حوار اجراه الباحث عباس نجم عبيد مع الدكتور جاسم محمد جاسم العجة
____________________________
الشاعر الدكتور جاسم محمد جاسم العجة : مرحبا
_ مرحبا أخي استاذ عباس، من دواعي سروري أن أرى فيكَ وفي جيل الأكاديمية الشابة هذا الحرص والجدية في اختيار ومتابعة المشهد الشعري وأتوسم منكم ريعاً معرفيا وافرا في زمن مغلف بالنضوب والسطحية .
- أومضتَ في الـ(مانشيتات) وفي غيرها، ولي منك أن تمنح إيماضي الاستفهاميّ قليلا من الوقوف (الطويل) في الإجابة...!
لم أخطط حقيقة لديوان مانشيتات كما كنت دائما أخطط للقصيدة بعد إيماض برقها الأول . كانت جلسة أمام شاشات التلفاز في فترة نشاط عمليات تحرير الموصل كفيلة بأن تجعل من ( تايتل ) الأخبار على القنوات الفضائية كومة قش من الحزن تفتش فيه روحي عن خبر يمكن معه أن يدلني على ابرة تعيد خياطة أيام العمر ببعضها في وسط كومة القش تلك . نعم كانت عيوننا مسمرة الى التايتل الاخباري بحثا عن خبر يمكن ان نستبشر به بقرب تحرير الموصل والخلاص من حالة الموت في الحياة ، فالتمعت في ذهني ( مانشيتة ) فرضت نفسها شكلا لديوان كامل قلت فيها مخاطبا الحياة في الخارج مقارنا بحياة الداخل التي تلونت سماؤها بدخان الحرب :
( لكِ الأيام ناعمة
ولي شيخوخة الطللين :
بلاد تتقن المنفى
ومصطبة بلا ظلين )
لم يدر في خلدي وقتها سوى أن أكتب إيماضات سريعة تقوم على بيتين يكثفان رؤية ويتناسبان مع مزاج الخوف والترقب الذي كنا نعيشه ، فالقصيدة الطويلة نفسيا تحتاج الى روح عندها المفتوح والمريح من الوقت لتنثال وتحلق وتتخلق بنائيا ، وهذا مالم يكن يتناسب مع طبيعة اللحظة التي كنا نعيشها ونحن لانعرف النهار من الليل مع اشتداد وتيرة عمليات التحرير ,
لاحظ أن من ثقافة الابداع لحظة الحرب أن يكون الكلام أقل وأدل ، لذا نجد أن الارتجاز في الحروب بالبيت والبيتين والنتفة والمقطوعة هو الغالب على القصيدة المتأملة التي تهتم بالتفاصيل . لقد كانت مانشيتاتي ردة فعل لما كان يعتمل في ذاتي من احساس مرير بالسباق مع الحياة هربا من الموت الذي كان يحوم حولنا ولا نعرف متى ينقض علينا . لذا اخترت ( الكتابة البرقية) ان صح التعبير فنحن عند الخوف نبرق ، ولا نطيل . وقد تلاحظ ان صفة البرقية والاختصار والتكثيف قد طالت حتى عناوين الماناشيتات، فجاء عنوان كل واحدة منها مفردا منكّرا على مستوى البناء لتطال صفة التكثيف والاختصار حتى البنية التركيبية للعنوان .
الدكتور جاسم محمد جاسم العجة
_________________________
1 - لماذا (مانشيتات)؟ لأنّي أخشى أن يكون اجتراحا مصطلحيا جديدا، بعد أكثر من خمسين مصطلحا –وأنت أدرى- يصبّ في نهير (القصيدة القصيرة)!
المانشيت بنية تركيبية متعارف عليها في الحقل الصحافي ، وهو الخبر العريض الذي منه وبواسطته وبذكائه يمكن ان تقرأ ماتحته من متن كلامي ، لم أرد منه سوى أن أن أقول إن هذه الاشطر الاربعة التي ستقرؤونها في كل صفحة هي مانشيت وعنوان عريض لمتن من الصمت المرير الذي كنا نعيشه في تلك الفترة ، خاصة وأن الوقت وقت موت لا وقت كتابة أو قراءة كما تبدى لي في تلك الفترة على الأقل وأنا اطعم موقد النار عيون كتب مكتبتي التي جمعتها لسنين طويلة ، لأنني لا استطيع ان انظر الى طفلي وهو يرتجف بردا وجوعا فنار الحرب تطرد نار الطبخ والتدفئة .
