الدكتور خالد حوير الشمس جامعة ذي قار/ كلية التربية
حكيم الصباغ شاعر من الناصرية، إذا أردت أن أُجيله، فإني أضعه ضمن جيل السبعينيات، بحكم المدة التي برع فيها، وهو يمثل جامعة البصرة في ميادينها الشعرية، ضمن هذه المدة. نحن الآن قريبون من شاعر، نشهد له بأنه صاحب يراع، ولغة عالية، ومجازات مؤثرة، أملت عليه الحياة أن يعيش ثلاث مراحل في حياته.
الأولى عيشه في بيئة الصبا، والشباب، وسط جو عصامي، وحياة شبه مغلقة بفعل العامل السياسي، والاجتماعي لمدينة الناصرية، وهذا له انعكاس على الشعر حتما.
ثم المرحلة الثانية عيشه في بيئة الاغتراب، خارج العراق، في كندا، بفعل الظروف السلطوية التي لاحقت الإنسان العصامي، والثقافي، فقد هشم البعث المقبور تلك التوجهات الأدبية، التي تسعى لإيصال الإنسان إلى بر الإنسانية. ثم المرحلة الثالثة العودة ضيفا إلى عراق جديد، متغير، زالت عتمته الواحدة، ودخوله في طرق، ومتاهات لم تعرف الاستقرار منذ إحدى وعشرين سنة، مررتْ العراق بمنعطفات مهمة، أولها سقوط الصنم، ثم دخول داعش، ثم مظاهرات تشرين 2019، ثم حدوث تغير اجتماعي خطير، يتسابق إلى غلبة العمامة، والكوفية، فصار هاجس الانفتاح عاملا خطيرا في المجتمع، يتمثل في وعي الشباب، ومكانة المرأة، تراهن تلك المنعطفات الأربعة على دس الألفاظ المناسبة لها، فيأتي الدور للشاعر في امتصاص المفاهيم، والبرهنة عليها، وتحقيق الإمتاع، والإدهاش، والإقناع. وثمة غرابة في هذه المراحل المضطربة، أن حكيما بقي واحدا، جزلا، لم تمل عليه هذه المراحل الثلاثة من معجمها القاتم، والعابس، والحزين، بل بقي رقيقا، جزلا، لا نكاد نفارق أداءه الشعري إذا سمعنا شعره
ماذا يفعل حكيم الصباغ في أشعاره عبر المدونة التواصلية له، وعبر الكتابة الصحفية، والمناسباتية؟ أي الطرائق يسلك ليكون بليغا، جزلا؟ يهتم الصباغ بأن يمارس أسلوبا أدائيا، ذاتيا، ينعزل عن الرداءة، ويقترب من التأثير، بحسب طابعه الثقافي الذي مر به مسبقا في السويد، البلد الذي ينعم بعدالة تامة، وبرفاهية مقبولة، وبعدالة اجتماعية واضحة، وباستقرار ثقافي، واجتماعي، وديني.
والجزل في شعره لا يعني الرقيق، وإنما البليغ، القوي، الذي لا يدخل الركاكة، والرثاثة، اعتمادا على تقنية لغوية ما، وتناغما مع بعد اجتماعي، وثقافي، فتأتي ألفاظه عذبة، منسابة في الفم، دالة على معانيها دونما لبس. وقد تأتي الجزالة في اللفظ، وفي التركيب، حتى عد القدماء أن الجزالة واستقامة اللفظ عمودا من أعمدة الشعر، لأنه يدل على التعبير المؤثر، الذي يترك يؤثر على السامع، وسأقتصر على تطبيقات اللفظ في أكثر من قصيدة عند حكيم الصباغ، فتجيء آليات الجزالة على وفق شرف المعنى: ويعنى به الابتكار، والسلاسة، والمناسبة بين اللفظ والمعنى، وسياق المقام، إذ استعمل شدة المعنى في مقام الرقة في التعبير، أو دمجه مع معنى شفيف، فيقول حكيم الصباغ في شعره راثيا الإمام الحسين ع في جو سياسي مشحون بالمراقبة، والتشدد، في قصيدته : يا أفصح الموتى , بحقّ الحسين -ع - بين ١٩٩١ -١٩٩٦:
أنشدْتَنا جُرحاً , مضى قُدُما , مِنْ أقحوانِ النورِ , يُنتَخبُ
حتّى تَجيء الناسَ مِنْ غدهمْ : ماءً , نبيلاً , شأنُهُ عَذبُ
يُصارُ صمتٌ : بئرَ معجزةٍ , زمّتْ وروداً لونُها رحِبُ
للهِ نزْفٌ جلّ مضطربا , إذْ في الدنى الوجدانُ يُستلبُ
ما زلتَ : إنْ عيناكَ وبّختا , في النخلِ جدباً , يشرق الرطبُ
أسجل بإعجاب تلك الرقة ، والجزالة في انتخابه للألفاظ التي تقدم لنا مبادئ الإمام الحسين ع، وعنفوان ثورته، إذ جعله مركز النص، معبرا عن قضيته بلغة تنساب إلى القلب، وهذا ما وجدته في لفظة (أنشد) بوصفها فعلا ماضيا، مأخوذ من مجال الموسيقى، وفضاء الأداء، ليضعها في إطار العقيدة، والحرب، والحَزَن، والعبرة، والصناعة الفكرية، وصناعة المبادئ، التي شكلت شعلة للبشر، ثم أتبعها بلفظة (اقحوان) التي تتطرز بالرقة العالية، وهي مأخوذة من فضاء الطبيعة، موظفا إيها في إطار العقيدة، والحرب.
ويستمر في القصيدة ينقر على وتر الألفاظ الشفافة، فيجد في استدعاء لفظة (ماء) لكونها لفظة عذبة في النطق، والدلالة، فأصاب الصباغ في صبها في مجال النبل الحسيني، لتناسب البركان المستقبلي للناس.
ثم ينادي لفظا جزلا آخر يناسب معناه، (زمت ورودا) فاستعاره من الماء، والشدة إلى إطار الورد،؛ ليجعل قضية الإمام الحسين ع فواحة، فوارة، تكسب الوهج، والشَّرر، فجعل الزم للورد، مع أن الورد يفوح رقة، ونعومة، ويكون ميلاده هادئا، متدرجا، في حن أصل الزمِّ للماء، وفيه نوع من العسر، والشدة، والزمُّ : الشدة بحسب ما ورد في المعجم العربي.
فقد كان حكيم الصباغ شاعرا جزلا، يدقق في توظيف اللفظ مع القصد، ويسعى لإقامة شعرية عالية، عبر منفذ الجزالة، التي وضعتها النقدية العربية القديمة من ضمن مقولات عمود الشعر.