31 Jan
31Jan

إن استطعتَ أن لا تنشر الشِّعر، فافعل!

الإيمان بالشعر وتهيّبه، يحتّم سرّيته. للشاعر أن يجعل الشعر في حلقات مثل حلقات الصوفية، مقتصراً على «العارفين» فقط. وعلى من يُريد الدخول إلى «صومعة» الشعر، مستمعاً/ قارئاً، أن يخضع لاختبار باطني عميق، يكشف عن صفوه وصفائه للشعر.

يُعرّف بعض الصوفية، الصوفي، بأنه من صفا قلبه لله. في استعارة هذا التعريف، كمَثَل، لا سوى، يكون الشاعر هو من صفا قلبه للشعر، كذلك القارئ. إنّ سرّ ابتذال الشعر، هو في فرط إشاعته. وفي إباحته: استباحته. وما هذا الاستسهال الفاشي (من الفَشو) سوى نتيجة مباشرة لإباحته وجعله عرْضاً وعرَضاً متهافتاً. إنّ أغلب ما نشهد، اليوم، ليس الشعر، بل هو الجلْد الميت الطافي لجوهرٍ عصي، نادر، نبيل وغائب.

يظن الجميع، أنّ في إمكان الجميع إجادةَ الشعر. وهكذا.. يكتب الجميع الشعر!

في الوقت الذي (لا عدو للشعر أخطر مما يُقدَّم بِاسم الشعر نفسه، إذ تُسمّى الأشياء بغير أسمائها، وتُصنع الأمجاد ويسود قانون الانتحال.. وهكذا فإن الانهماك في حركة شعرية فارغة هو أسوأ ما يّهدّد الشعر الحق. هَبْ مجتمعاً يشتغل نصف أفراده بالنظم السهل: أيكون مجتمعاً متقدماً إلّا بأسهل المعاني وأهونِها؟ إنه مجتمع الانشغالات الباطلة. إن الانهمام العريض البعيد عن جوهر الإبداع، ليس إلّا ظاهرة تعويضية تحاول عبثاً أن تسدّ فراغ الفن الغائب) وفقاً لبصيرة محمود البريكان، الشاعر الاستثنائي، وعياً وفنّاً. والشعر، أبعد وأرفع من تقمّص دورٍ ما، وهو أكثر تأبيّاً على ذلك. الشعر يتعدّى الدورَ إلى أن يكون الحياة ذاتها.

الشعر لا يُكتب. الشعر يُعاش، يُنازَل، يُفهم، يُستشعَر، يُستبطَن ويستبطِن. يجترح. يُستنزَف ويستنزف. الشعر يُنتظر على أمل اللاتحقّق، ولا تحققه هو إنجازه! الشعر «منطقة خطرة، لا مكان فيه للجبناء والمسالمين أو لأولئك الذين يخضعون إلى الأشكال النمَطية، فضلاً عن تلك الأشكال الهادئة للغاية، أو التي تلقى استحساناً كبيراً». حسب تعبير أنطونيو غامونيدا، الشاعر الإسباني. الشعر استنزاف الحواس والقلب. الشعر فعل تنفّس، أي ممارسة وجود.

الشعر كشف واكتشاف واستكشاف. الشعر استعراض الباطن بأدوات الظاهر. الشعر عين الدهشة التي ترى الأشياء في لمعانها الدائم، متخلّصةً من صدأ آثار الأزمنة عليها. الشعر هو طفولة العالم، شبابه، وأبديته العذراء. الجديد الذي يُخلق في كل آن، الجديد الذي ينبثق دائماً للوهلة الأولى.

الشعر خرْقٌ للزمان، واختراق، ومكوثٌ في المستقبل.

كلّ شيء حولك، آية. هكذا يقول قرآن الشعر. لكن آنّى للشعر عينٌ كهذه لا تكلّ لرؤية الجديد، ولا يُوهمها أو يوهنها تيّار الأزمنة الموّار حول أشياء الوجود. من يفهم الشعر بهذه الروح وينوجد به، يستحيل عليه، أن يتخذ منه وسيلة للتنفيس المرَضي، ولتلبية ما هو آني، ففي ذلك انتهاك لروح الشعر، إن لم يكن تدنيساً له. والانتهاك أيضاً هو أن يكتب الشاعر كلّ ساعة قصيدة وكأنه في طراد، إلا إذا كان قادراً على التجدد والإتيان بالجديد، دائماً. ليس من الشعر أن تُراكم القصائد، الشعر لا يمكث في الصفحات، وهو ليس طوع الإشارة، كلّ آن، والشعر المكتوب بآلية، ليس أكثر من ريش طائر ميت. الشعر مكانه الشعر. ولربّ قصيدة، تصنع تاريخاً آخر للشعر، في الوقت الذي تصبح أخرى أو أُخريات عبئاً عليه، وأداةً للتنفير منه.

