06 Apr
06Apr


كتب : أحمد الماجد / السعودية 

تعارض موتُ المؤلف لدى الدكتور حسين القاصد مع نبش العديد من السياقات المضمرة المدفونة داخل النص الشعري والتي تتطلب البحث في تفاصيل المؤلِّف والمؤلَّف عنه وعلائقهما لاسترجاع ملامح قد يتم إهمالها بالخطأ رغم أهميتها وحسمها في تفكيك معالم معنوية أكثر دقة وأسرار مجهولة غير ملتفت لها ميعتها غيبوبةُ المؤلف على سرير نقطة نهاية النص بإنهاء دوره الضروري قسريا.


إلا أن ثمة شيفرات يمارسها المؤلف لا بد من استدعائه على خلفيتها على ذمة التحقيق الدلالي والبحث في جغرافيا الشيفرات التي بنيت عليها تضاريس إلماحاته وخرائط غمزاته المضمرة.


يسترعي د. حسين القاصد اهتمام الحاجة النقدية في كتابه "الدلالة الثقافية وسيميائية النص المضمر" باستحداث مصطلح "الدلالة الثقافية" لتحل مكان "الدلالة اللغوية" ليوسع العدسة الدلالية ويعدل كفاءة المجهر التأويلي لتفكيك أكثر دقة وأقل خللا في اكتشافات النص وإعطاب كوامنه الخفية. فقد تتعدد الدلالة اللغوية وتقود إلى احتمالات عدة، وقد تتناقض الدلالة اللغوية مع تسالمات واتفاقات دلالية ناتجة عن "اغتصاب اللغة" وأخذ المدلولات إلى اتجاهات لم يعرفها المدلول اللغوي في عملية اختطاف معنوية يصطلح عليها القاصد بـ "الدلالة الثقافية".


لم تعد الدلالة اللغوية الخاضعة للمعجم الثابت كافية لاستخراج مكامن النص والإسهاب الأفقي في مستويات مضامين أعلى. فكان لا بد من التفتيش عن أوكار داخل عقل المؤلِّف، أوكار مرتبطة بحياته الثقافية والفكرية والسياسية والزوايا التي ينظر بها للمؤلَّف عنه والفروع التي تربط بينهما خاصة للشخصية الحركية المتشعبة. علائق خفية على غير ذي العلاقة، تقع في الدوائر الثقافية الخاصة وتقود لردم هوة محتملة أكبر بين المعنى المراد الموحى والمعنى الناتج المستوحى.


يحيل القاصد إلى استشهاد الناقد عبد الله الغذامي بجاك لاكان ليحرر الدال من سلطة المدلول اللغوي الأحادي وسيطرته مما شكل مدلولا ينزلق ودالا يعوم. فيجيب "إن اعتباطية العلامة اللغوية ضاعفت من قوة الدلالة وتعزيز العلامة والدلالة بنت الدال لا بنت المدلول" ويختم بضرورة تحرير المدلول لا تحرير الدال "فلا اعتباطية مع المداليل بل إن الدال على الأغلب يكون اعتباطيا".


هذا العرض الموجز والمفصل في أطروحة القاصد للتأكيد أن الدال الواحد قد يعنى بمداليل اعتباطية تسالمية مستجدة وحديثة تخص مجتمعا محدودا أو جماعة منحصرة أو تخصصا ضيقا لم يحصل بين الدال والمدلول اتفاق لغوي عليه بل اعتباطات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية يختصرها القاصد مجتمعة في الدلالة الثقافية. فيقول: "فاللون الأحمر يمثل الدم والثورة والحب، لكنه في مصارعة الثيران يمثل المخاتلة لأن ظاهره يشي بهيجان الجمهور".


يتکئ القاصد على النقد السيميائي المعني بالإشارات والشيفرات غير اللغوية لإثبات الحاجة إلى الدلالة التي تقع خارج اللغة ولا يمكن للقارئ اللغوي بغيرها تفكيك مجاهيل النص. وهذا ما يتطلب معاودة إحياء المؤلف واستدعاءه ثقافيا لفهم خلفيات التشفير الدلالي الذي عكف على حبكه في النص، فيشير: "دلالة اللغة لم تعد كافية من دون لغة صامتة، خفية يكشفها عقد ثقافي بين المتكلم والمتلقي، أو علامة سيميائية دالة". ومن هنا يؤكد القاصد على "الحاجة للدلالة الثقافية لا الدلالة اللغوية بمفهومها الشائع".


يعرف القاصد الدلالة الثقافية بأنها "صورة النسق المضمر الذي يطارده النقد الثقافي بعد جهد لغوي بذله مبدع النص معتمدا الدلالة اللغوية نفقا..". ونظرا لاغتصاب اللغة تختلف الدلالات باختلاف المواقع والجغرافيا. فربما يختلف المعنى الثقافي لمسمى أكلةٍ في بلد ما ليكون مبتذلا في بلد آخر. يمثل القاصد بكلمة "أرنب" التي تعني في قاعة يجتمع فيها أثرياء مصريون مبلغا من المال قدره مليون جنيه، بينما لا تعني الشيء ذاته في موقع آخر. دال واحد أحال لمدلولين مختلفين، ويسوق القاصد عددا من الأمثلة متعددة المدلولات الثقافية ككلمة "رفيق"، وكلمة "تشرين" حسب موقعها المكاني والاجتماعي وذلك بسبب "اغتصاب الدلالة" بأمور مختلفة أيدلوجية وتخصصية وسياسية واجتماعية.


"فبالاستعانة بالدلالة الثقافية التي توفرها السيميائية": فمجموعة "مناسك تشرين" للشاعر العراقي أجود مجبل لم تكن تعني شهر تشرين ولا المناسك الدينية بل تعني أحداث تشرين وما تلاه في بغداد عام 2019م بوصفها حراكا مقدسا موازيا للمقدس الديني، إحالة شعرية ثقافية أن ذلك التجمع المطلبي في بغداد حجٌّ تشريني مقدس. فينبغي إحياء المؤلف لمعرفة هويته وارتداداتها على النص بحيث يتضح مبتغاه بين ثورة تشرين أو حربه أو شارعه أو حديقته أو صحيفته أو جامعته في العراق وسورية ومصر، بين مناسك الطقس الديني في مكة وبين نية الشاعر بإضفاء مباركة وتأييد عبر استدعاء المناسك المحددة الوقت عادةً، وذلك "ترحيل أيدلوجي للدلالة من لغويتها الثابتة مرورا بتواضعيتها المشهورة إلى تواضع مرحلي محدود" حسب القاصد. وبموت المؤلف وحصر النص بما يحمله القارئ من تفسيرات لكلمة تشرين وما ينفعل معه تجاهها سينحرف بها إلى شجن مختلف تماما ربما عن توظيفات المؤلف وبوصلته الدلالية، الأمر الذي لن يحدث إذا بقي المؤلف على قيد النص.


لعل القاصد انفرد باستحداث مصطلح "الدلالة الثقافية" إلا أنه استعان بالسيميائية لتقعيده وتفصيله وإثبات الحاجة إليه كجسر للنسق المضمر مع الإقرار بقصور السيميائية عن إنضاجه وبلورته بحيث يصبح جاهزا لدخول معترك الالتباس النصي وردم الهوة بين القارئ والمؤلف والمؤلَّف عنه والحاجة لإحياء المؤلف الذي أماته رولان بارت.


وعلى غرار الحاجة لمناسبةِ النص من أجل تصحيح هنات وعثرات القراءة النقدية المشتبهة يتجه القاصد لضرورة استعادة مناسَبةِ اللفظ المعين الموازي لاتجاه عدسة المؤلف تجاه القضية أو الشخص أو المكان أو الزمان، وعدم إخضاع المعنى الواجب تقييده وإتاحته لاحتمالات القارئ والناقد المفتوحة بل إرضاخ التأويل وتوجيهه لصالح الدلالة الثقافية الأقرب لحركة النص وسياقاته الزمانية والمكانية.


يستعيد القاصد سياقات جديدة لأبيات شعرية ستبدو رتيبة لولا تعريتها من أقنعة الدلالات الثقافية لتظهر مبتغى المؤلف. فتتعارض وفقها الدلالة اللغوية مع الدلالة الثقافية مما يجعل النص هزيلا بحسب دلالاته اللغوية وموفورَ الشعرية بحسب دلالاته الثقافية. معالجة تضمن إسعافا تأجل طويلا لتأويلات ظلت تمثل جرحا في خاصرة نصوص ليست في حقيقتها التخييلية كما تبدو عليه.



لعل المؤلف تفاجأ أثناء موته بخبط القاصد على تابوته الذي ظل فيه طويلا مرتاح البال ينعم بفرصة تحويل الدلالة اللغوية لخط سير القارئ إلى جادة زائفة بعيدة عن مستجم فكرته الصريح. فكم قارئ سيعين على نبش قبر المؤلف الميت في المستقبل القصيد.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن