22 Nov
22Nov

 الجلاد يقتل مرتين: المرة الثانية بالنسيان (ايلي فيزيل – كاتب امريكي)

...............................................

د. محمد القريشي

المقدمة:

تؤثر الذاكرة تأثيراً كبيراً في تحديد ملامح حاضر الأفراد والمجتمعات ومستقبلهم، وما يتعلّق بذلك من شكل الهوية المميّزة للكيانات؛ ولهذا تُولي الدول الحديثة اهتماماً بالغاً في توثيق أحداث الماضي وصناعة الرموز الدالّة عليه في إطار ذاكرةٍ وطنيةٍ جامعةٍ تساعد في تعزيز السلام المجتمعي. يشير عالم الاجتماع الفرنسي هالبفاكس إلى عدم وجود ذاكرةٍ فرديةٍ مجرّدةٍ، ولكنها أيضاً ذاكرةٌ جماعيةٌ تربط الفرد في بيئته وتجعل فهمه للماضي ملازماً لوعيه الجماعي وذاكرته الشخصية. 

وتنقسم المجتمعات إلى ساخنةٍ وباردةٍ، استناداً إلى طريقة تعاملها مع الماضي، حيث توثّق المجتمعات الباردة قضايا الماضي بعيداً عن الحاضر والمستقبل، لدرجةٍ تنقطع فيها وتيرة تدفّق المعنى عبر المدد الزمنية المتتالية. فيما تضع المجتمعات الساخنة أحداث الماضي والطقوس في مجرى حياة الجماعة بشكلٍ يجعل ذاكرتها معبّرةً عن الاستمرارية وتدفّق المعنى. تواجه المجتمعات تحدياتٍ كثيرةً في مجال الذاكرة، أهمّها التلاعب والإرغام من قبل القوى المهيمنة، الأمر الذي يفاقم مشاعر الكبت والاغتراب لدى الجماعات المتعايشة في مجالٍ واحدٍ.

 والتحدّي الكبير الذي تواجهه الأُمم يكمن في طريقة تعاملها مع الماضي، والنسيان لتشكيل ذاكراتها الوطنية، وتحديد معالم هويّاتها الوطنية. يتميّز الإنسان بامتلاكه قدرة تخزين الأحداث والمشاعر التي وقعت في الماضي، واستعادتها في حالاتٍ معيّنةٍ بواسطة عملية التذكّر. ولكلّ فردٍ مستودعه الخاصّ من الذكريات الذي يرافقه في مسيرة حياته. وللتذكّر أثرٌ هامٌّ في تحديد معالم الحاضر بالنسبة للفرد وللجماعة.

 فالفرد على سبيل المثال، الذي شهد في مراحل عمره المبكّرة أحداثاً في نطاق أُسرته أو مجتمعه (عنف، حنان، رعاية، وجاهة، حكمة، استبداد، وغيرها)، لابد أن يستعيد آثار الماضي في مراحل لاحقةٍ، من خلال عملية التذكّر التي يُسهم جزءٌ كبيرٌ منها في طبيعة أحداث حاضره. 

ولتفسير حالة التذكّر هناك اتجاهان، أولهما يرتبط بكون الذاكرة ظاهرة نفسية فردية، يشكّلها الفرد خلال حياته على طريقته الخاصّة وبعيدة عن العامل الاجتماعي؛ لخصوصية الفرد في المشاعر وطبيعة عيش الأحداث الماضية، بشكلٍ يجعل ذاكرته مختلفةً عن ذاكرة الأفراد الآخرين. 

يميّز برغسون في كتابه "التطور الخالق" بين نوعين من الذاكرة: الذاكرة العادة والذاكرة المحضة، فالذاكرة العادة مكتسبة بالتكرار، ولها عنصرٌ محرّكٌ في الجهاز العصبي، وهي تتعلّق بالذاكرة التي ترتكز على الفعل حين تستعيد الماضي بطريقةٍ آليةٍ بحتة، كحال الذاكرة التي تعيد شعراً أو نثراً محفوظاً عن ظهر قلب.

 أما الذاكرة المحضة(1)، فهي التي تختزن الماضي كلّه، وتحيا في ديمومةٍ مستمرّةٍ معبرةٍ عن «الأنا العميق»، ذاكرة النفس، حين تصوّر حادثةً انطبعت في الذهن دفعةً واحدةً، وتحتفظ بخصائصها وتاريخها.

 أنا أستطيع إلقاء شعر حفظته عن ظهر قلب؛ لأنّني قرأته مرّات عدّة، وأنا أتذكّر لأنَّ التكرار صنع لديَّ عادةً. 

ولكنّني إذا تذكّرت بأنّني قد قرأت هذا الشعر لأوّل مرّة في مكانٍ ما وفي ظرفٍ معيّنٍ، فإنَّ هذه "الذاكرة – الصورة" تختلف عن "الذاكرة – العادة"(2). 

الذكريات وفقا لهذا الاتجاه عوامل ذاتية معزولة عن المجتمع، فالإنسان يفكّر بذاته وليس بغيره، ولهذا يعتمد التلميذ في الامتحان على ذاكرته لا على ذاكرة الغير، ويتباين الأفراد فيما بينهم حسب قدراتهم على الاحتفاظ والاسترجاع، بما يؤكّد الطابع الفردي للذاكرة.

 يرى نيتشه بأنّ الحيوانات تعيش سعيدةً؛ لأنّها لا تتذكر ولا تنسى، وهي استناداً إلى ذلك لا تملّ، وفي مقابل ذلك لا يستطيع الإنسان التخلّص من ذاكرته (أو جزء منها) دون أن يتعثّر في حياته أو يفقد سعادته. وكما إنّ الذاكرة مهمّة لتوازن الإنسان وسعادته، فإنَّ النسيان ضروريٌّ كذلك لتحقيق شرط "الذاكرة السعيدة". 

وتتكامل ثنائية الذاكرة والنسيان في المهمّات حين يعمل النسيان على جعل الذاكرة ممكنة بسبب عدم وجود "تذكّر" كامل.

ولهذا تكون الذاكرة، (سيرورة انتقائية) تنير جزءاً من الماضي وتترك جزءاً آخر طي النسيان الأمر الذي يؤمّن التوازن النفسي والمعرفي للفرد(3).

 ويخضع هذا الاتجاه في فهم الذاكرة إلى نقدٍ شديدٍ، يتلخّص بحقيقة كون الإنسان لا يعيش معزولاً عن بيئته، بل مندمجاً مع الجماعة، التي كثيراً ما ترغمه على الاحتفاظ والاسترجاع أو الإنكار أو التعديل.

 وقد ناقش العالم الفرنسي هالبواكس هذا الأمر في كتابه "الذاكرة الجماعية"، حين أشار إلى عدم وجود ذاكرةٍ فرديةٍ مجرّدةٍ، ولكن أيضاً ذاكرة جماعية تتواجد خارج الفرد وتحوم حوله.

 وبالتالي، يرتبط فهم الفرد للماضي ارتباطاً وثيقاً بهذا الوعي الجماعي وليس فقط بذاكرته الشخصية(4). وفي هذا السياق يمكن تفسير حوادث الانتقام في المجتمعات القبلية الناتجة عن تذكّر الأجيال الجديدة للماضي بشكلٍ مباشرٍ، أو عن طريق التلقين والإعادة من أفراد الجماعة، كما تفعله النساء في تلك المجتمعات من عمليات إنعاشٍ لذاكرة القتلى في حروب القبائل بواسطة أشعار الرثاء أو السرديات بشكلٍ يجعل الانتقام وتصفية حسابات الماضي جزءاً أساسياً من حياة الأُسرة، أو الدور الذي تلعبه القبور العائلية أو موروثات الراحلين في تجديدٍ مستديمٍ لذاكرة الأُسر والبيوتات، لدرجةٍ تُسهم في تشكيل هوياتها الخاصّة في المجتمعات. 

تضم الذاكرة التاريخية للشعوب عدداً من المجموعات المتداخلة فيما بينها أطلق على أحدها هالبواكس "الذاكرة الجماعية"، وعرّفها بأنّها الذاكرة التي يُقرّها مجتمعٌ أو تجمّعٌ بشريٌّ ما، وتنقسم على ثلاث مجموعات: الذاكرة العائلية التي تصنعها العائلةُ وتورثها جيلاً بعد جيل، والذاكرة الدينية التي تصنعها القصص الدينية الوعظية من خلال سردٍ بشريٍّ أو سردٍ إلهيٍّ "الأديان السماوية" والتي تُسَوِّقُها وتنشرها المدارس الدينية المختلفة، وأخيراً الذاكرة الوطنية والتي تُسمّى أيضاً "الذاكرة الرسمية"(5).

 التحدّي الكبير الذي تواجهه الأُمم يكمن في طبيعة تشكيل ذاكراتها الوطنية استناداً إلى روافدها من "الذاكرات الجماعية" بما يفيد في تحديد معالم هوياتها الوطنية المنشودة. وهكذا، فقد تنجح بعض الأُمم في اختيار ما تراه مفيداً من أحداث الماضي وتنسيقه وإبرازه للمجال العام، وترك ما لا يستحقّ تذكّره بما يتضمّن ذلك من نشاطاتٍ ثقافيةٍ أو اجتماعيةٍ أو سياسيةٍ.

 وقد تغوص أُمم غيرها في فوضى الأحداث وتقع صريعة توظيف الماضي من أجل مصالح جماعاتٍ فرعيةٍ، فتضعف وتتخلّف. في المجتمعات الخارجة من استبدادٍ وصراعاتٍ لا يمكن الاستغناء عن العدالة والمصالحة ومعالجة جروح الماضي، والذاكرة التي تصبح واجباً من أجل بناء الحاضر والمستقبل، ولا يمكن كذلك السماح بتراجع الهوية الوطنية أمام الهويات الفرعية في مجال الهيمنة على الحيز العام وفرض رمزياتٍ مجسّدةً للتنوعات في إطار ذاكرةٍ وطنيّةٍ جامعةٍ. المصالحة في هذه الحالة ضروريةٌ وتدعم العدالة لأنّها تمتصّ الرغبة بالانتقام. يرى ريكور أنّ واجب الذاكرة يفرض نفسه على واقع المجتمعات قيد التحوّل من خلال ارتباطه بالعدالة لأسبابٍ عدّة منها(6): 

أولاً: لنشوء "العدالة" من ذاكرة الصدمة واكتسابها - نتيجةً لذلك - قيمتها المثالية، وتحوّل هذه الذاكرة إلى مشروعٍ يحدّد ملامح المستقبل والأمل"(7). 

ثانيا: لارتباط "فضيلة العدالة" بالآخر؛ ولأنّ واجب الذاكرة متعلّقٌ بإقامة العدل عن طريق الذكرى لهذا (الآخر)(8). 

 ثالثاً: لوجود مفهوم (المديونية)، وفي هذال المجال، يقول ريكور: "إنّ فكرة الدّين لا تنفصل عن فكرة الميراث. وكما تتطلّب فكرة الميراث تصفية حسابات الماضي، فإنَّ فكرة الذاكرة تتطلّب إخضاع الواقع إلى تصفية حسابات(9). 

رابعاً: رفع مستوى الضحية وتخليصها من واقع العزلة، مع ضرورة الانتباه إلى أنّ: "ثقافة الضحية تدفع الجماعة التاريخية نحو انكماشٍ على مأساتها الخاصّة، وحرمان نفسها من العدالة التي قد يوفّرها لها المجتمع بسبب تنامي وعيه بأهمّية الذاكرة(10).

الذاكرات الباردة والذاكرات الساخنة:

في عام 1973 وضع الانثروبولوجي (ليفي ستروس) مفهومي المجتمعات الباردة والمجتمعات الساخنة، وأظهر التباينات بينهما؛ إذ توثّق المجتمعات الباردة الأحداث والوقائع وحتّى الطقوس دون ربطها بالحياة اليومية أو مستقبل الجماعة وأفرادها.

 وعلى خلاف ذلك، تدرج المجتمعات الساخنة أحداثها ووقائعها الماضية في سلوكيات أفراد الجماعة، بطريقةٍ تجعل ذاكرتها معبرةً عن بناءٍ اجتماعيٍّ للماضي وحاملةً للمعنى، وهذا يجعل مفهوم الذاكرة الساخنة معبّراً عن الاستمرارية وتدفّق المعنى بآنٍ واحدٍ، على خلاف الذاكرة الباردة التي تنقطع فيها الاستمرارية وتخذل تدفّق المعنى عبر المدد الزمنية المتتالية(11).

 بعبارةٍ أُخرى، تعيش الذاكرة الساخنة داخل الأجساد وتختزن الماضي الذي لا يقتصر وجوده على الوثائق والطقوس.

 وفي هذا المجال، يتمّ استدعاء الماضي بشكلٍ مستمرٍّ لتوجيه مسارات أفراد الجماعة وانشغالاتهم حول طبيعة وجودهم ومصائرهم، وهي ملازمةٌ للأنا (الفردية) ونحن (الجمعية). يناقش عالم الآثار المصرية الألماني (جان آسمان) في كتاب (الذاكرة الثقافية كتابة وذكريات وخيال سياسي في الحضارات القديمة)(12) هذين المفهومين استناداً إلى الحضارات المصرية والإغريقية واليهودية. 

ويقارن آسمان في دراسته هذه، الذاكرتين الإغريقية واليهودية مع الذاكرة المصرية، حيث تُبنى الذاكرة اليهودية على التاريخ والذاكرة الجمعية في علاقةٍ روحيةٍ، وتُبنى الذاكرة الإغريقية بوتيرةٍ متقطّعةٍ وخاضعةٍ إلى جدلٍ متواصلٍ تجعل مخرجاتها الفكرية حيَّة إلى الأبد، على خلاف الحضارة المصرية التي قدّست نصوصها وجعلتها جامدةً.

 وهكذا تسهم الذاكرة الساخنة في بناء "المعنى" ضمن سياقٍ تاريخيٍّ فاعل في دواخل الأفراد والمجاميع، وتسهم الذاكرة الباردة بتقديس الفنون والتعبيرات بواسطة التكرار بعيداً عن المعنى. 

واشتقّ آسمان من مفهوم "الذاكرة الساخنة" لليهود والإغريق، استعمال فعل (تذكّر) كـ"رديفٍ" حقيقيٍّ "للهوية الجمعية"، مؤكّداً على أهمّية الذاكرة حسب مقولته: (لولا الذاكرة لذاب اليهود المهجّرون إلى أرض الرافدين في الشعب البابلي).

 تستند الذاكرة (الساخنة) عند اليهود على العلاقة الوثيقة بين تفسير الأحداث ومفهومي العدل والخطأ: الخطأ يبرّر المصيبة، والنجاح ينتج عن احترام العقد مع الرب.

 وبالنسبة لسامان فإنَّ هذه الذاكرة لا علاقة لها بتسلسل أحداث المصريين أو الآشوريين التي تكتب بهيئة تسلسلٍ زمنيٍّ للوقائع لا تعطي معنىً للتأريخ (صورة - ذكرى).

 واستناداً إلى نظرية ساما فإنَّ النموذج اليهودي يختلف عن الإغريقي من حيث الجوهر، حيث صنع اليهود (الدين بمعناه المركز) وحوّلوه إلى جدار يحجزهم عن الشعوب والثقافات المحيطة. 

وفي هذه الحالة تحوّل الدين إلى مقاومةٍ، والماضي الحقيقي أو المتخيل إلى ذاكرةٍ جمعيةٍ. وإذ جاءت نصوص اليهود في (٢٢) كتاباً بشكلٍ متناسقٍ، فإنَّ كتب الإغريق الكثيرة قد جاءت متناقضةً فيما بينها، وهذا التناقض جعلها بنظر سامان حيّةً. 

التناقض يتطلّب الإضافة أو التغيير ويدخلنا في مجال النزاع النصّي. وفي هذا السياق يتمّ بناء الخطاب ابتداءً ممّا ناقشه السابقون من أجل الاقتراب من الحقيقة مع إدراك استحالة الوصول إليها، وهي حالةٌ مخالفةٌ للسياق المصري الذي تكون فيه النصوص مثبتةً في قوالب من التناسق الطقوسي المستند على التكرار وليس على التغيير غير المنتظم، وهنا يكمن الاختلاف. في كلّ سبتٍ يسبق الاحتفال السنوي لليهود بعيد البوريم (عيد الفور) تردّد دور العبادة قراءةً خاصّةً لنصِّ التوراة "زاخور" أو (تذكر ولا تنسى)، وهو تكرار ساهم في سبك هوية اليهود عبر المراحل المتتالية من التاريخ وأكسبها (معنى).

 وبهذه الطريقة ميّز اليهود ميراثهم عن العهد القديم بثقافةٍ مختلفةٍ عن ثقافات الشعوب المحيطة بهم، وأصبح الماضي المتخيّل هو ذاكرتهم الجمعية التي يحتمون بها. إنّ إدامة مناقشة الحدث في المراحل التاريخية المختلفة اللاحقة على وقوعه وتوثيق سردياته وتوريثها للأجيال يساعد على تنشيط الذاكرة الجمعية وإبقائها ساخنة(13).

 يتذكّر اليهود دوماً نبوخذ نصر وهتلر، ويتذكّر المسيحيون كذلك صلب السيد المسيح وموته وقيامته، وكأنّ ذلك قد حدث قريباً، ويستذكر الشيعة حادثة الطف التي استُشهد فيها الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، ويعيدون قراءة القصّة في كلّ عامٍ، والتعبير عن أحداثها بشكل طقوسٍ جماعيةٍ وفرديةٍ، مثل (مسيرة الأربعين) أو (ركضة طويريج)، في تجسيدٍ كاملٍ لحاجة الشيعة (للتذكّر) وتجنّب النسيان، كما تظهره أبيات قصيدة الشاعر جابر الكاظمي

 (أبد والله لن ننسى حسيناً):

 أبد والله لن ننسى حسيناً 

وذا عهد ومعهود علينا

 بايعناه رغم العدا 

لن ننساه طول المدى 

وتحرص الجماعة الشيعية خلال ممارستها للطقوس على تجسيد (المعنى) الذي تحمله واقعة الطف سلوكياً خلال أوقات التذكّر (زيارات عاشوراء والأربعين).

 ويظهر ذلك جلياً في أفعال التسامح بين الأفراد والصبر على قطع مسافاتٍ بعيدةٍ وصولاً إلى كربلاء وتوفير الطعام والشراب والخدمات بشكلٍ مجانيٍّ.