إنّ ما ينقص أغلب شعر اليوم، نفحة الفكر، فهو الهواء الضروري لبقاء وديمومة القصيدة. القصيدة التي تُكتَب بشروط اليومي والعابر لا يمكن لها أن تلامس أسئلة الوجود العميقة والصعبة، وليس بوسعها أن تتصادى وما يعتمل في أعماق الإنسان من حيرة وتوق إلى اللانهائي. الشعر العظيم يمكن أن يُلبّي بعض هذا التوق، في مادته وشكله ومعناه، على حد سواء. والشعر العظيم، أيضاً في إمكانه إقناع قارئه، على أيّ وجه أتى، فما من شروط، مسبقة، سوى شروط الفن. ليس الشعر مياه نرسيس، وهذه واحدة من أعطاب الشعر العربي. ففي تمثّل الذات منفصلةً، عن الذوات الأُخرى في وهم تفوّقٍ غير مختمر، انحراف عمّا هو إنساني، وإرادة تشويه، وتشتيت، لا مؤاخاة. لذا يمكن الخلوص إلى أن الشعر العربي، وعبر شطر كبير منه وبما هو رائج، شعر غير إنساني، في النص أو في ممارسة كاتب النص. لكن في الضفة الأُخرى، التي تكاد تكون محجوبة، ثمّة شعر يتضافر فيه الفني والإنساني، بدرجة تكاد تكون مُثلى، غير أنه في حمأة التدافع وتصاعد اللغط، يبدو أخفت نبرة وأقرب ما يكون إلى الصمت والهباء في فضاء ملوّث، وكأنّ التشويش الذي يُمارس على هذا الشعر يستعيد مثال «أبو العبَر» (السريالي العبّاسي) حيث في واحد من مشاهده الغرائبية، يظهر وهو يُملي على مدوّنٍ استقرّ في قاع بئر وحول البئر توزّع ثلاثة رجال يدقون بالهواوين، إمعاناً في تفعيل الضجيج وخلط الكلام وتبديده! لا تسألْ تُرجمَ هذا الشاعر، أو ذاك، أم لا؟ مع افتراض توفّر الجودة، هنا، بل اسأل عن مقدار تمثّل شعره، وجدانياً لدى أصحاب اللغة المضيفة، ومقدار المساحة التي حازها، في ما لو تمّ التمثّل أصلاً! إنّ السعي وراء وهم العالمية، بمادة شاحبة، بإمداد مُضل يغذّيه مقاولو ترجمةٍ، أميّون شعرياً، لا يقل ضَلالاً عن وهم أنّ الجميع يمكن أن يكونوا شعراء.

والقضايا محرقة الشعرحين يراهن الشعر على «القضايا» فإنه يختار الحصان الخاسر. القضايا مكانها ما هو نثري (بالمعنى الأدائي) عبر وسائل نشر ووسائط مختصة، كالصحافة، وكتب الحقائق والبحث، وحتى الخطابة، ولربّ تحقيق استقصائي ناجح، أكثر وأوفر شعرية وأجدى من قصيدة تدّعي همّاً إنسانياً، وهي فاقدة للحذق والفن، ومعطّلة من نسغٍ يُحْيي إنسانيتها.

الشعر هو قضية الشعر. وقد يتجلّى الإنساني، في أبسط المظاهر: رصد غيمة شاردة، حركة ريح واهنة بين أوراق شجرة، التذكير بنعمة ظل الضحى، أو ابتهاج النظر بدوائر الضوء الصغيرة على الأرض بفعل أشعة الشمس.

الشعر هو قضية الشعر. وقد يتجلّى الإنساني، في أبسط المظاهر: رصد غيمة شاردة، حركة ريح واهنة بين أوراق شجرة، التذكير بنعمة ظل الضحى، أو ابتهاج النظر بدوائر الضوء الصغيرة على الأرض بفعل أشعة الشمس. هذه «قضايا» وهي أحقّ بالمرافعة، وبلْوَرتها شعرياً، مما يزعمه شاعر/ة آخر/ أخرى في شعر مزعوم مكرّس، لنصرة المطلّقات، مثلاً!

وثمة مثَل لا يقل خطورة عن ذلك، هو الانشغال باحراز قصب السبق في ما هو شكلي، مجرّد، كغاية. ومَهما أوتي الشاعر المعنيّ من حظ متخيّل في سعي كهذا، فلا يعدو ذلك أن يكون سوى مظهر من مظاهر تفتت إنساني، وعنوان لنرجسية وأنا متضخمة، لا يُبقيها على قيد وجود أدبي، هارٍ، سوى عِلَلها. وليست بعيدا من ذلك، أوهامنا الشعرية العربية الكبرى. فثمة تماثيل آيلة للانزياح/ السقوط عن قواعدها، المُقامة، لولا ثقافة هشة، لا تجيد المراجعة والنقد المحض، النقد الجذري، المنزّه، وإلزام كلّ تمثال حجمه القمين به، فلولا ذلك لما شغل أولاء، خاصةً، بعد استنفادهم أيّ إمكانية للجديد، برهة عابرة، في عمر الشعر الأبدي. تماثيل تسمن وتترسخ إسمنتيّتها، موسماً بعد موسم، بفعل نقدٍ كفيف، إن لم يكن قاصراً ـ بفعل فقده مجسّات الاستشعار ـ فهو مجامل ومسفّ وآفن.

الحداثة الشعرية العربية تبقى ناقصة، وعلامة نقصانها، أنها ابتدأت مقلّدةً. والشعر لا ينفصل عن مجمل البنية الثقافية العربية، الثقافة هنا بمعناها الأنطولوجي. والشاعر العربي يعيش أزمة وعي بما يكتبه، على الأقل، على صعيد الشكل، خلافاً للشاعر الغربي. غير أن ذلك لا يتعارض مع المنجز الشعري المتقدم، فنياً وإنسانياً الذي أحرزته القصيدة العربية على أيدي شعراء متميزين. ينشغل النقد ـ على علّاته ـ بالأسماء قبل النصوص، وهذه واحدة من نواقض «طُهر» النقد لدينا، فترى التكأكُؤَ حول نص معين، وعلى مرّ العقود، لاسمٍ، لمجرد شعشعته ـ إلّا إذا كان هناك ما يستحق التنقيب ـ في الوقت الذي يُنبذ نص يحوز من مقومات الشعر، ما يستوجب أن يكون مناسبة لبهجة شعرية، لا تحدث كثيراً، وما ذلك إلا أنّ صاحبه ليس من المهيمنين في الوسط أو على الوسط، أو أنّ البريق قد جافى الاسم، أو أنه غير معني بما هو خارج عملية الكتابة. الانشغال أو التشاغل النقدي هذا، يكاد يكون هو القانون، عدا استثناءات شحيحة، لكنها وافرة بذهب الاكتشاف كما في الدراسة النافذة، للناقدة نادية هناوي لقصيدة الشاعر عبد الرحمن طهمازي «تمرين على اليقين» والتي ضمّها كتابها الموسوم، «الطائر المكدود في البحث عن اليقين المفقود». لكن كم من هناوي في النقد العربي، نشاطاً ومبادرات وولهاً يكاد يكون صوفياً، حين تحين لحظة الشعر الحق، كما في تعاملها مع النص المذكور. وكم من طهمازي ووريَ الصمت، بسبب فوضى وانحياز سوق النقد والأدب التي يعلو فيها رنين العملات الرديئة على الجيدة. وبوصلة الشعر، لم تعد أسيرة الجهات القديمة، التي اعتادت أن يُشار إليها. هذه البوصلة المتمردة، صارت تشير إلى قِبلات شعرية ناهضة، كما في الخليج والمغرب، فلا يتوانى مؤمنو الشعر عن التوجّه إليها، وطلب أسفارها، مع عدم الانفكاك عن رصد توالي البروق من جهات الشعر المعتادة، ووعودها.

وفي النسغ الجديد من شعراء تتسع قصائدهم وتتوسع بأفق إنساني، بلا افتعال أو ادّعاء أو نشدان مطالب خارج الشعر، وعدٌ بنسف التماثيل التي أدمنت وأزمَنَت اقتعاد كرسي الشعر، حتى لم يعد يمكن التمييز بين قوائم الكرسي والتماثيل ذاتها. وهو ما سرى تكلّساً وتكسّراً في جسد القصيدة العربية، هذه القصيدة التي تعيش، راهناً، مقدمات الهبوب الطارد لطحالب العادات الشعرية، الهبوب الذي يُؤمل، أن يغدو تياراً وعاصفة، وإلّا فستحكمنا، التماثيل، طويلاً.


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن