واحدة من المشكلات التي وقع فيها النظام الحالي في العراق بعد (2003م) هو عدم التركيز على قضايا الذاكرة، والتي عن طريقها يستطيع مواجهة المشكلات التي يتعرَّض لها النظام بصورة مستمرة، وكذلك يعيد تعزيز الثقة بينه وبين الجمهور.
ويبيِّن (أريك دافيز) -بهذا الصدد- بأنَّ الذاكرة الاجتماعية يمكن أن تصبح أداةً فعَّالةً في ترسانةِ الدولة للسيطرة الاجتماعية، وبعكسِ ذلك، تخاطرُ الدولة بنفسها إذا ما تجاهلت الذاكرة، خصوصاً أثناء نوباتِ التغيُّر الاجتماعي السريع.
يوازي عمل الذاكرة ما تقوم به أجهزة الأمن في الشارع، أو القضاة في دوائر المحاكم، إلا أنَّ الفارق بينهما هو أنَّ تلك الأجهزة تواجه مشكلات حدثت، في حين تعمل سياسات الذاكرة على الوقاية من تلك المشكلات قبل حدوثها.
وإذا كانت الدولة غير قادرة على توجيه سكانها عبر عودتهم إلى الماضي، لا يمكن أن تنتج سياسات ناجحة، والحكومات التي تتواصل مع جمهورها بكلام غير مخطط لها، هي الدول الأكثر عجزاً في صناعة هوية وطنية.
ويمكن تعريف الذاكرة بأنَّها التصورات الاجتماعية التي تشترك بها مجموعات بشرية معينة بصدد أحداث وقعت في الماضي، والتي شكَّلت هويتها ووضعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي المعاصرين.
على أنَّ ثمَّة فرق بين عمل الذاكرة وسياسات الذاكرة وهو العمل المرتبط بالمؤسسات الحكومية أو الاجتماعية لتعزيز لحظات معينة دون غيرها؛ لتفعيلها لصالح المجتمع. فسياسات الذاكرة التي تنتهجها الدول تمنح الأفراد قصصاً وقيماً مشتركة تخدم الوئام والسلم الاجتماعيِّين، وتعيد الترابط بين الدولة وأفرادها.
وتعمل سياسات الذاكرة على إثارة المشاعر، والحث على التحدُّث عن الماضي، إذ إنَّ مراجعة الماضي تدفع الأفراد إلى التوصُّل والقدرة على اتخاذ قرارات فيما لو عادت تلك الأحداث، ويكون ذلك عن طريق شبكة العلاقات المؤسساتيَّة التي تنتجها السلطة، أي: إنَّ السياسات الحكومية تكون مرتبطة برابط شبكي يحمل الآمال نفسها في الذاكرة، ولا يمكن تخطِّي مؤسسة معينة من دون إدراكها المنهجية العامة التي تسير بها الدولة.
لا يمكن لأيِّ نظام سياسي أن يصنع ذاكرته بطريقة اجتهادية، أو فردية، وإنَّما عن طريق تخطيط منظم علمي يراعي الظروف المجتمعية والثقافية للمجتمع، ومتحسِّباً للطوارئ، وللهزات الاجتماعية التي قد تؤثِّر على محو تلك الذاكرة.
وتأسيساً على تلك الرؤية فإنَّ إغفال النظام الحالي في العراق هو التوجُّه نحو الذاكرة أوقعها في عدد من المشكلات، وإحدى تلك المشكلات هي فقدانها لخطاب واضح مقنع للجمهور، خصوصاً في الأوقات التي مرَّ بها البلد وكانت أكثر الأوقات حرجاً، مثل: سيطرة عصابات داعش على أراضي واسعة من العراق، تقابل ذلك بصمت حكومي في تشجيع أهالي المناطق المحتلة إلى أنَّ تدافع عن أرضها ونظامها السياسي؛ لأنَّ الصمت كان سببه هو عدم الارتباط المؤسسي بين النظام والمواطنين والذي يتجلى بوضوح عن طريق سياسات الذاكرة، وقد تكرَّر الأمر في احتجاجات تشرين (2019م) والتي كان فيها المحتجون يملكون خطاباً يعلو خطاب الدولة، وللسبب نفسه كان هناك صمت مؤسساتي للتخاطب مع الجمهور.
