د. عدنان صبيح ثامر/ باحث متخصص في أنثروبولوجيا الخطاب
تواجه الحركات الاحتجاجية في العراق مصير عدم تكرارها، على المستويين: الأول أدواتها، والآخر جيلها، فلم تتشابه الاحتجاجات في العراق بأزمانها المختلفة، فهي دائماً ما ترتبط بشعارات ورموز مختلفة، بل حتى فواعلها تتغير من احتجاج إلى آخر.
بعد أن كان احتجاج (25) شباط (2011م) رافعاً شعار (إصلاح النظام)، تدعمه في ذلك قوى ثقافية مسيطرة على المشهد الثقافي، وقد تجاوز احتجاج تشرين (2019) تلك الشعارات مصدِّراً شِعَار (إسقاط النظام) بقواعد شعبية تستثمر العاطفة كرصيد للدفاع عن احتجاجهم.
لم تكنِ التوقعات المرتفعة فقط هي السبب لانتهاء جيل كامل، بل إنَّ الجيل في العراق يقوم بحراك واحد ينشد التغيير، وما يحدث دون ذلك فهو مكمل لرؤية أنشأت مرة واحدة، فما أنشأه جيل احتجاجات (2011)، هو الأساس الذي استندت عليه التظاهرات المطلبية والمدعومة حزبياً التي حدثت عام (2015) إلا أنَّها لا تشبهه من ناحية القوة والعدد والتأثير، بل إنَّ جيل (2011) انتظر ثماني سنوات؛ لإعلان وجود جيل جديد مختلف يستعمل أدوات مختلفة؛ عاش في ظروف متغيرة، وله أهداف وطموحات لا تتشابه مع الجيل الذي سبقه ينتج حراكاً مختلفاً مستفيداً من الذي سبقه؛ ليكون متدرجاً بصورة أقوى في احتجاج (2019)، حتى أنَّ جيل (2011) انتظر هو كذلك ثماني سنوات (2003-2011) ليعلن عن نفسه كجيل مختلف له رؤية في النظام السياسي والاجتماعي في العراق.
تتفاوت المقاربات السوسيولوجية في التعامل مع الحركات الاجتماعية، فهي تحمل نماذج مختلفة في التطبيق على المجتمعات، وعند النظر إلى المقاربة التفاعلية في دراسة الحركات الاجتماعية التي تبيِّن على أنَّها مشاريع جماعية؛ لإقامة نظام حياة جديد. في حين تستند النظريات البنيوية على مسلمة (الفرد المنفصل) الميال إلى أن يصبح حراً، وفي الوقت نفسه ميالاً إلى المشاركة في أنواع جديدة من المجموعات الاجتماعية، كالحركات التي تجد في المجتمعات الجماهيرية بيئة حاضنة سهلة، تقوم تلك النظرية على أنَّ الحركات الاجتماعية تبرز عند انعدام التطابق بين القيم المعلنة وممارساتها الفعليَّة، على نحو تعطل عمل المؤسسات والعناصر المختلفة التي تهدِّد بقاء النظام، إذ ينشأ التناقص البنيوي حينما يشعر الأفراد بالتناقض بين توقعاتهن وحاجاتهم.
وتأسيساً على ما تقدَّم، يمكن القول إنَّ الحراك الاجتماعي في العراق يقترب تفسيره مع التوجهات النظرية للبنيوية التي تسبِّب الحراك بالإحباطات الناتجة عن اختلال التوازن بين التوقعات والفعل الاجتماعي.
إذ تُعدُّ احتجاجات (25) شباط (2011) في العراق أول احتجاج للعهد السياسي الجديد المتشكل بعد (2003)، والذي كان عبارة عن إعلان انفصال بين جيلين الأول آمنَ ودافعَ عن النظام السياسيّ، والثاني آمنَ ودافعَ وتوقَّعَ ثُمَّ أُحِبَط؛ لعدم انسجام توقعاته مع الفعل السياسي، فاحتج وأعلن انفصاله عن الجيل الأول.
مثلت المدة الزمنية التي رافقت التوافق بين النظام والجيلين (2003 - 2011) تراكم الإحباطات، سواء أكانت الأحداث الأمنية الكبيرة والحرب الأهلية، فضلاً عن تنامي طرائق المحاصصة، وفتح حلقات فساد في مرافق متعددة، وهي ثمان سنوات، هذه المدة كان بالإمكان حصول على عدد من الأشياء فيها، من أهمها:
1. نضوج الجيل الثاني فكرياً، وقدرته على إعلان ،وجوده، وانفصاله عن الجيل الأول.
2. إعلان انسحابه من الدفاع عن النظام، والتخلي شبه الجزئي عن حيثيات ذلك النظام. 3 الخوف من الدكتاتورية لا يعني التماهي عن أخطاء النظام الجديد. 4. الإعلان عن وجود صوت مختلف من ضمن المدافعين عن النظام يحاول التصحيح.
إنَّ أهم ما يميز بروز ذلك الجيل هو التعريف أنَّ هناك (باردايم) لكل جيل للإعلان عن نفسه، وأن أفراد الجيل الواحد يتشابهون في علاماتهم وعلاقاتها مع النظام السياسي، ولا يمكن أن يكون ذلك حداً فاصلاً؛ لأنَّ فيه ما يستثنيه من المتحزبين والمستفيدين وزبانية النظام فضلاً عن الأفراد اليائسين أو غير الميالين الذين يوجدون في كل الأجيال، إلا أن المعطيات فشرت لنا تلك الوقائع، بأنَّ هناك جيلاً له ملامح بأعماره المتقاربة ووعيه المتشابه.
فجيل احتجاجات (2011) كان متعلماً ،واعياً ومسيطراً على الجانب الثقافي بصورة كبيرة، فهم منتشرون في أماكن فسحها طم التحول الثقافي في العراق، فهم في الأغلب يعملون في مجالات الصحافة والتلفزيون والوسائل الإعلامية والبحثية في العراق، مما مكنتهم تلك السيطرة من رفع أصوالهم، ويكونون متمردين على الإحباطات التي واجهت ذلك النظام، بل إن خروجهم عن النسق العام للسلطة خلق الفجوة الكبيرة بين النظام وبين المجتمع الثقافي، وهم الذين فسحوا المجال المحركات الإصلاحية اللاحقة التي تحدث في العراق، غير أن احتجاجهم وسيطرتهم على الجوانب الثقافية، وضعتهم في توقعات جديدة، أفرزتها تلك المرحلة بإمكانية أن تكون إصلاحات خصوصاً أن مطالباتهم لم تكن تمثيل انحرافاً كبيراً عن النظام السياسي واقتصرت على المطالبات بإصلاح النظام، فالإحباط الآخر الذي رافقهم هو نتيجة عدم تحقق توقعاتهم بإصلاح النظام الذي دافعواعنها في (2011).
أن ثمة ويبدو إحباطين كانا كافيين لإنهاء طموحات جيل كامل، تتحول فيه الطموحات وقق المرحلة العمرية التي ترافقه، فالجيل الثوري في عمر العشرينيات الذي يطمح في العدالة والحرية والديموقراطية، تتغيَّر أهدافه بعد عمر الثلاثينيات والأربعينيات فتصبح له عائلة يخشى عليها وتنحصر رغباته في تحقيق أدناها من عيش ميسور وسكن، وفق متطلبات المرحلة العمرية والثقة المرجوة من الوضع العام.
فقد أنهى جيل احتجاجات (2011) كل توقعاته في احتجاجه الأبرز، وأما خروجه في احتجاجات (2015)، لم يكن مؤثراً إلا في نواحي معينة أراد أن يكون موجوداً فيها.
وعلى ذلك كانت الحركات الاجتماعية في العراق مرهونة بزمنها الأول، الذي ينتظر جيلاً آخر يكمل ما بدأ الجيل السابق بفاصلة زمنية قدرت في البدء بـ(8) سنوات (2003) - 2011)، واستكملت بثمان سنوات أخرى (2011 - 2019)، بوجود جيل جديد يعلن عن
نفسه بثورية مختلفة يريد عن طريقها تجاوز شعار الإصلاح الذي رفعه جيل (2011)، ويرفع شعاراً آخر ينتمي إلى جيل واجه إحباطات أكبر وهو شعار (إسقاط النظام).
احتجاج بشعارات جديدة
بعد تنحي جيل احتجاجات (2011)؛ نتيجة عوامل عديدة، أهمها الإحباط المرافق للتوقعات التي ابتدأت مع النظام السياسي، وانتهت بتوقعات جديدة تمثلت بالمطالبة بالإصلاحات عام (2011) ، ومن ثُمَّ الانزياح العمري الذي لم يسعف المحتجون ليكملوا الطريق الإصلاحي وانشغالاتهم الحياتية المرتبطة بالمراحل العمرية، فأصبح لزاماً أن يتولى الحراك (جيل جديد)، هذا الجيل الجديد يكون مختلفاً عما سبقه إلا أنه يمكن عده امتداداً للجيل السابق الذي بقي مسيطراً على المجتمع الثقافي، والذي وجد في الجيل الجديد بوابة للتنفيس عن طموحاته السابقة، فساير الجيل الجديد، وكان طرف في تشكيل عدد من علاماته الاحتجاجية، من دون استطاعته أن يكون قائداً لذلك الجيل، بل المشكل لأهدافه وتوقعاته، فجيل (2019) جيل المهمشين والأكثر فقراً، والأقل تعليماً، اختار من احتجاجه رموزاً خطابية لقيادته، والتخلّي عن الأشخاص القياديين، وأبعد القيادات الشبابية عن قيادة الاحتجاج، فقد كان الفارق العمري بين الجيلين واحد من الأسباب المهمة في أنَّ محتجي (2019) يرفعون من سقف توقعاتهم كثيراً، ويطالبوا بإسقاط النظام)، فكان ذلك الشعار هو الإعلان عن الانفصال بين الجيلين، وأنَّ الجيل الجديد هو أكثر جرأة وقدرة على تجاوز الحواجز؛ ويتضح ذلك في ارتفاع شعارهم عن شعار الجيل السابق، مع العلم بأن شعار احتجاجات (2011) لم يتحقق منها شيء، ومع ذلك فقد رفعوا سقف توقعاتهم إلى أبعد من ذلك بكثير (إسقاط النظام).
وبذلك حقق محتجو (2019) أكثر مما حقَّق من سبقوهم في (2011)، فباستطاعتهم الضغط على الأحزاب الحاكمة، وإجبارهم على اتخاذ عدد من الإجراءات مثلت استجابة للجماهير المحتجة سواءً في قانون الانتخابات، وتغيير المفوضية، أم إلغاء مجالس المحافظات، والتأثير الأكبر تمثل باستقالة الحكومة، وإجراء انتخابات مبكرة.
غذت والسؤال الأهم هو، هل غدَّت تلك الاستجابات توقعات الجماهير؟ نعم، هي وأنتجت لهم توقعات جديدة بقدرتهم على التغيير، وأوجدوا نتيجة لذلك أسلوباً جديداً من التوقعات تمثل بقدرتهم على المشاركة في القرار السياسي، فتشكل بعضاً منهم في أحزاب جديدة، وتحدث آخرون عن عهد جديد، غير أنهم أغفلوا الإحباط الجديد الناتج عن توقعات عالية غير مدركة الملابسات السياسة في العراق، فاكتفوا في أنهم معارضون، وأنَّ الأحزاب المشكلة لتشرين ستكون بوابة لقوة تلك المعارضة، وبذلك سقطت تلك التوقعات تباعاً، بتلكو الأحزاب التشرينية وتشتتها؛ نتيجة انشقاقات داخلية، وقلة التمويل، وعدم استطاعتهم مواجهة الجمهور المطالب بتحقيق جزء من التوقعات، وأخذت السقوف تنهار تباعاً، وصار الخروج باحتجاج موحد يرهق المطالبين به، واستعادت الأحزاب الحاكمة وجودها عن طريق الحكومة ووجودها فيها، وعلو خطابها، وكان قانون الانتخابات هو آخر ما بقي من تشرين قد أقر بشأن إعادته إلى ما قبل ذلك.
وبالنتيجة لا يمكن القول إن تشرين كاحتجاج فشلت بل حققت نتائج في حينها عُدَّت كبيرة، إلا أنَّ خسارتها تكمن في أنها قتلت جيلاً احتجاجياً كاملاً، ولم ينتج وفق تلك المعطيات جيل تشرين مستقبلاً حركة احتجاجية قوية بأهداف إصلاحية كبرى، وبفقدان ذلك الجيل لا نتوقع ظهور احتجاجات قوية مشابهة أو مساوية لاحتجاجات تشرين (2019) في قوتها واندفاعها وجمهورها وتأييدها وتحقيقها لنتائج إلا بولادة بجيل جديد ننتظره ليخرج ويعلن عن نفسه بحدود عامي .2028 2027
واستناداً إلى ما عرضته الورقة بأبعادها المختلفة يمكن لنا الاستشراف في مصير الحركة الاحتجاجية في العراق، إذ يمكن إيجازها على النحو الآتي:
١. توجد علاقة مباشرة بين المرحلة العمرية أو الفئات الأعلى في زمن الاحتجاج وبين أهداف ذلك الاحتجاج، لذا فمن المتوقع أن يكون محتجو المرحلة المقبلة هم موظفو الدولة؛ لأنهم سيصبحون الفئة الأكبر داخل المجتمع العراقي.
2. لا تنتج الحركة الاحتجاجية في العراق احتجاجاً تغييرياً مؤثراً إلا بعد تشكل جيل كامل من ناحية الوعي بالأهداف والمطالب.
3. المدد الزمنية بين الاحتجاجات المؤثرة في العراق هي ثماني سنوات (2003 - 2011)، (2011 - 2019)، (2019)، ولذا نتوقع أنَّ الاحتجاج القوي المؤثر والذي يحقق التغيير في العراق سيكون في عام (2027).
4 تتفاعل الحركات الاحتجاجية مع الحركات والأجيال السابقة؛ لذا هي تتدرج في الأساليب الاحتجاجية ولا تكرر نفسها، فالتظاهرات المرتبطة بيوم واحد في عام (2011)، تحولت إلى اعتصام في (2019)، والإصلاح في الأولى تحول إلى المطالبة بإسقاط النظام في الثانية؛ وبذلك نتوقع احتجاجاً أقوى قد يصل إلى أن يفقد سلميته في الاحتجاجات المقبلة.
5. ارتفاع سقف المطالبات في الاحتجاجات هي الكفيلة بعدم تكرارها للجيل بأكمله، بعد الإحباط المرافق لعدم تحقيقها، وإخفاق ممثليها في تحقيق الأهداف الكبيرة التي تنشأ داخل ساحات التظاهر.
6. يمارس الجيل الاحتجاجي بعد الشعور بفقدان تأثيره بعدد من الحركات المطلبية كالدفاع عن الحريات في مواجهة قانون معين أو انتصاراً لفئات معينة، يثبت عن طريقها بأنه ما زال موجوداً، وتنتهي بيروز جيل جديد من الاحتجاجات.
7. غالباً ما يفارق الجيل الاحتجاجي الجديد الأجيال التي سبقته، فينتج أهدافاً وأساليب مختلفة وأشد تمرداً، تتبعها شعارات ومطالبات يعلن عن طريقها بروزه كجيل جديد يمثل الاحتجاج.
8. التفكير جدياً بتوافق المطالب الاحتجاجية والشعارات مع إمكانية تحقيقها، وتمثيلها لأكبر قدر ممكن من العراقيين.
9. تحول المحتجين إلى جهة لها هوية خاصة بها، يفقدهم زخم الدعم الشعبي، وينذر بعدم تأثير حراكهم الاحتجاجي المقبل.
ومهما كانت تلك الخسائر فإنَّ بروز أجيال مطلبية جديدة بصورة مستمرة في العراق تعني بأنَّ هذا البلد ينشد التغيير وغير منكفئ على مشكلاته، إذ تكمن الخطورة في أنَّ آمال جيل كامل بالتغيير توضع في قالب حركي واحد، بل إنَّ تلك النتيجة تتطلب انتظاراً طويلاً بالتغيير
المصدر : مركز البيان