لقد كان المانشيت ارسالية تلخيصية يمكن ان تكون بديلا عن متن طويل لا يسعف الوقت والخوف والترقب لكتابته .. انه اشتغال على مبدأ النفري المعروف ( كلما عظمت الرؤية ضاقت العبارة )
2 - لماذا هذه القصديّة العالية في أن يكون كل مانشيت مبنيا على بيتين من الشكل العمودي؟
حقيقة لم اتقصد العمود فهو يحتويني اصلا ، وكذلك لم اتقصد البيتين تحديدا ، تشير جذاذات القصائد الى ان ثمة ثلاثة ابيات وثمة اربعة ايضا ، لكنني اخترت توحيد الديوان في اختيار ماجاء على بيتين ، بمعنى ان بناء المانشيتات على الشكل الثنائي للأبيات قد جاء في مرحلة تالية للكتابة بعد اعمال الوعي والمنهجية في اصدار الديوان ، ويبقى عدد الابيات سواء أكان ثنائيا ام ثلاثيا ام رباعيا خاضعا للحظة الكتابة واكتمال الرؤية وتبلور ملامح الارسالية الشعرية التي تريد لن تلبس شكلها كما تريد هي. وتجد في الادب العربي الكثير من نمط المقطوعات المزدوجة والثلاثية والرباعية حسبما تقاضيه التجربة ليبقى السؤال مطروحا : لماذا هذا العدد او ذاك . ؟
3 - أين تضع نصوص (المانشيتات) أجناسيّا؟
المانشيتات ارى فيها مايمكن ان اسميه بـ ( البرقيات الشعرية ) .. واتصور ان ( البرقية الشعرية ) بوصفها إجراءا لامصطلحا موجودة حتى في شعرنا القديم، فنحن مثلا نحفظ البيت او البيتين للشاعر الفلاني من مجموع ابيات قصيدة طويلة فيما سمي بالمصطلح النقدي القديم بـ ( البيت الشارد) وهو البيت الذي يشهد اشتغالا فنيا عاليا ويتضمن تلخيصا وضغطا لرؤيا القصيدة برمتها , بحيث يمكن ان يعد هذا البيت هو المانشيت الذي يعرف بالقصيدة ، وهو ايضا البرقية الشعرية التي يريد الشاعر توصيلها الى المتلقي . وهي ايضا في قصرها وتكثيفها ليست ببعيدة عن (أدب التوقيعات) ذلك الفن النثري الذي تغص به مدونة الابداع العربي النثري مع اختلاف الطبيعة والغاية في كل منهما .
4 - أيكون لعصر السرعة و(ضغط السرعة) عند العراقيين شأن خاص؟ - إذ كما تقول:
العمر وإن طالَ قصيرٌ
كمسافة برقٍ وفراشــــــةْ
والدنيا تقرأُهُ لمحًا
كالخبر الراكض في الشاشة-
فيكون ضيق العمر رديفا لضيق العبارة كما ألمحت في اقتباسك عن النفّري؟
ليس العراقيون وحدهم من يعيش عصر السرعة ، العالم كله في سباق مجنون مع الزمن ، لكن يبدو ان العراقيين اكثر احساسا بوطأته خاصة في فترات الحروب التي لم ترحم احلامهم ، ان زمن العراقيين النفسي طويل ، وصفة طويل هنا متأتية من طبيعتهم التي لاتهادن ، حتى اذا خلا احدهم بنفسه وجد أن العمر فعلا أقصر مما كان يظن واضيق من ان يتسع لأحلامه على بساطتها . لاشيء يسرق الاعمار كالحروب ...
5 - هل تعدّ نصوص (بانوراما الممكنات) التي وجدت طريقها إلينا عبر (خريف لا يؤمن بالاصفرار) عتبةً للمانشيتات؟ لأنّ بينهما عاما واحدا، وربما هي شهور قليلة، إن كان الأمر كذلك فلماذا الإصرار على العمود وقد كانت الممكنات موزّعةً على الأشكال كلّها؟
بانوراما الممكنات اردتها ديوانا مضمنا داخل ديوان خريف لا يؤمن بالاصفرار، تجد فيها التفعيلة وتجد فيها قصيدة النثر ايضا وبنفَس شعري قصير نسبيا ، وحقيقة وجدت ان الطابع الإخواني والاهدائي في مجمل قصائد البانوراما قد مثّلَ لي حينها ( سحبَ نفَس ) خارج طول القصيدة العمودية التي يستهويني الغوص في بحورها ، نعم كانت قصائد بانوراما الممكنات ايذانا بتغيير تكتيكي في طريقة العزف الشعري بالتعويل على التكثيف والقصَر وتنوع الاشكال ، لكنها لم تشكل باعثا لكتابة المانشيتات بهذا التكثيف ، بمعنى ان ثمة قصدية فنية اقتضتها كتابة بانوراما الممكنات ، في حين أن ديوان مانشيتات هو طفل حرب فرضت عليه الحرب شكله ومستوى صراخه .