27 Feb
27Feb

ثمة مصدران رئيسان إثنان، على الأقل، يمكن الركون إليهما في التعريف بكاتب معين، الأول كتابيّ يتعلق بالأعمال التي يكتبها، والثاني شفهيّ يتصل بالأقوال التي يقولها، ناهيك بثالث يتمثل في ما يكتبه ويقوله الآخرون عنه، ويستند إلى المصدرين الأولين ما يدخله في عداد المصادر الفرعية للتعريف. على أن العلاقة بين ما يكتب الكاتب وما يقوله تتراوح بين التكامل والإكمال والتوضيح والتصحيح والشرح والتفسير والتبرير وغيرها من العلاقات، وكثيراً ما تكون صورة الكاتب التي تعكسها الأعمال المكتوبة غير واضحة أو مشوبة بالغموض والالتباس فتأتي الأقوال المقولة من قبله، في مقابلات وحوارات ومتابعات، لجلاء الغامض وتوضيح الملتبس ووضع الأمور في نصابها. وهذا ما ينسحب على الروائي السوداني الطيب صالح في الكتاب الجديد، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بعنوان "الطيب صالح/ حوارات ومتابعات في الفكر والثقافة والإبداع" للباحث والأكاديمي الأردني محمد شاهين. ويضم 11 مقابلة أجريت معه، خلال نحو ثلاثة عقود، بين عامي 1976 و2005، قام المؤلف باختيارها وترتيبها والتقديم لها، وأثبت أنه على عهد الوفاء لصديقه الطيب الذي رحل عن هذه الدنيا في عام 2009 عن 80 عاماً، مخلفاً عدداً من الآثار الأدبية الجديرة بالقراءة والتقدير، على قلته.

  صداقة وزمالة 

 قبل الخوض في الكتاب مقدمة ومقابلات، لا بد من التذكير أن الطيب صالح روائي سوداني كبير، اسمه محمد صالح أحمد، وأن الذي سماه الطيب صالح هو صلاح أحمد محمد صالح سفير السودان الكبير الذي تزامل معه في هيئة الإذاعة البريطانية، وأنه ولد في قرية الدبة من أعمال إقليم مروي في شمال السودان. وتابع دراسته الثانوية في مدارسه والجامعية في جامعتي الخرطوم ولندن. وتقلب في حياته المهنية بين العمل التربوي والإذاعي والإداري والصحافي والدبلوماسي، في غير منطقة من العالم، ما أكسبه خبرة عملية كبيرة ومتنوعة، استثمرها في أعماله الأدبية التي طبقت شهرتها الآفاق. وهي تتوزع على عدد محدود من الروايات والمجموعات القصصية، غير أن العمل الذي ارتبط اسمه به ومنحه شهرته الأدبية هو رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" التي شكلت نقطة تحول في مجرى الرواية العربية. أما علاقته بمعد الكتاب الأكاديمي الأردني- الفلسطيني محمد شاهين فتتراوح بين الصداقة والزمالة في لجان تحكيم بعض الجوائز، وتتمظهر في لقاءات في القاهرة وعمان والكويت وقرطبة ولندن، وفي ممارسة رياضة المشي بعد العشاء في هذه المدن، وفي أنشطة ثقافية مختلفة. وتمخضت عن ذكريات جميلة يدخرها شاهين عن صديقه وينثر بعضها على صفحات الكتاب. 


الكتاب الذي يضم الحوارات القديمة (المؤسسة العربية للدراسات) 



بالعودة إلى الكتاب، نشير إلى أنه يقع في مقدمة و11 مقابلة وملحق صور، ولكل منها وظيفته في التعريف بالطيب صالح، ففي المقدمة، يحدد شاهين الهدف من جمع المقابلات في سفر بتسهيل "الوصول إلى الطيب وسيرته الذاتية والفنية" ووضع القارئ وجهاً لوجه معه (ص 7). ويؤدي قسطه، في إطار تحقيق هذا الهدف، من خلال التوقف عند رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" وتحليل شخصية مصطفى سعيد دفعاً لشبهة تمجيد الاستعمار التي حاول عبدالرحمن منيف إلصاقها بالرواية، والتوقف عند العلاقة المميزة التي ربطته بالروائي وتمظهرت في مجموعة من اللقاءات والنزهات والأنشطة الثقافية، وتمخضت عن ذكريات جميلة وانطباعات طيبة، فينسب الباحث إلى صديقه الروائي بنتيجتها التواضع وحسن المعشر وطيب اللقاء ورفعة الأخلاق وعذوبة الحديث وجمال الإلقاء وغيرها من الفضائل. وبذلك، يجمع شاهين في المقدمة بين السيرتين الذاتية والفنية لصديقه. أما المقابلات الـ11 فتتعدد أشكالها وتتراوح بين المقابلة الصحافية والبرنامج التلفزيوني والندوة الجامعية والمناظرة والاتصال الهاتفي وغيرها، وتسهم في بلورة السيرة الذاتية للروائي ورسم البروفايل الحقيقي له وإضاءة أعماله الأدبية لا سيما روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" التي لا تخلو مقابلة من الإشارة إليها. وأما ملحق الصور فيشتمل على 10 صور في مناسبات مختلفة تعكس مكانة الطيب الأدبية الرفيعة. وبذلك، تتضافر المقدمة والمقابلات والصور في تظهير السيرتين الذاتية والفنية لصاحبهما. على أن الدور الأهم في هذه العملية تنهض به المقابلات من خلال الأسئلة المطروحة والأجوبة عليها. 

 طبيعة الأسئلة 

في الأسئلة المطروحة، لا بد من الإشارة إلى أنها تختلف من مقابلة إلى أخرى باختلاف المقابل وأداة النشر وشكل المقابلة ومكان إجرائها، فالأسئلة ليست من الطبيعة نفسها في الجريدة والمجلة الثقافية والبرنامج التلفزيوني والندوة الجامعية، ودرجة العمق ليست واحدة لدى الصحافي والمذيع والباحث والناقد والقارئ العادي. وعليه، نرى أن الأسئلة في بعض المقابلات تقليدية، تقف عند حدود الشخصية، تطفو على السطح، ولا تغوص على الأعماق (سيد فرغلي). وأنها معدة سلفاً وليست بنت ساعتها، تخلط بين الخاص والعام، وتتمحور حول الروائي وتغفل أعماله (هدى الحسيني). وأنها سجالية تنطلق من أعمال الروائي وتتضمن أحكاماً نقدية وليست سطحية أو خارجية (جامعة السوربون الثالثة). وأنها تعكس العلاقة الوثيقة بين السائل والمجيب، و"تجرؤ" الأول على الثاني، وحرصه على معرفة الجديد (عادل أديب آغا). وأنها عميقة تستند إلى قراءة تحليلية، وتخلص إلى أحكام دقيقة تبرز وظيفة السؤال النقدية، وقد تكون تفاعلية تنطلق من الأجوبة السابقة (بشير القمري). وقد تتجاور الأسئلة والمداخلات في المقابلة الواحدة (البرنامج التلفزيوني). وقد تكون مبنية على مقتبسات من أعمال الكاتب وأقواله وآراء الآخرين فيه (سوسن الديك)، على سبيل المثال لا الحصر. 

 تنوع الأجوبة واختلافها 

أما الأجوبة فتتناسب مع الأسئلة، وتختلف باختلافها في الشكل والمضمون، ذلك أن لكل سؤال جوابه الذي يتكامل معه ليؤديا وظيفة معينة في سياق تحقيق الهدف الاستراتيجي للمقابلة المتمثل في إضاءة السيرتين الذاتية والفنية للكاتب أو إحداهما على الأقل، وفي هذا السياق، يمكن الإشارة، في الشكل، إلى أن الطيب في مقابلاته الأولى يجنح للاختصار في أجوبته، ويتجنب التنظير والتحليل، ويسمي الأشياء بأسمائها، ولا يتورع عن الاعتراف بعدم معرفته وعدم تأهله للإجابة (سيد فرغلي). وهو يعبر عن آرائه في مقولات وأشخاص وأفكار ويعكس حالته النفسية (هدى الحسيني). وهو يجنح للتوسع في الإجابة، ويفارق الأسئلة ويتقاطع معها، ويبدي آراءه في القضايا المطروحة (جامعة السوربون الثالثة). وقد يضيق ذرعاً ببعض الأسئلة، على رحابة صدره، ويغلب الماهية على الهوية، والأعمال على صاحبها، والقومي على القطري، وينتقد غلو العالم العربي في التعاطي مع المبدعين إيجاباً وسلباً (عادل أديب أغا)، على سبيل المثال لا الحصر. على أننا قد نقع على إجابتين مختلفتين عن السؤال نفسه باختلاف المقابلة مما يندرج في باب التضارب بين الإجابتين في بعض الحالات، ويندرج في باب التطور في الموقف بفعل النضج المعرفي ومرور الزمن في حالات أخرى، وفي هذا السياق، نقع على تضارب في الإجابة بين المقابلتين الأولى والثانية، ففي حين يرى في الأولى أن نجيب محفوظ هو "خالق الرواية العربية مما يشبه العدم" (ص 31)، يرى في الثانية أنه ليس "رائد الرواية العربية الأول" (ص 36). ونقع على التطور في الموقف حين يغير رأيه من الفولكلور، ففي حين يعبر عن حزنه في ندوة التي دعا إليها الدكتور محمد أركون في جامعة السوربون الثالثة لأن أحد الحاضرين وصف جهده بالفولكلور ويرى أنه من أوائل الكتاب الذين ابتعدوا عن الفولكلور (ص 49)، نراه يعتبر نفسه في مقابلة أخرى "من الكتاب الذين أدركوا- في لحظة من لحظات الانتماء إلى الكتابة العربية وجماليتها- بوعي كامل يفرضه النضج أهمية ما يسمى الفولكلور الذي هو نسيج كل حياتنا وكل ما نملك..."، على حد تعبيره (ص 96). 

وعلى رغم ذلك، نقع في المقابلات على كثير من الآراء المثيرة للجدل مما لا يتسع المقام لذكره. وحسبنا في هذا المجال التمثيل عليها بـ"كل أنواع الكتابة بغيض إلى نفسي، وأنا لا أكتب إلا إذا بلغ السيل الزبى" (ص 29). "الكتابة الحقيقية تهدم أكبر قدر من الجدران والحواجز" (ص 36). "أنا أسعى إلى صياغة الأسطورة، لا لإعادة صياغة العالم" (ص 49). "النقد العظيم عمل إبداعي بحد ذاته" (ص 86). "الرواية تمنح كاتبها الارتفاع إلى مدارج نقاش أوسع لا تمنحه القصيدة التي هي مركزة بطبيعتها" (ص 87). "كل قارئ يضيف إلى العمل الروائي بعد قراءته، ولو في حال رفضه" (ص 103)، وغيرها من الآراء التي لا يغني التمثيل عليها عن قراءتها في مظنها.   

 إذا كان لنا أن نرسم بورتريه الطيب صالح، من خلال الأسئلة والأجوبة، يمكن القول إننا إزاء شخصية متواضعة، زاهدة في الأضواء، عازفة عن النجومية، دبلوماسية، مرنة، تميل إلى الانطواء والخجل والصمت، تحترم الرأي الآخر، وتقبل النقد والانتقاد. ولعل هذه الصفات مضافة إلى مواصفات أعماله الأدبية هي ما منحته نجوميته، على الصعيدين الذاتي والأدبي. من هنا، يمكن اعتبار خطوة الباحث الأكاديمي محمد شاهين خطوة في الاتجاه الصحيح تعكس وفاءه لصديقه، وتسدي خدمة جليلة للقارئ العربي.    

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن