على أديم المكان والزمان تعيش المدن وتصنع مع أحلام ساكنيها ذاكرة وحلم ، فيما تبقى هواجس الحلم متعلقة برغبة صناعة الكلمة تهيم الذاكرة بمشاغل حفظ هذه الأحلام من طغيان النسيان وقدرته على تهديم خواطرنا وإتلافها ، لهذا نسعى دائما لجعل ذاكرتنا مكانا هادئا لنخيل ماكان يعاش وتدوين هذا التخيل بأسفار يطلق عليها ( أسفار التاريخ ) .
ومدينة سوق الشيوخ هي واحدة من مدن الذاكرة والأبد ، وهي قبل تمدينها بهذا الموقع الواقع على ضفتي الفرات الخالد كانت وجدا لبطائح متسعة من الماء والنخل والرقم التي دونت شجن ذاكرتها على ألواح طين سومر وعبرت أسوار الزمن وهي محتفظة بكل ذلك الوجود البهي الذي كان الشعر والعلم والفن غذاؤه . أجيالا وأجيال عاشت على الثرى الرطب وهي تقرأ في روح المكان مشاعر الحياة وشجون محبة الأشياء ( الماء ، القصب ، الجوع ، الطير ، الحرب ، الشعر ، السمك ، الموسيقى ) كل هاجس وكل شجن وكل خليقة .
وسط هذه الكرنفالات الروحية ولد أبو معيشي الشاعر الأسطورة ( أبو معيشي ) في سبعينيات القرن التاسع عشر وليموت وهو ماسك أكثر من مائة عام من عمره . ولكنها مائة مثمرة ، عاشت على فطرة الموهبة وشجنها كما فحول المعلقات في زمن ماقبل الأسلام . كانت حبكته حكمة ، وكان بيت الشعر لديه رؤية لما قد يكون وكان وكان يصور في الأبوذية وهو نمط ذو قالب مسجع ويمتاز بالقصر والدالة العميقة المشاعر بصدقها وبعمقها حتى انك تشعر انك أمام فيلسوف وليس شاعر لهذا مثلت روحه جزءا من إدراك ما يعاش في بصيرة محجوبة عن الشئ ولكنها تراه في قلبها لتصفه كأبدع وصف ، هذا الوصف المحير الذي يسيل على سفوح المسمع برقة وشهوة وإدراك ، وهو آت نتاج بديهية أسرع من البرق . فمرة سأل من الوفي في هذا الوجود ؟ فأجاب حتى دون أن يدخل السؤال كاملا إلى مسامعه / ( اخوي إلي دفن كبره بكبراي ).. يعني الأخ يشاركني بوفاءه حتى وأنا متوسدا لحد أبديتي . عاش أبو معيشي دهرا طويلا . لا يحسن القراءة والكتابة ولكنه يحسن ما يعجز عنه فطاحل المتعلمين وهي الصناعة الشعرية المتقنة والجميلة والحكيمة وهي صناعة لا تدرك إلا مع الخبرة والموهبة وذلك الالهام الذي يسكنه الله فينا .
ظلت هذه الأسطورة السومرية والتي لم تبرح سوق الشيوخ إلا لشجن القصيدة تعيش أبدية الكلام وتصنع روحه الجميلة بموسيقى القلب . وظل أبو معيشي في سفره الحياتي الطويل يمثل ذاكرة لحياة مدينة عاشت دهورها تناغم رغبة الوجود والحرية والسلام . مدينة عرفها الشعر وعرفه وهو رغم فطرته وعزلته لكنه شارك وبمهارة بصناعة التاريخ الأدبي والحضاري لمدينة سوق الشيوخ ليقف جنبا إلى جنب مع أدباءها وشعراها كالشيخ المرحوم جميل حيدر وحمدي الحمدي وسالم الحسون وغيرهم من صناع الكلمة المتألقة في سموات رغبة القول وزخرفته .
تبقى ذاكرة أبو معيشي هي من بعض ذاكرة الجنوب العراقي وهي مبدعة في تأليف رغبة الوجود ليكون ويبقى يستظل بسرمديته السومرية وروحه العراقية التي عشقت هذا الفن وتمسكت به لأنه جزء من ذاكرة دونت خطواتها بأمسيات البهجة ورفرفة سعف النخيل وغناء موج الفرات الدافئ..