تلك أهم المشكلات التي رافقت النظام السياسي في العراق، وتجعلنا نفكر جدياً بضرورة أن تكون هناك مؤسسة تختص بقضايا الذاكرة في العراق، وتسعى إلى جعل الذاكرة الجمعية للمواطنين أكثر تنظيماً، وموحدة للمواطنين في هويات مشتركة، جاعلة من التقارب بين النظام والمواطنين وسيلة فعالة لمواجهة مشكلات التغير الاجتماعي، والاحباطات المرافقة لأي تغيير.
إذ تعتمد الدول على إنتاج ذاكرة تاريخية مرتبطة بحقب قديمة، لتكون موحدة لشعوبنا، وتعتمد الدول الحديثة على ذاكرة مشتركة مع الشعب تكون في العادة قريبة، متفق على أركانها، يتشارك في إنتاجها النظام والنخب الثقافية ومنظمات المجتمع المدني المتخصصة بقضايا الذاكرة.
وعلى ذلك يمتلك العراق الذاكرتين التاريخية والمتمثلة بحضاراته وتراثه الديني والوطني، فضلاً عن حقبه التاريخية التي مثلت ازدهار العراق وتحوله إلى قبلة للعالم، فمن الممكن أن تكون معززة للهوية الاجتماعية الممثلة الأغلب العراقيون، والذاكرة الحديثة برموزها وعناوينها فضلاً عن قصصها التي من الممكن إعادة تبنيها مؤسساتياً؛ لتكون فعالة في منع العنف، والاقتتال الداخلي من جهة، وتعيد الترابط بين المؤسسات المجتمعية والمواطنين من جهة أخرى.
تعباً تلك الذاكرة عن طريق المؤسسات التربوية والتعليمية مثلاً، فالنزاع الاجتماعي الذي عاشه العراق في أعوام (2005م) و (2006م)، إذ يجب أن تعمل المؤسسات التربوية على تحويله إلى درس لتعلم تقنيات نزع العنف، وتحويل المجتمع إلى مجتمع سلمي، عن طريق عدد من البرامج سواة الكشفية منها التي تزيد التواصل بين أبناء المناطق المختلفة مذهبياً أو قومياً، ولتعرف كل فرد منهم بحقيقة الآخر، ومسح الصورة النمطية المرسومة التي سببت العنف السابق، أو عن طريق المناهج التي تذكر بتلك المرحلة ومأساتها لتحدث تمرداً عليها من قبل الطلبة مما يمنعهم من المشاركة فيها إن عادت.
ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا عن طريق منهجية واضحة للدولة تسير في خط واحد مستمر غير قابل للتبدل، ترعاه مؤسسة متخصصة تفرع تطبيق منهجها على المؤسسات التربوية والثقافية والاجتماعية، فإن المؤسسات الخاصة بالذاكرة اكتشفت أن بطولات كرة القدم المحلية هي وسيلة تواصل مجدية بين المناطق التي تشهد احتقاناً اجتماعياً، فيكون التنافس الرياضي وسيلة لتفريغ ذلك الاحتقان، وللتواصل الجديد بين أفراد تلك المناطق، وسيكون أولئك الشباب، أو الأطفال في المدارس نموذجاً يصحح أفكار آبائهم المسبقة التي رسمتها السياسة والحروب الداخلية.