 تتحوّل بعض المجتمعات الباردة إلى ساخنة، حين تجد نفسها فجأةً داخل عاصفة التأريخ(14)، كما حدث للجماعة اليزيدية في العراق، التي كانت تمارس طقوسها في مناطقها بشكلٍ منعزلٍ، ولكن تعرّضها إلى عمليات إبادةٍ جماعيةٍ وسبي للأطفال والنساء خلال غزو (داعش) لمناطقهم، جعلها تعبّر عن محنتها بأشكالٍ متعدّدةٍ، ودفع ذلك أعداداً كبيرة من أفرادها إلى الهجرة واستذكار عمليات الإبادة أمام المجتمع الدولي.

 وعلى الرغم من حدوث عمليات إبادة سابقة لليزيدين عبر التاريخ، فإنَّ هذه العملية قد حظت باهتمام الرأي العام في أنحاء العالم بسبب تغطيتها بصورةٍ حيّةٍ من قبل القنوات الإعلامية العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي، فضلاً عن وجود قوات التحالف الدولي لمحاربة (داعش) في العراق ونجاح بعض الضحايا في الوصول إلى المحافل الدولية وسرد الأحداث وآثارها والحصول على اعترافٍ قانونيٍّ دوليٍّ بعملية الإبادة.

 وفي السياق ذاته، انتقل سكان أميركا الهنود من "البرودة الاجتماعية" إلى "السخونة" بعد تمرّدهم على واقعهم الجديد الذي وضعهم فيه المستعمرون وتشكيل ذاكرةٍ خاصّةٍ بأزمتهم وتنظيم واقعهم من أجل كسب الحرية واسترداد أراضيهم المغتصبة. وفي مقابل ذلك، يمكن للمجتمعات الساخنة أن تبرد عندما تتوقّف عن إنتاج التطوّر وتكرار أحداثها بعيداً عن التجديد. وتمثّل بعض التهديدات في المجتمعات الساخنة مثل البطالة والانفجار السكاني والحروب مؤشّرات التحوّل إلى مجتمعاتٍ باردةٍ(15).

التلاعب بالذاكرة:

 تواجه عملية التذكّر مشكلةً كبيرةً تخصّ التلاعب والاستغلال، فضلاً عن الهشاشة، وما ينتج عن ذلك من ظهور أشكالٍ سلبيّةٍ من الذاكرة كالذاكرة الزائدة، أو الذاكرة المنقوصة، وتأثيراتها على الهوية.

 وفي هذا المجال يقدّم (ريكور) ثلاثة عوامل أساسية، تفسّر هشاشة الذاكرة وضعفها وسهولة خضوعها للاستغلال والتلاعب، وهذه العوامل هي: العلاقة بالزمن، والعلاقة النزاعية بالآخر، وأخيراً العلاقة بميراث العنف التأسيسي. 

ويعدّ العنف أساساً في مجال الذاكرة؛ لدوره في تشكيل هويات الجماعات؛ ولهذا تقوم الشعوب بالاحتفال به باسم الأحداث المؤسسة، وهي عبارة عن أفعالٍ عنيفةٍ تمّ صبغها بصبغة الشرعية من خلال قيام الدولة، كالاحتفال على سبيل المثال بأعياد الاستقلال والتحرير(16). 

ولابد هنا من الإشارة إلى وجود عوامل عديدة تدفع الجماعات على التلاعب بالذاكرة، وخصوصاً عندما توظّف للمطالبة بهويةٍ معيّنةٍ أو تعزيز شرعية نظام، أو تأكيد مظلومية.

 ومن أهمّ هذه العوامل التي يتوقّف عندها (ريكور) عامل الأيديولوجية(17)، حين يكون تأثيرها إعطاء صبغةٍ شرعيةٍ للنظام السياسي، والدفاع عن مصالحه ورؤيته، وتوحيد المتنوّع داخل المجتمع في نسقٍ رمزيٍّ واحدٍ، وتقديم أساسٍ للفعل والعمل المشترك، وهنا تحديداً تبرز مخاطر "الذاكرة الإرغامية" في تأسيس مشاعر الاغتراب لدى الجماعات الخاسرة في فضاءات الذاكرة.

 وتقوم القصص والأفلام والصور عموماً بدور ووظيفة تثبيت الذاكرة المؤدلجة من خلال الروايات التأسيسية التي تثير مشاعر المجد والإذلال، والانتصار والهزيمة، والكرامة والهوان. 

وتكون هذه الأعمال بمجملها تحت تأثير الأيديولوجيا في جوانب التشويه والتزوير والتحريف، من خلال الفصل بين التاريخ الرسمي، والتاريخ المرفوض والمدفوع نحو النسيان(18)، كما حصل مع محاولة نظام صدام إسدال الستار على ذاكرة ثورة 14 تموز. 

وتخضع الذاكرة الوطنية (المنتقاة) كذلك إلى المراجعة والتقييم، وربّما التعديل عندما تعبر الدولة الوطنية مرحلة التشكل الأولية وإرهاصاتها، من أجل إعادة تأكيد مرجعيتها (مرجعية الذاكرة) كذاكرةٍ جامعةٍ للمواطنين.

 في عام 2020 وبعد حوالي (125) عاماً على بناء نصب التمثال البرونزي لتاجر الرقيق إدوالارد كوليستون (توفي عام 1721) قرب ميناء نهر بريستول في بريطانيا، أسقط متظاهرون غاضبون التمثال بعد حواراتٍ عميقةٍ في المجال العام بسبب إنّه لم يعد ممثّلاً لقيم المرحلة المناوئة للعبودية في إشارة إلى أنّ نصبه كان قد جرى في مرحلةٍ سابقةٍ من نواحي القيم والأحداث، وإنه لم يعد مشكّلاً للذاكرة الجمعية للشعب.

 وفي موقعٍ آخر، فقد أزالت بلدية سان فرانسيسكو في كالفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية تمثالاً، معلّلة ذلك على لسان مسؤولة الجهاز الثقافي في البلدية "بأنّ التمثال لا يتناسب مع قيم سان فرانسيسكو والتزاماتها بتحقيق العدالة العرقية". 

وفي رواية المحتال، للكاتب الاسباني (انريك ماركو بالت) يقوم الكاتب بتتبّع مسيرة رجلٍ مدريدي في تسعينيات عمره وكشف زيف سردياته، بعد أن غرس صورته في المجتمع الاسباني كمناضلٍ ضدّ فاشية فرانكو وضحية من ضحايا المرحلة النازية، مدّعياً قضاء مدّةٍ في معتقلات الأسرى بألمانيا، ولمع نجمه في مجتمعٍ باحثٍ عن ترميم ذاكرته بعد الحرب، حتّى أصبح ناطقاً بلسان الناجين من المجازر يمثّلهم في مناسباتٍ عدّة(19). 

التذكّر "المدروس" ضروريٌّ لسلامة المجتمعات لأسبابٍ عدّة، منها: أنّه يمنح قيمةً معنويةً واستثنائيةً للضحايا، ويعوّضهم عن الضرر الذي لحق بكرامتهم؛ ولأنّ عملية تذكّر أفعال الموتى تمثّل مقاومةً اجتماعيةً لخسارتهم المادّية، وتجعلهم خالدين في مجتمعاتهم، كما إنّها تشكّل جسراً بين الماضي كمستودعٍ للحكمة والمعرفة، والحاضر كواقعٍ معاشٍ باحثٍ عن الكمال. 

وهنا تكمن فائدة المناسبات الاجتماعية والطقوس والتماثيل وباقي التعبيرات في جعل الذاكرة ثابتةً ومتاحةً للجماعة وعابرةً للعهود، وخصوصاً عندما تكون منسجمةً مع بيئتها ومعبرةً عن قيمها.

 بعد وفاة سكرتير الحزب الشيوعي الفرنسي الأسبق (جورج مارشية) في 16 نوفمبر 1997 وضعت بلدية مدينة فيلجويف - قلعة الشيوعيين في فرنسا - نصباً له في إحدى ساحاتها، وبعد عقدين من الزمن وخسارة الشيوعيين مقاعدهم في بلدية المدينة أمام الجمهوريين، جرى التصويت على إزالة نصبه ووضع نصب العالم في طب السرطان (جورد ماثية) بدلاً عنه، ولكن هذا الاجراء لاقى رفضاً من السكان تحت شعار "لا يمكن محو ذاكرة فرنسا السياسية بسهولة(20). 

وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ الذاكرة بحدِّ ذاتها لا تمثّل استرجاعاً مباشراً ومجرّداً وتأملاً للماضي فقط، بل القدرة كذلك على التجسيد الانتقائي لذلك الماضي بشكلٍ إراديٍّ أو لا إراديٍّ، بهدف إعادة بناء الهوية الفردية والجماعية وهيكلتها. 

وقد ميّز (بيير نورا) (21)، بين الذاكرة الجماعية والذاكرة التاريخية، حيث تبيّن الأولى "صورة ذكرى أو مجموعة ذكريات واعية أو غير واعية لتجربةٍ معاشةٍ أو مشبعةٍ بحمولة أسطورية، قوامها هوية جماعية ذات ارتباطٍ وثيقٍ بالإحساس بالماضي وإرث مكتسب، وفي الوقت ذاته سهل الاستعمال وأداة نضال وسلطة" فيما تبيّن الثانية الذاكرة التاريخية لجماعة المؤرّخين كثمرةٍ للتقاليد والجهود المعرفية والعلمية. بصورةٍ عامّةٍ، تحتاج الدول والأُمم إلى رواياتٍ تأسيسيةٍ وأساطير لخلق شعورٍ بالهوية الجمعية التي قد تأخذ شكل (الإرغام) في حالة الأنظمة الشمولية أو (الاتفاق) العام في حالة الأنظمة الديموقراطية.

 ويستعمل عادةً النظام السياسي الرموز والنشاطات الثقافية في سياق صياغة الذاكرة الجمعية، حيث تمثّل الطقوس والحكايات الأسطورية والنصب التذكارية والمتاحف وإحياء مناسبات وأماكن الذاكرة والنصوص والقوانين روافد الذاكرة والهوية.

 وتتطلّب عملية تشكيل ذاكرةٍ مشتركةٍ وجود بيئةٍ اجتماعيةٍ تتفاعل مع سياقات الذاكرة وتوجّهها بالشكل الذي يؤسّس لهويةٍ مشتركةٍ ومحافظةٍ على التنوع.

 يرى المؤرّخ الفرنسي (بيير نورا) بأن (باريس) و(قصر فرساي) و(برج إيفل) و(العلم الفرنسي) و(كتاب الفيلسوف الفرنسي ديكارت) تندرج تحت مسمّى أماكن الذاكرة الفرنسية، ويعتقد بأنّ بدايات تشكّل الذاكرة الفرنسية وتبلورها ترجع إلى عصر الجمهورية الفرنسية الثالثة، أي القرن التاسع عشر الميلادي، حيث ساهمت الذاكرة القومية بتأسيس الهوية الجمعية الفرنسية(22).

 وقد اجتهد الفرنسيون في استعمال الرمزيات لتمييز الملامح الرئيسة للعهد الجديد، وبلورة الهوية الوطنية الناشئة، وضمان إلتفاف المواطنين حولها، واتخذوها نهجاً لنقل قيم الثورة إلى المجتمعات الأُخرى. 

وفي هذا السياق، قامت النُّخب السياسية الفرنسية باستعارة الرموز من الثقافات التاريخية، وإعادة صياغتها، وكذلك إتلاف رموز النظام القديم أو تعديلها، بما يتناسب مع قيم العهد الجديد، كالمواطنة وحقوق الإنسان والحرية والمساواة. 

ومن بين الرموز الصاعدة بعد الثورة الفرنسية على سبيل المثال، تمّ الاتفاق على تمثال أنثوي لامرأةٍ تُدعى (ماريان)، ووضع صورة من وجهها على شعار الحكومة الرسمي للدولة، والعملة المعدنية لليورو الصادرة في فرنسا والطوابع البريدية الفرنسية ومعظم الوثائق الحكومية، إضافة إلى نصبه في العديد من الأماكن، محتلاً موقع الشرف في البلديات والمحاكم، ومبنى مجلس الشيوخ الفرنسي، وفي الساحات العامّة وغيرها. 

وتشير هذه الرمزية إلى انتصار الجمهورية وقيم الحرية والديمقراطية ضدّ كلّ أشكال الديكتاتورية(23). 

على صعيد الذاكرة العراقية، يشير (اريك ديفيس)(24) إلى حدوث ثلاثة منعطفات في علاقة الدولة العراقية بالمجتمع خلال المدّة الواقعة بين العام 1946 والعام 1958، أوّلها اهتزاز شرعية الحكم الملكي تحت تأثير الحركة الوطنية بعد وثبة كانون وانتفاضة 1952 وقيام حلف بغداد في العام 1955 الأمر الذي مهّد لصعود العسكرتارية في عام 1958م. 

وثانيها، زيادة قوّة الأطراف المتشدّدة أيديولوجياً متمثّلةً بالحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي أخيراً، وتعزيز وجود الذاكرة التاريخية من خلال جهود الفنانين والمثقفين لإثارة الجدل بشأن التراث في المجتمع العراقي، فقد شكّلت المخرجات الثقافية لبدر شاكر السياب، والملائكة، والبياتي، وسعدي يوسف، وفائق حسن، وجواد سليم، وعبدالفتاح إبراهيم، وإبراهيم كبة، مصادر رئيسةً لبناء أُمّةٍ سياسيةٍ ومجتمعٍ جديدين، مع جمود السياسة الثقافية للدولة الملكية وقصر نظرها وعمق الفجوة التي تفصلها عن خطاب العراق الثقافي.

 وقد سعت النخبة الثقافية في ذلك الوقت الحاسم من تأسيس الذاكرة بتقصي التراث العربي للعراق فضلاً عن استلهام التراث الرافديني للأزمنة السابقة للإسلام بهدف بلورة صيغةٍ لذاكرةٍ عراقيةٍ تتّسم بوحدةٍ مجتمعيةٍ متعدّدة الثقافات. لم تأتِ جهود النُّخبة الثقافية هذه عن فراغ، بل بسبب القواعد التي تأسّست تدريجياً منذ انطلاق مسيرة الدولة العراقية، متجليةً بنشوء أحزابٍ وحركاتٍ سياسيةٍ، مثل حزب النهضة العراقية، والحزب الوطني الديموقراطي، وحزب الشعب، وجماعة الأهالي.

 وقد ساهمت الأحزاب الناشئة في وضع اللبنات الأساسية لذاكرةٍ عراقيةٍ جمعيةٍ، حيث قاد الحزبان (الوطني العراقي والنهضة العراقية) بعد أيامٍ من تشكيلهما مظاهرةً أمام القصر الملكي طالبا فيها بتشكيل حكومةٍ تمثيليةٍ تكون مسؤولةً أمام مجلسٍ تشريعيٍّ، وتقوم بإنهاء التدخلات البريطانية(25). 

وكان للتجمّعات المهنية دورها الفاعل في صناعة الهوية الوطنية، مثل جمعية أصحاب الصنائع التي ساهمت في تنظيم الإضرابات العامّة في بغداد، كالإضراب الكبير عام 1931 الذي حصل على إثر الأزمة الاقتصادية العالمية وفرض قانون الرسوم البلدية. فضلاً عن تطوّر التعليم العالي، وبروز المنظمات الطلابية والنوادي السياسية وانتعاش الصحافة كوسيلةٍ لنقل وجهات نظر الأحزاب السياسية مقابل وجهة النظر الحكومية.

 وتوسّعت الصحافة ولعبت دوراً جوهرياً في تغيير رؤى الطبقات المتعلّمة من الشعب بعيداً عن التقبّل الساذج للحكم المطلق ومفاهيم الواجب السياسي والديني.

 وقد تجاوزت المجموعات الوطنية العراقية في حراكها الحدود الطائفية والإثنية والقومية للمجتمع العراقي، في وقتٍ كان فيه القوميون العروبيون يركّزون على النقاء الإثني، وظهر ذلك في أفكار ساطع الحصري ومذكرات صلاح الدين الصباغ(26). 

وفي مجال الذاكرة الرسمية للدولة، فقد سعى النظام الملكي خلال المدة من 1921 إلى 1958 إلى تعزيز الثقافة المؤسّساتية، حيث كانت المديرية العامّة للدعاية، على سبيل المثال، تنفّذ نشاطاتٍ متعدّدةً في وزارة الداخلية، وتأسيس مجلة الجيش لنشر فضائل القوات المسلحة ودورها في الدفاع والتنمية الاجتماعية، وقامت الحكومة بتعديل قوانين العمل والسماح للعمال في التنظيم في إطار محاولة امتصاص الحركة الوطنية والتي كانت تشكّل تهديداً ملحوظاً للواقع الجديد(27).

 وعلى الرغم من أثر هذا الحراك في نموّ النزعة الوطنية، إلّا أنّه لم يرقَ إلى مستوى بناء هويةٍ وطنيةٍ جامعةٍ لمكوّنات الشعب كلّها، وأصبحت محاولات فرض هوية قومية عقبةً أمام مسيرة الهوية الوطنية العراقية.

 وقد اتّجه النظام الجمهوري الجديد بعد ثورة تموز 1958 إلى مأسسة الإنتاج الثقافي وتوظيف الماضي لأهدافٍ سياسيةٍ، وتوجيه الدولة لاستقطاب المثقفين من خلال إنشاء وزارة الإرشاد التي وسّعت نشاطاتها لتشمل شبكةً واسعةً للتلفزيون والإذاعة ومديرية جديدة للتراث الشعبي. وكانت المساعي الثقافية للنظام الجديد تصبّ في إطار مواجهة التحدّيات الداخلية والخارجية المتتالية والمتمثّلة بالعناصر المعادية في الجيش وسياسات الجمهورية العربية المتحدة حينها ومؤيديها الناصريين في العراق، وتهديدات عبدالسلام عارف، وانتفاضة الموصل القومية العروبية، ومحاولة قوى بعثية اغتيال (عبدالكريم قاسم)، وسعي النظام حينها إلى التأكيد على تراث العراق ما قبل العربي والإسلامي من خلال اختيار الشمس البابلية لعلم الثورة، واستعمال التصاميم الرافدينية القديمة لرمزها الرسمي، والابتعاد عن الرمزيات القومية العروبية بألوانها الثلاثة: الأحمر والأخضر والأسود وإشارة (النسر)، وتوظيف التراث الشعبي لتجسير الهوّة الإثنية بين الشيعة والسنة العرب والأكراد، والتأكيد على المشتركات الثقافية كالعادات والطقوس والرياضة والأنشطة الترفيهية، وبات بإمكان الأكراد وفقاً لتلك الذاكرة التاريخية الجديدة أن يكونوا أكثر صلةً بالعراق الذي يرمز بحضاراته القديمة أكثر ممّا يتمثل بأيديولوجية قومية عروبية (28). وكمثالٍ للتلاعب الصارخ بالذاكرة، فقد تعرّض المفكّر (عزيز السيد جاسم) إلى اعتقالاتٍ في عهد النظام السابق، وانتهت بإعدامه في عام 1991 بسبب رفضه الكتابة عن جدلية العلاقة بين (صدام حسين) و(حمورابي)، فضلاً عن نشره (كتاب علي سلطة الحق) على الرغم من تحفّظ رقابة النظام عليه. وقد قام النظام حينها بإتلاف جميع النسخ الموجودة في المكتبات وتحريف الأفكار الواردة فيه وإعادة طبعه ونشره من جديد بعد إعدام الكاتب (29). 

وقد ورد في تقرير دائرة الإعلام الداخلي لوزارة الإعلام (تاريخ 11 شباط 1988)، جملة اعتراضات من بينها ( فقرة 8 عند التطرق إلى الخوارج من كونهم الأب الشرعي لكلّ "إرهاب ديني سياسي في الإسلام" وكان يتضمن الطرح أيضاً الإشارة إلى "الخمينية خوارج العصر ص113 وفقرة 9، حذف الروايات غير الموضوعية والمعادية، والتي تسيء إلى ابن عباس ومعاوية كما في الصفحات 80-98) (30).

الذاكرة الإرغامية:

لا بدّ من الإشارة إلى خطورة السرديات والرمزيات المفروضة على الجماعات من قبل القوة المنتصرة لتشكيل (ذاكرةٍ إرغاميةٍ)، تدفع الجماعات إلى الانكماش داخل مجالاتها الخاصّة وبلورة ثقافة تذمّر، تعزّز مشاعر الاغتراب. 

وتعدّ هذه الحالة من تجلّيات الأنظمة الشمولية أو الأنظمة الديموقراطية الناقصة، التي لا تحظى فيها النخبة السياسية بالإجماع الوطني. 

عندما تكون النخبة ممثلةً للإرادة الشعبية، فإنَّها ستكون ملزمةً أخلاقياً ومؤسساتياً في البحث عن ذاكرةٍ جمعيةٍ (وطنية)، بما تتضمّنه تلك الذاكرة من سردياتٍ ورمزياتٍ معززّةٍ للهوية الوطنية ومحافظةٍ على الهويات الفرعية بهيئة روافد أساسية، وليس بهيئة كيانات متنازعة ومنازعة لهوية الدولة. 

وبصورةٍ أدق، يمكننا تعريف الذاكرة الإرغامية بأنّها تلك الذاكرة التي تشمل جميع الرمزيات المفروضة من جهة معيّنة (جماعة أو نظام سياسي أو فرد) على جماعةٍ أو جماعاتٍ أُخرى.

 وتتمثّل تلك الرمزيات بالرسوم والصور والأفلام والأغاني والأشعار وغيرها التي تحتل الفضاء العام وتمارس اغتصاباً لوعي الأطراف المستهدفة بعملية (الإرغام).

 وهناك خطورة أُخرى تتعلّق بالتاريخ المتداول بعيداً عن الذاكرة، حين يسرد هذا التاريخ أحداثه بما فيها من عنفٍ وبطولاتٍ ونجاحاتٍ وانكساراتٍ وتحولاتٍ سياسيةٍ دون الكشف عن مآسي الشعوب التي عاشت تلك التجارب ولا آثارها التي انتقلت من جيل إلى آخر وساهمت في صنع الهويات وصراعاتها اللاحقة. 

وتقع مسؤولية الذاكرة ووسائل توريثها للأجيال عادةً في صلب اهتمامات مراكز البحث العلمي وجامعات الدولة ومؤسّساتها الثقافية. واستناداً إلى ذلك، لا يمكن للتاريخ الذي يسرد عهود (صدام) أو (القذافي) أو (ستالين) أو (حروب نابليون) وغيرها الولوج إلى أعماق الجماعات البشرية التي عاشت تلك العهود ليبعث لنا صوراً عن ضحايا قُتلوا أو هُجّروا أو اغتيلوا، أو عُذبوا أو سُجنوا، أو تمّت ملاحقتهم، أو تعرّضوا للإهانة وغير ذلك.

 في رواية (رحلة في أقاصي الليل) يبيّن الكاتب الفرنسي (سيلسن) أهميةَ الذاكرة من خلال حوار البطل مع حبيبته حول جدوى الحرب، عندما كان متطوّعاً في صفوف الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية: 

  • أنا أرفض الحرب، أرفض كلّ ما في داخلها، أنا لا أشتكي منها، ولست خاضعاً مستسلماً.
  • ولكن من المستحيل رفض الحرب، يافرنارد، ليس هناك سوى المجانين والجبناء من يرفضون الحرب، حينما يكون الوطن في خطر.
  • إذن، فليعش المجانين والجبناء أو بالأحرى لينجُ من الموت المجانين والجبناء.. هل تذكرين اسماً واحداً مثلاً، يا لولا اسماً واحداً من اسماء أولئك الجنود الذين قُتلوا خلال حرب المائة عام؟.. إنّهم مجهولون تماماً بالنسبة إليك .. لا شأن لهم أبداً.. مجهولون أكثر من آخر ذرة من ذرات ثقالة الورق هذه التي أمامنا.. لاحظي جيّداً إنّهم ماتوا بلا ثمنٍ يا لولا بلا أيّ ثمنٍ على الإطلاق، هؤلاء الأغبياء.. أُراهنك بأنّ هذه الحرب التي تبدو لنا اليوم في غاية الأهمّية ستكون بعد عشرة آلاف سنة نسياً منسياً لا يكاد يذكرها سوى دزينة من المتبحرين يتخاصمون هنا وهناك حول سبب نشوبها وحول تواريخ مجازرها الرئيسية التي اشتهرت بها..(31).

وحين لا تكون مهمّة التاريخ الذهاب أبعد عن الروايات المعرفية للأحداث، يصبح التوثيق وإعادة صياغة الأحداث بما يناسب المشاعر والحقوق، والاعتراف بالماضي وتهدئة النفوس في سياق بناء الذاكرة أو ( ترميمها)، بما يسمى بـ(عمل العزاء) أو كما عرفه (ريكور) في تعبير (واجب الذاكرة)(32). 

وقد طغت سرديات العهد الماضي في العراق واستعاراته التاريخية ورمزياته على الحيز العام تحت تأثير القوة القاهرة، معززة لهويةٍ عروبيةٍ بنسقٍ (قبلي/ أسري)، وأجبرت التنوّعات العراقية على الاصطفاف حول (ذاكرة إرغامية) غاشمة، والانكماش على ذاتها في الوقت نفسه. ولا تكتفي القوة المهيمنة بقهر الهويات الفرعية بطريقة (الإرغام)، بل تتعدّى ذلك بزرع حالة الارتياب داخل الهويات الفرعية الموالية لها، في تأكيدٍ صارخٍ لخطورة الثقافة الشمولية على جميع مكوّنات المجتمع.

 وفي هدا الشأن، كتب (وائل عصام)(33) ملاحظاته خلال الأيام الأُولى لسقوط النظام: (وقد أمكن لي ملاحظة احتفاظ حتّى البعثيين بتأثير هوياتهم الفرعية من الأسبوع الأول لسقوط بغداد، عندما بحثت عن الدكتور المرحوم المفكر إلياس فرح عضو القيادة القومية فوجدته مختبئاً في كنيسةٍ خوفاً من الميليشيات الشيعية، التي أخذت تبحث عن البعثيين لقتلهم، ولم يحظَ بحماية أي مقرٍّ أو فرقةٍ حزبيةٍ بعثيةٍ، بينما لم يستطع عزت إبراهيم رفيقه في الحزب الحفاظ على نفسه إلا بالاختباء في تكية نقشبندية بحماية أنصاره الصوفية…). 

لقد ركّزت المؤسّسات الثقافية جهودها خلال العهد الماضي على بناء ذاكرةٍ تدور حول رمزية (صدام)، ونشرت العديد من الكتب والمقالات، ونصبت الجداريات العملاقة في الشوارع ومداخل المدن وواجهات البنايات، وشجّعت المطربين على تقديم المزيد من أغاني المديح، ووظّفت أقلام صحفيين وأكاديميين لتمجيد عبقرية القائد. 

وفي سياق أمثلة الإرغام، أسهب أحد أساتذة الأدب في جامعة بغداد بوصف عبقرية (صدام) مشيراً إلى أنّها تشمل نواحي حياة الأفراد في مجتمعاتهم وأوطانهم كلّها، بل البشرية ككلّ من خلال معالجاته وقيمه وممارساته وشروحاته وكتاباته وكلامه وردوده والتي هي علامات العبقرية!! وفي بغداد رُسمت جداريةٌ كبيرةٌ تصوّر الرئيس العراقي يشبك يديه مع الملك البابلي الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد نبوخذ نصر(34). 

وشبّه صدام نفسه بالقائد (صلاح الدين الأيوبي)، في وقتٍ كان ينظر فيه الأكراد القوميون إلى هذا القائد كمسلمٍ وليس كردياً، وتدرجه الثقافة الشيعية السياسية مع رموز آخرين مثل (هارون الرشيد) و(معاوية) و(أبو جعفر المنصور) في قائمة «الطغاة» في سياق مفهوم المظلومية المتداول، وأطلق في عام ١٩٨٧ مشروعاً لإعادة إعمار مدينة بابل الأثرية، وطمس معالم المدينة بعملية تشويه بعض الأبنية الأثرية بعد أن أمر (صدام) بوضع أحجار بناءٍ تحمل اسمه داخل الجدران القديمة. وكنتيجةٍ طبيعيةٍ لحالة "الإرغام" التي وقع تحت تأثيرها الشعب خلال ذلك العهد وغياب الإجماع الوطني حول هذا النوع من الذاكرة، فإنَّها انهارت بسرعةٍ، واختفت تعبيراتها ورمزياتها المتمركزة حول (صدام حسين) بأشكالها المختلفة في اليوم الأول لسقوط النظام. 

وإن لم تكن خطوة القوات الأميركية بتحطيم نصب (صدام حسين) وإسقاطه أرضاً بريئةً في يوم 9 نيسان 2003، فإنَّ مشهد هرولة المواطنين وراء رأس النصب المسحول على الأرض ومحاولة ضربه بالأحذية يشير إلى الآثار السلبية التي تخلّفها "الذاكرة الإرغامية" في نفوس الجماعات.

 وفي هذا السياق، رأى الفنان (شاكر خالد) الذي اختصّ بجداريات صدام، أعماله تُزال أو تُرمى بالرصاص أو تُرسم فوقها صور رموزٍ دينيةٍ في المدّة التي تلت السقوط إيذاناً بذاكرةٍ جديدةٍ (تحوّلت هي الأخرى إلى إرغاميه مع مرور الزمن)، وهو ما دفعه إلى الانزواء بعيداً عن المشهد، كما تعرّض كثيرٌ من الكتّاب والفنانين المساهمين في صناعة الذاكرة إلى أعمال عنفٍ، كما حدث مع المطرب (داود القيسي) الذي اشتهر بأغانيه التي تمجّد صدام ومات مقتولا في الأسابيع الأولى التي تلت تغيير النظام. ولم تعمل الحكومات المتتالية بعد ٢٠٠٣ على إدراج ذاكرة العهد الماضي في إطار مشروع مصالحةٍ حقيقيةٍ وعدالةٍ انتقاليةٍ، ولا بناء ذاكرة جمعية ينهل منها المواطنون العراقيون على اختلاف تنوّعاتهم.

 وفي غياب ذلك، تمدّدت الهويات الفرعية على حساب هوية الدولة، وتدافعت سردياتها ورمزياتها (حسب الحجوم ودرجات القوة) في الحيز العام، مسبّبةً انقساماتٍ حادّةً للذاكرة. بدلاً من بناء ذاكرةٍ جمعيةٍ وطنيةٍ تتداخل فيها الرمزيات المتنوّعة وتتفاعل داخل الحيز العام، شهد المجتمع تركيزاً للذاكرات الممثّلة للهويات.

 في مقالة حول أحداث زيارة الأربعينية عام ١٩٧٧ أشار المؤرخ (جعفر الحسيني) إلى إحدى ثغرات الذاكرة الوطنية العراقية(35)، مبيناً عدم إلتفات حكومات العهد الحالي إلى شخصياتٍ عراقيةٍ سنّيةٍ كانت فاعلةً في المشهد السياسي أثناء عهد (صدام)، ولكنها عارضت سياساته الفاشية ضدّ الشيعة، ودفعت ثمن مواقفها بالموت أو الخسارات المهنية والاجتماعية، مثل وزير الصحة السابق (عزت مصطفى)، ووزير الصناعة السابق (فليح الجاسم)، (... شكّل النظام محكمةً خاصّةً برئاسة الدكتور عزت مصطفى وزير العمل والشؤون الاجتماعية وعضوية فليح حسن الجاسم وزير الدولة وحسن العامري وزير التجارة. 

وما أن تمّ الإعلان عن تشكيل المحكمة، غادر الدكتور عزت إلى مدينته عانة، وفليح إلى مدينته المقدادية، ولم يحضرا المحاكمة، والتي اقتصرت على إحضار بعض المتّهمين، بينما قُتل آخرون تحت التعذيب، حيث قام العامري بإلقاء قرار الحكم – والذي جاءه من فوق – وقد تضمّن الحكم على ثمانية بالإعدام، بينهم شاب سوري، وعلى ١٢ شخصاً بالسجن المؤبد، ومنهم (السيد محمّد باقر الحكيم)، وكانت صحيفة (الثورة) قد نشرت تصريحاً لمصدرٍ مسؤولٍ بإطلاق سراح الآخرين – والذين كان عددهم قد تجاوز العشرة آلاف). 

وبعد أيامٍ من ذلك، أُعفي عزّت مصطفى وفليح الجاسم من جميع مناصبهم الحزبية والرسمية، وعُيّن الأول طبيباً في ناحية الشرقاط بالموصل، ولم يُسمح له بدخول بغداد، والثاني معلّماً بتكريت ولم يُسمح له باصطحاب عائلته إلى هناك إلا بعد عامين من ذلك، ويُقال: إن (صدام) في إحدى زياراته لتكريت وقد صادف الجاسم – في إحدى الفواتح – فطلب منه العودة للحزب، ولكن الجاسم رفض ذلك، فتمّ اغتياله في ٩ / ٨ / ١٩٨٢، وعمره ٤٢ سنة، وقد كتب عنه رفيقه في المنفى بتكريت، القيادي بحزب الدعوة (طالب الحسن) كتاباً مهمّاً، وظلّ عزت مصطفى على قيد الحياة، وغادر العراق عام ٢٠١١ إلى ماليزيا، حيث توفّي هناك في ٢٣ / ٨ / ٢٠١٤ ودُفن ببغداد وطبعاً بدون أيّ حضورٍ أو اهتمامٍ رسميٍّ.

 وممّا يؤسف له أنّه لم يجرِ للرجلين أيّ تكريمٍ، رغم موقفهما النبيل والشجاع، وتضحيتهما بمناصبهما بل وحياتهما، والأنكى من ذلك، أنّ قائمةً للاجتثاث وحجز الأموال المنقولة وغير المنقولة، ضمّت اسميهما إلى جانب ناظم گزار وغيره من المجرمين.. ويا للعار والتفاهة وفقدان الإنصاف والعدالة واحتكار الوطن والدولة..). 

وفي ظل فساد الإدارات المتتالية وضعف التنمية وغياب التثقيف حول ذاكرة العهد الماضي والذاكرة الجامعة، وجدت الأجيال الجديدة المحتجّة على مساوئ العهد الحالي نفسها في ضياعٍ كبيرٍ، والتفافٍ عفوي حول بقايا ذاكرةٍ مشتّتةٍ.

الذاكرة الجمعية وإعادة بناء المجتمعات والدول: 

ربطت نظرية الذاكرة الجمعية لعالم الاجتماع (موريس هالبفكس) بين عملية التذكّر الفردية والإطار الاجتماعي الذي تحدث فيه، في وقتٍ كان يعتبر فيه المجتمع العلمي الذاكرة وعملية التذكّر الفردية وظيفةً بيولوجيةً محضةً، وعدَّ (هالبواكس) أنّ البيئة الاجتماعية المنتجة للثقافة هي التي تحدّد النسق الجمعي المساعد على جعل الأحداث الفردية قابلةً للتذكّر والتفسير(36).

 يتألف المجتمع البشري من مجموعاتٍ اجتماعيةٍ مختلفةٍ، تمتلك كلّ واحدةٍ منها مخزونها الخاص من الذاكرة والمعرفة الذي ينهل منهما الأفراد. 

ويعد (هالبفكس) الذاكرة المشتركة لجماعةٍ بشريةٍ معيّنةٍ، شرطاً أساسياً لوجود الجماعة، حين تؤسّس هويتها من خلال عملية (التذكّر). 

وبهذه الصورة تنبثق الهوية الجماعية كنتيجةٍ للتفسير المشترك للماضي الخاص بهذه الجماعة. 

وبعبارة أُخرى تتشكّل الهوية (المافوق) فردية عند الاستدعاء المشترك لماضي تلك المجموعة الاجتماعية(37). 

واستناداً إلى ذلك، يمكن أن تعدَّ الذاكرة الجمعية هي محصلة الذاكرات الجماعية في مجتمعٍ بشريٍّ ما، وهي التي تفرز (هوية) المجتمع وضمان سيرورتها. ولابد هنا من التمييز بين مفهوم الذاكرة الجماعية، ومفهوم الذاكرة الجمعية حسب نظرية (هالبواكس)، حيث تختصّ الذاكرة الجماعية بجماعةٍ وحيدةٍ معيّنةٍ داخل مجتمعٍ ما، على خلاف الذاكرة الجمعية التي تكون مشتركةً بين مختلف الجماعات المكوّنة للمجتمع. 

وبشكلٍ عامٍّ، تميّز الأحداث وطريقة تذكرها لدى الشعوب طبيعة الذاكرة الجمعية لتلك الشعوب.

 فالأمريكيون يتذكرون أحداث (الحادي عشر من سبتمبر) و(حرب فيتنام) وانسحابهم السريع من أفغانستان وغزو العراق، ويتذكّر الفرنسيون أحداث الثورة الفرنسية وحرب الجزائر، ولا ينسى العرب هزيمة سنة (67)، ويردّد العراقيون ذاكرات ثورة العشرين وغزو الكويت وأحداث الفرهود في عام 1941، وسقوط صدام وسقوط مدن غربية وشمالية بيد داعش.

 ويعتبر الجزائريون حرب استقلال بلدهم من فرنسا جزءاً هامّاً من هويتهم الوطنية، وإن حرباً أخرى قد اندلعت بعد الاستقلال تخصّ حرب الذاكرات، حيث يستعمل كلّ طرف رؤيته للذاكرة من خلال التضخيم أو الاختزال أو النسيان بهدف تأكيد شرعية موقفه وما يترتّب على ذلك من التزامات. 

وعلى مستوياتٍ أدنى، تتذكّر الأُسر تاريخها أو أحداثها أو مهن أجدادها أو أماكن تواجدها. وقد تحدّد تلك الذكريات هويات تلك الأسر داخل المجتمع، كأُسرة الجواهري - على سبيل المثال - التي اكتسبت هويّتها الخاصّة نسبةً إلى كتاب "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام" الذي ألّفه أحد أجداد الأُسرة، وهو الشيخ محمد حسن النجفي، أو أسرة الدباغ نسبة إلى المهنة، أو أسرة بحر العلوم نسبة إلى السيد محمد مهدي بحر العلوم الذي حمل هذا اللقب لأول مرة عام 1772م، بعد أن أُعجب أُستاذه (الميرزا محمد مهدي الأصفهاني) بنباهته وقال له (إنّما أنت بحر العلوم) وغير ذلك(38). 

وكما أنّ التذكّر الجمعي قائمٌ ومطلوبٌ للجماعة، فإنَّ النسيان الجمعي ملازمٌ لعملية التذكّر ومطلوبٌ في كثيرٍ من الأحيان.. الموازنة بين التذكّر المطلوب والنسيان المطلوب هامّةٌ لبناء المجتمعات.

 يقول بول ريكور: (سأبقى قلقاً لوجود كثرةٍ في الذاكرة هنا، وكثرةٍ في النسيان هناك، فيما يتعلّق بتمجيد الذاكرة واستغلالها والنسيان)(39). 

ويسجّل دافيد بريف(40) ملاحظاته السلبية حول الذاكرة الجمعية للمجتمعات الخارجة من الصراعات، وأهمّها تأثّر تلك الذاكرة بعقلية المنتصر. 

ويرى (دافيد رييف) أنّ التذكّر يمثّل عملية بناءٍ اجتماعيٍّ تعتمد سياقاتها على جذور الأزمة والبيئة الثقافية، ويضرب في هذا المجال مثلاً (الحالة الإيرلندية) حين خيّمت ثقافة الذاكرة على أجواء بناء الأُمّة. وفي سياق ما ذهب إليه (آرنيست رينان) حول دور النسيان كعاملٍ أساسٍ من عوامل بناء الأُمّة، يرى (بييف) كذلك بأنّ الذاكرة الجمعية وصناعة الرمزيات يجب أن تلبّيا حاجة الأمن وتتبعا سيرورةً قلقةً خاضعةً لتطوّراتٍ وتفاهماتٍ. 

واستناداً إلى خبرته كمراسل حربٍ في البلقان، يستنتج بأنّ الذاكرة الجمعية التاريخية لم تنتج المصالحة، ولكنّها راكمت مشاعر الكبت التي أدّت فيما بعد إلى نموّ القوميات في أوروبا. وفي الفصل الأخير من كتابه تحت عنوان (ضد التذكّر)، يضرب (بييف) مثلاً (تذكّر أحداث ١١ أيلول) في أميركا، ويناقش في وثيقة الذاكرة العبارة التي تنصّ على (عزم أميركا على الدفاع عن الحريات في العالم) واصفاً ذلك بأنّه إشارةٌ واضحةٌ إلى التوظيف السياسي للذاكرة، وتوجّه السياسة الأميركية نحو أعمالٍ عسكريةٍ. وفي هذا المجال يدعو إلى تحديد عملية التذكّر على مستوى الزمان، واتّباع النهج النقدي من خلال تحرير التذكّر من البعد الروحاني المهيمن للتاريخ والاعتماد على النسيان. 

وحول سؤالٍ عن مدى أهمّية وجود ثقافة ذكرى أوروبية جماعية مشتركة؟ أجاب البروفيسور (هيرفريد مونكلر) أستاذ العلوم السياسية والتاريخ في جامعة هومبولت برلين(41) بأن: «ثقافة تذكّر دمار الحروب تكون ذات جدوى عندما يكون الجميع قد خسروا في نهاية المطاف: الأبناء والآباء، القيم المادية، فرص الحياة. 

وهكذا كان في الحرب بين ألمانيا وفرنسا، حيث كان الهدف هو المصالح والقوة والهيمنة. 

هنا تكون موازين التكاليف والمنافع ضد الحرب، بحيث تشكّل كافة أنواع ثقافة الذكرى مَنجاة من الحرب. إلّا أنّ المسألة تكون مختلفةً تماماً عندما يدور الأمر حول مشاعر الاستياء والغضب والشعور بالحاجة إلى الانتقام، وحول القيم والحقائق المطلقة، مثل تلك المتعلّقة بالدّين. هنا تكون ثقافة الذكرى محرضةً على الحرب؛ لأنّها تذكّرنا بأنّ الفواتير مازالت مفتوحةً.

 حروبٌ مثل تلك التي خاضها الألمان والفرنسيون ضدّ بعضهم البعض، يجب أن تكون من الماضي. 

ولكن هذا لا يسري على "الحروب الجديدة"، التي يكسب منها "نجوم" العنف كثيراً. مثل هذه الحروب تحدث على هامش وأطراف مناطق الرفاه. إلّا أنّها يمكن أن تصل إلى المراكز؛ لهذا فإنَّنا لسنا في منأى عنها. 

ثقافة الذكرى مهمّةٌ ومفيدةٌ، عندما تقود إلى أن لا ننسى تلك المخاطر». وتمثّل عملية إدارة نزاعات الذاكرة ومعالجتها خلال المراحل الانتقالية ركناً أساسياً من أركان عملية بناء المجتمع ومسيرته الديمقراطية؛ بسبب أثرها على السلم المجتمعي، حيث تبيّن التجارب بأنّ الإهمال التلقائي أو المقصود للذاكرة أثناء الأوقات الانتقالية يقود إلى نزاعاتٍ تهدّدُ استقرار المجتمعات، وقد تصل خطورتها إلى العنف. بعد سقوط نظام صدام عام ٢٠٠٣ برز جدلٌ على الساحة العراقية حول الذاكرة التاريخية للعراق ورمزياتها، تعرّض على أثره نصب (أبو جعفر المنصور) في بغداد إلى تخريبٍ، واستمرّ ليشمل قضايا أُخرى كتسمية شارع الرشيد وعلاقة (هارون الرشيد) بمقتل إمام الشيعة السادس (موسى الكاظم) واقتراح تغيير التسمية(42). 

 وكنماذج للجهود المبذولة في مجال مصالحة الذاكرات من قبل النُّخب السياسية خلال الأوقات الانتقالية، نشير إلى مشروع وزير الدفاع الأسباني جوزية لويس رودريغييز زاباتيرو بتنظيم استعراضٍ لمحاربين قدماء من الجيش الجمهوري الأسباني إلى جانب متطوعين قدماء حاربوا مع الجيش النازي ضدّ روسيا، وهي محاولةٌ لترميم الذاكرة من خلال المواءمة بين ذاكرة عهد فرانكو مع ذاكرة العهد الديموقراطي الجديد(43). 

وفي مجال إصلاح الذاكرة المشتركة بين المانيا وفرنسا بعد الحربين الأولى والثانية، تستذكرُ نخبُ البلدين قصّة اللقاء التاريخي بين الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران مع نظيره المستشار الألماني هيلموت كول في عام 1984، حيث جرت العادة أن تحتفل فرنسا سنوياً في السادس من شهر آب بنزول قوّات الحلفاء على أرضها في ساحل النورمندي لبدء عمليات التحرير من الاحتلال الألماني النازي، وقد تجنّب الرئيس الفرنسي ميتيران دعوة المستشار كول في عام ١٩٨٤ لحضور هذه المناسبة؛ لأنّها تذكّر بخسارة ألمانيا التي تمثّل جرحاً وطنياً كامناً في وعي الشعب الألماني. 

ومن أجل صنع مناسبةٍ موازنةٍ لكلا الشعبين من النواحي النفسية والتاريخية ولإصلاح الذاكرة، فكّر المستشار الألماني بتنظيم لقاءٍ مع الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران في موقع معركة فيردان التي حدثت في الحرب العالمية الأُولى عام ١٩١٦ ودامت ٣٠٠ يوماً، وراح ضحيتها حوالي ٣٠٠ قتيل و٤٠٠ فقيد من الجانبين الفرنسي والألماني.

