كتب : د. محمد القريشي
كما أنّ التذكّر الجمعي قائمٌ ومطلوبٌ للجماعة، فإنَّ النسيان الجمعي ملازمٌ لعملية التذكّر ومطلوبٌ في كثيرٍ من الأحيان.. الموازنة بين التذكّر المطلوب والنسيان المطلوب هامّةٌ لبناء المجتمعات. يقول بول ريكور: (سأبقى قلقاً لوجود كثرةٍ في الذاكرة هنا، وكثرةٍ في النسيان هناك، فيما يتعلّق بتمجيد الذاكرة واستغلالها والنسيان). ويرى الكاتب ومراسل الحرب (دافيد رييف) أنّ التذكّر يمثّل عملية بناءٍ اجتماعيٍّ تعتمد سياقاتها على جذور الأزمة والبيئة الثقافية ويؤكد على دور النسيان كعاملٍ هام من عوامل بناء الأُمّة وان تلبي كل من الذاكرة الجمعية وصناعة الرمزيات حاجة الأمن وتتبعا سيرورة قلقة خاضعة لتطوّرات وتفاهمات.
واستناداً إلى خبرته كمراسل حرب في البلقان، يستنتج بأنّ الذاكرة الجمعية التاريخية لم تنتج المصالحة، ولكنّها راكمت مشاعر الكبت متفقا في ذلك مع مقولة الباحث الألماني هيرفريد مونكلر " ثقافة تذكّر دمار الحروب تكون ذات جدوى عندما يكون الجميع قد خسروا في نهاية المطاف". وفي مجال إصلاح الذاكرة المشتركة بين المانيا وفرنسا بعد الحربين الأولى والثانية، تستذكرُ نخبُ البلدين قصّة اللقاء التاريخي بين الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران مع نظيره المستشار الألماني هيلموت كول في عام 1984، حيث جرت العادة أن تحتفل فرنسا سنوياً في السادس من شهر آب بنزول قوّات الحلفاء على أرضها في ساحل النورمندي لبدء عمليات التحرير من الاحتلال الألماني النازي، وقد تجنّب الرئيس الفرنسي ميتيران دعوة المستشار كول في عام ١٩٨٤ لحضور هذه المناسبة؛ لأنّها تذكّر بخسارة ألمانيا التي تمثّل جرحاً وطنياً كامناً في وعي الشعب الألماني. ومن أجل صنع مناسبةٍ موازنةٍ لكلا الشعبين من النواحي النفسية والتاريخية ولإصلاح الذاكرة، فكّر المستشار الألماني بتنظيم لقاءٍ مع الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران في موقع معركة فيردان التي حدثت في الحرب العالمية الأُولى عام ١٩١٦ ودامت ٣٠٠ يوماً، وراح ضحيتها حوالي ٣٠٠ قتيل و٤٠٠ فقيد من الجانبين الفرنسي والألماني. وخلال لحظات استذكار ضحايا الجانبين وعزف النشيدين الوطنيين تباعاً، بادر الرئيس الفرنسي ميتران بمسك يد نظيره الألماني طيلة فترة الاستذكار. وقد بقت منذ ذلك اليوم، صورة لقاء أعداء الأمس وأصدقاء اليوم عالقةً في أذهان شعوب أوروبا، ومؤثّرةً في ترميم ذاكرة الشعبين الموسومة بالحروب والآلام.
من بحث (الذاكرة في بناء الدولة والمجتمع).. د محمد القريشي