أما الحرب على داعش والتي كانت أهم حرب خاضها العراقيون للدفاع عن بلدهم باتفاق فلا أعتقد أنها تحولت إلى دروس يمكن الاستفادة منها، أو لم تتحول إلى لحظة مهمة لتذكير العراقيين بهوية جامعة دافعوا جميعاً لها؛ والسبب في ذلك أنها بقيت حبيسة التفاعلات الاجتماعية اللأفراد الأكثر وعياً داخل المجتمع، وربما ستأتي أجيال أخرى ولا تتذكر تلك اللحظة، خصوصاً عمليات التشويش التي تحدث أثناء النقل حتى إن كانت النوايا سليمة، في حين لو كان هناك مؤسسة متخصصة بالذاكرة فإنها تعمل على كتابة نموذج واضح يهتم برسم سياسة الدولة تجاه هكذا أحداث تضمن استمرارها بمعانيها
السليمة عن طريق النصب التذكارية والمتاحف، والمناهج التربوية، والبرامج الثقافية والكتب والقصص التي تسير جميعها في خط رسمته مؤسسات الذاكرة يكون رأيها في هذا المجال ملزماً للمؤسسات الأخرى، بل حتى المحاكم وجلسات التحقيق القضائية الخاصة بالأحداث الكبرى يكون عرضها جزءاً من مخطط عام لتلك المؤسسات لتكون ذاكرة اجتماعية لا يمكن زحزحتها، تمنع تكرارها وتدفع جميع المواطنين إلى الحذر من مستقبل يشبهها؟ لأن الماضي الذي ننساه محكوم عليه بالتكرار.
فواحدة من الإسهامات التي تجعل العمل في الذاكرة فعلاً بطريقة جيدة، وينال أصداء في العلوم الاجتماعية هو تبنيه من قبل مؤسسات معينة، تعمل تلك المؤسسات على إنتاج شبكة من البرامج والخطوط المنهجية حتى لا تقع في فخ التناقضات، وتشترك في تلك الشبكة عدد من المؤسسات المعنية سواء كانت المتصلة منها بالطفل أم بالمراهق، أم بالشباب، أم بالمرأة.
إذ تعمل المناهج التربوية عملاً موازياً لما تقوم به المتاحف وما تقوم به إصدارات وزارة الثقافة، يوازي النصب التذكارية، في حين تنتج الدولة أعياداً وطنية تسير في ذات النهج الذي خطته لاستعادة الماضي.
ويوجد جانب مهم يغفل عنه أصحاب القرار في العراق، هو الثبات على أعداء وأصدقاء معينين، فإنَّ المتخصصين في قضايا الذاكرة وتعزيزها اكتشفوا حديثاً أن الدول التي تتخذ أعداء كتوين يكون أفرادها محبطين غير والقرين من قدرتهم بصورة كبروة؛ ويعود ذلك الإحباط من الشعور بعدم القدرة على مواجهة هؤلاء الأعداء الكثيرين، مما أدى إلى تحول في سياسات كثير من الدول الحديثة وغيرت من مفاهيمها تجاه أعدائها، وحددت عدداً معيناً، وما عداه وإن اختلفوا معهم في السياسة أحيانا إلا انهم ليسوا أعداء.
في العراق بعد (2003م) بسبب الظروف والسياقات الجديدة فرضت عليه أعداء على المستوى الدولي، ولعدم وجود مؤسسات متخصصة تحدّد الأعداء فإنَّ الظروف المختلفة تنتج أعداء جدد فضلاً عن الأعداء السابقين، ويوجد أسباب أخرى متعلقة باختلاف الأيدولوجيات الحزبية والتي جعلت كل حزب يفترض جهة معينة بأنها عدوة للعراق، فإنَّ المواطنين في مقابل ذلك يعانون من ضغط كبير وضيق حلقة الوصل مع الآخرين بسبب الأعداء الكثر، في حين من المفترض أن ترتبط تلك القضية بمؤسسات الذاكرة المرتبطة بالسلطة، والتي تحدد بواسطتها الأعداء عن طريق معرفة توجهات النظام العام للدولة، ويعزز ذلك ببرامج معينة مع التأكد علمياً أن أولئك الأعداء لا يمكن أن يكونوا أصدقاء مستقبلاً، وبهذا يتخلَّص من نظرية كل غريب عدو تلك النظرية التي غادرتها حتى الأنظمة الأكثر عزلة لعواقبها الأليمة على مجتمعاتها.
نحو مؤسسة رسمية للذاكرة
نتيجة لما تقدَّم فإنَّ العراق بحاجة فعلية لتجاوز إخفاق عدم الاهتمام بالذاكرة عن طريق تأسيس مؤسسة متخصصة برسم سياسات الذاكرة (مؤسسة الذاكرة العراقية)، ترسم سياسة الدولة بطريقة علمية تجاه الذاكرة، وتساعدها على الاقتراب من مواطنيها في الأوقات الحرجة من الكوارث والحروب، أو أوقات التغير الاجتماعي، وتساعد هذه المؤسسة الدولة على صياغة خطابها، غير أيدلوجية محددة تصنع عن طريقها هوية اجتماعية واضحة ومقبولة للجميع، عبر رسم سياسات للمؤسسات المعنية بالتنشئة المجتمعية بأنواعها المختلفة: (الفنيَّة، والثقافية، والعلمية، والتربوية، والسياحية)، وفق أسس علمية محددة الأهداف يصنعها المتخصصون داخل تلك المؤسسة وغير معرضة للاجتهادات والأيدولوجيات الخاصة، وتحدّد تلك الآلية الطريقة التطبيقية لسياسات التذكر، والتي تمنع التناقضات في المواقف والأهداف.
وتتولى مؤسسة الذاكرة المقترحة عدداً من المسؤوليات أهمها:
1. التركيز على نقط تاريخية معينة تحمل في أهدافها قيماً ورواية مشتركة بين الجميع.
2. تصدير رؤية واحدة للحدث بدل الروايات المتناقضة، فمثلاً لحظة 2003 قد افترق عليها العراقيون، منهم من يراها لحظة احتلال أجنبي للبلد، ومنهم من يذهب إلى أنها لحظة تخلص من نظام استبدادي قاتل. وفي كلتا الحالتين خسر العراق التعامل مع تلك اللحظة بصورة موحدة.
3. تنظيم القصص الكثيرة ، وجعلها بديلاً للأساطير التي تصنعها المصالح الخاصة.
4. تسمية الأعياد الوطنية وأيامها وفق أهدافها الواضحة والمدروسة.
5 تحديد أعداء البلد بصورة واضحة، وجعلها رؤية الدولة، لتكون بديلاً عن المساحة الكبيرة التي تتيح إدخال أعداء جدد.
6. أبعاد منطق التخوف من ذكر الأحداث العنيفة، وإصدار توصيات للخطاب الحكومي بتقديم اعتذارات عن التي كانت الدولة طرفاً فيها، وتصميم متاحف خاصة لها؛ لكيلا تتكرر مرات أخرى؛ لأنَّ الصمت يولد احتقاناً يجعل التمرُّد على الدولة مبرراً وبصورة أكثر عنفاً.
7. التنسيق بين المؤسسات المختلفة ليكون الخطاب واحداً غير متناقض.
8. إجراء دراسات بصورة مستمرة؛ لمعرفة نسبة قبول الآخر والتعايش السلمي بين أبناء المجتمع، وأدوات تغذية العنف؛ لتقديم توصيات بشأنها.
9. المساهمة في وضع الآليات والبرامج لتطبيق سياسات الذاكرة بطرائقها المختلفة: (متاحف، وكتب، ومناهج دراسية، وفعاليات احتفالية، ونصب تذكارية وبرامج سياحية وترفيهية، وأعياد وطنية، وبرامج تلفزيونية).
10. مراقبة المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، وتقديم توصيات لتعديل برامجها المضرة للتعايش والسلم المجتمعيين.
وتحمل تلك المؤسسة صفة رسمية حكومية تشبه مؤسسات الفكر المرتبطة بالدولة لها قانونها الخاص يشرع في البرلمان ويوضح هيكليتها وتعاقداتها ومتخصصيها وترتبط مباشرة بمجلس الوزراء (لتعطيها القوة في تطبيق برامجها)، وتكون ذات استقلال مالي وإداري، أما تخصصات أفرادها فهي تشمل شهادات عليا من أقسام علم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والتاريخ، والفنون، وعلم النفس، وإعلام، وعلوم سياسية، وعلم الآثار، والقانون، واللسانيات).
المصدر : مركز البيان