أقام الفنان علاء بشير معرضاً تشكيلياً في دولة الإمارات تحت عنوان (نسيان) تميز في التركيز على بنية الذاكرة، التي هي الوجه الآخر لظاهرة النسيان، حيث أكد عدم وجود انفصال بين النسيان والذاكرة، لأنهما يخضعان لجدلية وجودهما كثنائية تخضع للسبب والنتيجة، إما وجود عام وخاص؛ أو تؤكد فعل المرآة في تداول وجودهما في تناوب النسيان، مقابل حركة مفردات الذاكرة. لقد أكد معظم من زار المعرض؛ أن الفنان بشير يحاول بجدية وصبر تقديم نماذج ومحاور متباينة في كل معرض، غير أنها لا تخرج عن أساس اهتماماته الفنية، وطبيعة رؤاه الفلسفية حصراً. لقد أخضع في كل ما قدم طيلة خمسين سنة من العطاء تدرجاً في كل ما من شأنه الارتقاء بحيوات سطح اللوحة، إذ وضعها ضمن دائرة التساؤل والجدل، وهذا ما يُسفر عن حيوية التصورات المرتبطة بمنهج فكري حيوي لا يأخذ بظاهر الظواهر بقدر ما يتوغل في عمقها عبر تشكيلات ورموز دالّة.
وقد ناقشت الإعلامية رقية حسين الفنان بشير فضائية «الشرقية» في أهم ما يتوجب الحوار، لقد كان متعدد المحاور، لكن المحور الأساس كان حول طبيعة لوحات المعرض، وتركز على علاقة ذلك بالإنسان باعتباره مركز الأعمال، بمعنى طبيعة تلك العلاقة هي الإجابة التي تنطلق من الفهم الفلسفي للإنسان، حيث عرض وبشكل سلس ومقتضب ما المقصود بالإنسان؟ وما دوره في التاريخ، ولأن البنية الفكرية للفنان مركبة من رؤى تنعطف كثيراً إلى البعد الفلسفي لمحتوى سطح اللوحة، ليس في هذا المعرض فقط، بل في معظم معارضه التي أثارت جدلاً وحفراً معرفياً وفحصاً يميل إلى الفكر أكثر من ميله للفن فقط، بمعنى تداخل الوجهين المتجسدين على سطوح لوحاته، عبر رموز متعددة ومنها الغراب، ضمن طرح رؤيته لقصة مقتل هابيل على يد أخيه قابيل. وقد اعتبرها الفنان أول جريمة حدثت في التاريخ لتأسيس علاقات جديدة تقوم على فرض الشيء بالقوة من جهة، ومن جهة أُخرى نجد أن الفنان مال بإجابته إلى حوار متسع، على الرغم من قلة الكلام عنده واعتماده على شيفرات كلامية، يمكن من خلالها الوقوف عند رؤاه ذات المساس بنظرته الذاتية، لكل ما يشكل الوجود الإنساني، سواء الوجود المادي أو على صعيد دور الفن ومعظم أجناس التعبير في معالجة الظواهر، كونها تتمحور وتتداخل بدقة مع الجوّاني من الإنسان، مؤكداً عدم وجود تعريف واضح للإنسان، ليس كونه ناتجا شكليا وبيولوجيا وفسلجيا، يتماس مع السلوك الإنساني، بل أنه كائن لم يختر وجوده. كما تطرق إلى موضوع تشكل الإنسان بعيداً عن البيولوجي فقط، مقتصراً الطريق للولوج إلى معنى الإنسان. فهو ليس من يزاول حياته من أجل البقاء، وإنما ما ينعكس من وجوده من تداعيات ذهنية ـ فكرية هي مادة لوحاته، فالأشياء حاملة للدلالات تعمل على خلق عالم يبتعد عن السطح، ويؤثر العميق من ذات الكائن ابتداء من أُسطورة النشء الأُولى، ونزول آدم وحواء لخلق عالم مادي نام لتجاوز الوجود الأُسطوري، وصولاً إلى طبيعة الإنسان عبر أول جريمة في التاريخ في قتل الأخ المختلف كما ذكرنا. بمعنى استجابة قابيل لجوانيته كإنسان. هذا المثل المهم والمركّز فكرياً سرى إلى ما تطرقت إليه المحاوِرة بصدد وجود الإنسان في الزمان والمكان، حيث انتبه الفنان إلى كون السؤال فيه شمولية والإجابة عليه متشعبة، لأن مفهوم الإنسان حصراً غير متبلور وواضح. لذا كان نعته لحركة الإنسان في الوجود كما هي عربة القطار السائر في مطلق الزمن، حيث تكون العربة ذات صفين من المقاعد؛ قسم منها اتجاهه إلى الأمام، والآخر يعاكسه، فالأول يتطلع إلى المستقبل، والثاني إلى الماضي. ومن هذا يكون التطلع إلى المستقبل فيه شيء من الغموض بمقياس التحقق، بينما الثاني مرتبط بالماضي، أي الذاكرة والتقهقر. والإنسان في كلا الحالتين يسعى إلى تحقيق وجوده عبر متحقق ذاتي يخص فيه المتحقق المعرفي ـ الفكري. فلا المتطلع إلى الأمام، ولا المرتد إلى الخلف عارفا الكيفية والنتائج المترتبة. فالإنسان هنا لا يتحقق كيانه بغير المتحقق الذي ينبثق من تشكله المعرفي، أي بعطائه وخلقه لنسيج الوجود المتعادل. والفن وبقية الأجناس الإبداعية من يؤشر لهذا المتحقق.
أرى أن هذا لوحده كان يمكن أن يتواصل حوارياً من أجل بلورة المفهوم لحل إشكالية وجود الإنسان في الزمان والمكان، أي في الوجود الإنساني. إن مدارات فكر الفنان بشير يتمحور في القيمة المتحققة من الفعل المجتمعي، الذي يشكل مشروعاً له خواصه وسماته. والفنان هنا وازى بين تصوره وتطلعه ومنجزه. والدليل ليس في هذا المعرض الذي اتضحت بعض سماته من خلال الحوار، بل مما وازاه في معظم معارضه التي تضمنت حواراً وجودياً. فهو كفنان يتطلع إلى خصوصيته، فنياً وسعة في أُفق إنجازه.
الغرائبي في لوحاته لم يكن على أساس كونه فقط ينتمي إلى التوجه السريالي في الفن، وإنما هو حاصل تحصيل لواقع الوجود المضطرب والمتماهي بين الواقعي والمتخيل. لذا فالتخييل هنا متأت من رؤية عميقة وحسية ورهافة. فالفنان في سعيه للإنجاز يميل إلى النظر إلى ما وراء الوجود المادي للإنسان، وعدم عكس تفاصيل الأشياء. إنه ينحاز جدلياً وفنياً وفكرياً إلى ما يراه متوارياً في الذات غير المرئية. وفي هذا يكون (النسيان) فعلا يحفر في الذاكرة وعكسها على سطح اللوحة، مجسَداً في رموز وألوان وحركات دالة وخطوط متشابكة. لقد أكد في لوحاته على الإشارة إلى الأشياء عبر ما تركته من أثر، فهو متروك حامل لخصائصه ودال على حالات مضمرة. وهو نهج يسود معظم الأجناس الإبداعية كالشعر والسرد. فالجوهر غير الظاهر تماماً في كل الأجناس، فالرائي للوحة يخضع إلى محرك، والرموز هنا من يُحرك الذاكرة، ليس باستعادة أجزاء أو تفاصيل تتماثل مع المرئي، بقدر ما تشكل الرموز والأشكال الثابتة ـ المتحركة في اللوحة، لأن الحركة في هذه الحالات نسبية، إذ يعتبر بشير النسيان نوعا من الشفاء للكثير من حالات تواجه الإنسان في حياته.
لقد كانت أُطروحاته مؤثرة في طبيعة المفاهيم التي ارتكز عليها، ومنها قيمة الفن تنبع من مضمونه، ومضمونه من خلال التعالق الحسي الدقيق، بعيداً عن تجسيد الظاهر من الأشياء والمعالم. وقد أشار إلى معرضه الذي تضمن صورة الكرسي، إشارة إلى صورة المكان التي تنبع من صورة محتواه وطبيعته. ونرى إن مثل هذه العيّنات من البنى الفكرية تتصل مباشرة بطبيعة العقل الجدلي المتأمل في الموجودات في الوجود العام. إذ يقود هذا إلى طبيعة ممارسات الفنان عبر معارضه المتصلة بدقة اختياراته وموضوعيتها، إضافة إلى فنيتها المتحققة. فالإنسان في نظره لم يختر وجوده، لكنه حققه في مجموع الأفعال في مسيرته في الوجود.
المصدر : القدس العربي