 وخلال لحظات استذكار ضحايا الجانبين وعزف النشيدين الوطنيين تباعاً، بادر الرئيس الفرنسي ميتران بمسك يد نظيره الألماني طيلة فترة الاستذكار. 

وقد بقت منذ ذلك اليوم، صورة لقاء أعداء الأمس وأصدقاء اليوم عالقةً في أذهان شعوب أوروبا، ومؤثّرةً في ترميم ذاكرة الشعبين الموسومة بالحروب والآلام(43). وتعدُّ عمليات محو الذاكرة الجمعية - بسبب الإهمال أو ضعف الوعي أو التخطيط المقصود - من أهمّ ما يميّز المجتمعات التي تعاني من صراعات الهوية. وهو ما يدفع تلك المجتمعات إلى أن تشقّ مسيراتها نحو المستقبل وهي تحمل معها آثار الماضي بلا محاولات للمراجعة وإنتقاء الذاكرات واستخلاص الدروس المفيدة لصنع المستقبل وتوريث كل ذلك إلى الأجيال المتتالية.

 وفي هذه الحالة تتكرّر الأزمات وتتفاقم آثارها لدرجة تصبح مقولة (التاريخ يعيد نفسه) ممثّلةً لمجتمعاتٍ "ناقصة الذاكرة"، وهو ما يفسّر قلق (ريكور) من (قلّة الذاكرة أو طفح الذاكرة). وبهذه الصورة، عاش المجتمع العراقي المدّة التي تلت سقوط نظام صدام، بلا رواياتٍ عن الماضي في إطار ذاكرةٍ علميةٍ منتقاةٍ، ولم تجتهد الجامعات ومراكز الفكر في دراسة الماضي ورموزه وتحديد المساحات المفيدة فيه، أو المعدّة للنسيان من أجل بلورة ذاكرةٍ جامعةٍ تحدّد بوصلة الهوية الوطنية. 

وقد ساهمت الصراعات السياسية للجماعات في العراق، في حفر الخنادق داخل المجتمع، وعزل الجماعات في بيئاتها الداخلية، ورسم صور عن الآخر مستوحاة من طبيعة المصالح الضيّقة للفاعلين السياسيين وليس من مخرجات عمل الدولة. 

وقد ساهمت النُّخب السياسية في تعزيز هذه الثقافة السلبية باتجاهاتٍ ثلاثةٍ، أولها: تركيز الهويات الفرعية من خلال توظيف التراث لصالح السياسات الضيقة، وثانيها: شيطنة الآخر لضمان الهيمنة السياسية، وثالثها: ضخّ التمايزات المكوناتية في جسد الدولة بهيئة المحاصصة، وقد أدّى ذلك إلى استدامة الصراعات حول تموضعات وحجوم وحدود الجماعات داخل المشهد السياسي، واضطلاع كياناتٍ سياسيةٍ نفعيةٍ بمهمّة تمثيل الجماعات وتهميش الهوية الوطنية.

 وضمن ظروف الواقع العراقي الحالية وبغياب دورٍ فاعلٍ للدولة، تُسهم ذاكرة الجماعات في صنع الأحداث والسياسات ورسم معالم المستقبل بدلاً من أن تصنع سياسات الدولة ونخبها الوطنية ذاكرةَ الوطن الجامعة، وترسم استناداً لها ولعوامل إضافية أخرى معالم المستقبل.

 إنّ معالجة هذه الواقع تحتاج إلى مراجعةٍ للثقافة السياسية، وقواعد الحكم، وبناء ذاكرةٍ وطنيةٍ محترمة للتعدّدية.

 ولا يمكن تحقيق ذلك دون رجال دولة يؤمنون بالأجيال القادمة بدلاً من المنافع القادمة.

...................................

المصادر

 (1) هنري بركسون – المعرفة: https://www.marefa.org/  

 (2)La mémoire chez Bergson- Dominique PIGNAT- LES ECHOS DE SAINT-MAURIC Edition numérique pp 230 

(3) الذاكرة والنسيان - الحسن أسويق، منبر هسبريس، الخميس 10 -1-2015.

 (4) مراجعة كتاب الذاكرة الجماعية لموريس هالبفاكس، زهير سوكاح، تبين العدد 9-33 عام 2020.

(5) المصدر نفسه رقم (4) اعلاه.

(6) الذاكرة والعدل، الزواوي بغورة، مؤمنون بلا حدود 2020.

 (7) بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان: ص174، ترجمة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، (ورد في مصدر6) 2009.

 (8) المصدر رقم 7 ص 148.

(9) المصدر رقم 7 ص 148.

(10) المصدر رقم 7 ص 149.

 (11) Gildas Salmon- Comment les sociétés froides se transforment- elles ? reproduction et altération – des systèmes symboliques chez LÉVI-STRAUSS- KLESIS. Revue philosophique : philosophie et sociologie (2) janvier 2008 pp46.

 (12) La Mémoire culturelle. Ecriture، souvenir et imaginaire politique dans les civilisations antiques"، de Jan Assmann : commenter pour transmettre - Maurice Sartre / le monde 07 janvier 2010. 

(13) «Zakhor» : «Souviens-toi» - Haim Nisenbaum https://fr.chabad.org 

(14) Un autre regard - Claude Levi- Strauss. Persée. fr - Homme/année 1993 /126-128 pp 10 

(15) réf 14 

(16) Paul Ricœur، La mémoire، L’histoire، L’oublie، op-cite.،

 p.99 cité par 5. (17) خص ريكور الأيديولوجيا بكتابه الأيديولوجيا والاتوببي ورد في مصدر 7.  L’idéologie et l’utopie، paris seui 1997 

(18) بول ريكور، الذاكرة التاريخ النسيان، مصدر سابق رقم (7) ص 143.

 (19) Amélie Nuq-  Conflits de mémoire et usages (très) politiques de l’histoire : le cas des archives du franquisme -

 Histoire@Politique2016/2 (n° 29)، pages 171 à 189 (20) Elkabbach défend la mémoire de Marchais- la depeche- Publié le 28/02/2015 https://www.ladepeche.fr/article/2015/02/28/2057808-

elkabbach-defend-la-memoire-de-marchais.html (21) حميد هيمة، الذاكرة بين التاريخ الأكاديمي والتأليف المدرسي: ص 72 :  Asinag 14 | 2019

 Transmission culturelle et mutations sociales (22) زهير سوكاح، أماكن الذاكرة، الحوار المتمدن 27-03-2007 . 

(23) Marianne - Elysées -Marianne | Élysée (elysee.fr)

(24) يوسف محسن التلاعب بالذاكرة: السياسة والتأريخ والهوية الجماعية في العراق الحديث عرض لكتاب اريك ديفز- الأحد، 17 يونيو 2020 - مدونة الاستاذ يوسف محسن.

 (25) عضيد داويشه، العراق تاريخ سياسي من الاستقلال إلى الاحتلال، مركز الرافذين للحوار ص 73. 

(26) نفس المصدر 21 ص 76.

 (27) المصدر رقم 24.

 (28) المصدر رقم 24.

 (29) مقابلة مع ولده الأستاذ حيدر عزيز السيد جاسم.

 (30) أرشيف اسرة الأستاذ عزيز السيد جاسم. 

(31) رواية "رحلة في اقاصي الليل – ص 92.

 (32) Travail de mémoire chez paul ricoeur –inflexions 2014 -1 no25، pages 61 - 70 . (33) وائل عصام، «القبيلة السنية».. من صدام حسين إلى البغدادي- القدس ٦ مارس ٢٠١٥- القدس العربي.

 (34) المصدر رقم 25 ص 239.

 (35) جعفر الحسيني، كتابات، أحداث الأربعينية عام ١٩٧٧.

 (36) مفهوم الذاكرة الجمعية عند موريس هالبواكس، زهير كوساح، الحوار المتمدن 1755، 5 ديسمبر 2006. 

(37) نفس المصدر أعلاه رقم 36. 

(38) تاريخ الشيعة، السيد البراقي: ص 60. 

(39) paul RICOEUR / la mémoire، l’histoire ; l’oubli، paris، ed du seuil، 2000 ; p/ 1- Murielle El Hajj (40)

David Rieff ; éloge de l’oubli/ la mémoire collective et ses pièges – OpenEdition Journals-37/2020 Contre l’imperatif de la mémoire

 doit on apprendre a oublier khalid lyamlahy (41) "التعامل بحذر مع النزاعات العرقية والدينية"، تانيا تسيش، هكذا تؤثر الحرب العالمية الأولى حتى اليوم: المتخصص في العلوم السياسية هيرفريد مونكلر يتحدّث عن الدروس والعِبَر التي يمكن استخلاصها من الماضي 08-10-2018: https://www.deutschland.de/ar/topic/syast/drws-alhrb-alalmyt-alawly-hwar-m-hyrfryd-mwnklr (42) شاكر نوري، هل يجب تغيير اسم شارع الرشيد حتى يمكن إصلاحه؟ جريدة العين الاخبارية ٦/٤/٢٠١٩. 

(43) Élodie Richard، Charlotte Vorms- Les historiens pris dans les conflits de mémoire - Dans Vingtième Siècle. Revue d'histoire 2015/3 (N° 127)، pages 3 à 12 Carin.info 

(44) Les Echos- Il y a trente ans، Mitterrand tendait « instinctivement » la main à Kohl-  19 sept.2014                                                    

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن