإدارة الاقتصادية وحتى الدور الدولي للدولار الأمريكي .
وأشار التقرير إلى أن روسيا هي أكبر منتج للطاقة والصين هي أكبر مستورد للطاقة، وروسيا تعتبر من أكبر الموردين للنفط إلى الصين.
والآن بعد أن حظرت الولايات المتحدة روسيا من نظام الدولار، هناك حاجة ملحة لنظام موثوق به قادر على التعامل مع مبيعات نفط تقدر بمئات المليارات من الدولارات خارج الدولار والنظام المالي الأمريكي.
بحسب المقال تعتبر بورصة “شنغهاي الدولية للطاقة” هي ذلك النظام الجديد، حيث يوجد تبادل تجاري هائل للطاقة بين روسيا والصين باليوان وليس بالدولار الأمريكي، وفي حال نفذت الولايات المتحدة عقوبات اتجاه الصين مستخدمة الدولار فسيكون ذلك بمثابة “قنبلة نووية مالية” جديدة.
وخلص المقال، أن الدول المنتجة للنفط أمام خيارين:
1.الاستمرار بنظام “البترو دولار” والذي يواجه مشاكل في الوقت الحالي كون الوضع المالي في الولايات المتحدة غير مبشر، الأمر الذي قد يفقد الدولار من قدرته الشرائية الكبيرة ويعرض هذه الدول لمخاطر اقتصادية كبيرة.
2.بورصة شنغهاي الدولية للطاقة، حيث يمكن لمنتجي النفط المشاركة في أكبر سوق في العالم ومحاولة الحصول على حصة أكبر في السوق.
كما ويمكنهم تحويل عائداته وإعادتها بسهولة إلى ذهب، وهو شكل دولي من النقود دون مخاطر سياسية أو مخاطر من الطرف المقابل.
واختتم كاتب المقال قائلا: “على الرغم من أن معظم الناس لم يدركوا ذلك بعد، إلا أننا في نهاية نظام البترودولار على أعتاب عصر نقدي جديد”.