13 Apr
13Apr


كتب : علي الغريفي 

  عقلنة الذات ورفض الأيديولوجيا وشيء من الرومانسية وتنوعات صوفية كلها تزدحم في المشهد الشعري ل ( حزنخانة ) علي مجبل ، فليس من السهل الدخول الى هذه المجموعة المختلفة دون ان تمد جسرا حواريا نقديا وفكريا معها . 

التاريخ الشعري لعلي مجبل حافل بأسئلة كبرى مرت بأطوار وسمات وتيارات  أَلَّفْت خصوصية مميزة وثيمات أولاها الشاعر أهمية بالغة مما منحها تفسيرات رؤيوية اثرت بشكل صحيح ومميز على مظهر القصيدة الحديثة وعلاقتها باللغة ، واقتراح المساحات الجمالية ذات قطبي التركيب الذهني وشغف التلقائية المحكمة البناء والطراوة . 

ثمة مقطع من قصيدة يفتتح الشاعر مجموعته بها تحت عنوان ( احجار المدن العاصية ) :


 " ستجرك الطيور 

وتدميك الفتن بمنقارها 

جلجامش أيها البعير العراقي 

ألا تعبت ؟ وهم يجرونك لحرب في البصرة 

لا ناقة لك فيها ولا وطن " 


نجد ان الشاعر قد التزم بالأسطورة ومزجها بالواقع وتناوله بشكل مباشر . ورغم تراكم الأسئلة لدى علي مجبل الا ان شروط مقاربات القصيدة تفرض نفسها في نص الشاعر ؛ ليقدم لنا  ديناميكية جديدة لاتخلو من تراكمات الأحداث ،  وزمنا آخراً لا يخلو من المتابعة حيث يقول في ذات النص : 

مامعنى شبابك يتبدد مثل غاز الشعيبة ؟ 

مامعنى دمعك يخرّ مثل قصيدة ؟ 

ستنجو من الحياة 

وتدنو مثل صفير 

لكنك ستندثر كهيكل بلا أباريق " 


القارىء لن يذهب بعيدا في متتالياته القرائية حتى يقف بدهشة اخرى امام نص جديد ومفترق وعي قادم بالإشارات الخضراء الجمالية حيث قصيدة : ( الاوطان المطهمة بالفقراء ) ، 


" لم يكن وبالاً مرورك بالحياة 

بل كنت إشارة لاحتقان المعنى 

مناسك للنفط 

وتقاة بلا أغصان 

يمكيجون الوقت 

ويسقون المدن بالكلام 

الكلام الذي استدرج الشواطىء للمطارات" .


       فضلا عن دقة البناء وعلاقات اللغة التي تحرث النص لتبذر المعنى  ، وذات الشاعر المخاطبة ، فان أفق النص الملون بأسئلة الشك وسخرية الحلم تبشر بنبوءة ميتافيزيقية تتناسل في مجازات دلالية لأنا الشاعر المتتالية في قصائد المجموعة وحضورها كشرط داخل عزلة المتخيل الشعري كشرط إضافي لثبات قدرة الشاعر على التحول والارتقاء بالكتابة الشعرية الى مصافات الكتابة المعرفية المغايرة لمسار الواقع الذي يخادعنا. 

ويستمر الشاعر في ذات القصيدة الى :"


تُرى كم من مطعم ينتظرنا 

في رحلة مشوبة ... بالحياة 

الجراحون الأوائل أسهبوا في صناعة الالم 

خوفا على مهنتهم 

بعدما جرحوا كراسة الحياة 

حتى سالت اللغة من الادعية 

هم الان ينافسون الله في دينه " 


وهنا تعيد القصيدة النظر في علاقة أنا الشاعر وأدوات إنتاجها ، فبعد ان كانت هي المأوى تحولت الى شيء اخر وفتحت لنا ابواب التغيير وتبدل الدلالات اللغوية والجمالية من حالة المعالجة الى التمزق واقصد هنا الخروج من الإيحاء الى التكثيف المباشر والصريح والخروج من الشعور بالخيبة الى الخيبة المباشرة . 

تبحر القصيدة الثالثة ( رسم وطني )  لحزنخانة علي مجبل في عالم جنائزي تنزلق فيه الحياة الى الظلام مما يضطره لاستعارة سمعه لوطن لايراه باحثا عن مصائر بشر بين اشتباك اشتباك اللغة وقسوة وتمرد المسلمات الذرائعية في مشهد سوريالي حضر اليتم فيه وغابت الجغرافيا مما اوعز للشاعر الى إيجاد ارض جديدة له مسكونة بهاجس الانتماء الى الراهن الشعري للنص


 "ان ينام المدونون بلا قيثار 

وان تسمع بالوطن ولا تراه 

وان يشتبك الرواة على شظايا من رماد 

هو حاصل ضرب المدن باليتامى 

وقتها تحتاج الفوانيس لتزيح البلاغة عن الظهيرة 

ان تمشي وقلبك يحفر خندقا بين سرايا العشائر 

هو رسم وطني " 


ثم يرخي الشاعر لغته لأسئلة اشكالية  يقترحها الشاعر ذاته ليستقرأ  مكابداتها المتشبعة بأكثر من تاريخ  يفترض فيه الحضور والغياب والذاكرة والنسيان ومن ثم الانتقال من وأحدية الشاعر  الى تعددية المتلقي ،


"ان تمكث في عاهتك عقدين من الدمع في طابع بريدي 

وتقتني اسمك من فضلات اللغة 

وتغسل قبر امّك بمياه مستعملة 

هو ايضا رسم وطني " . 


ان اسرار قصيدة ( حزنخانة) التي أسرت الشاعر وجعلته يختارها عنوانا لمجموعته وهي الرابعة في تسلسلها  اخذت الشاعر في حوار داخلي مع وعي الانا ولحظاتها ومواقفها غير العابرة    لزمنه الذي تتعالى فيه الأدخنة ويكثف فيه الموت حضوره اليومي   هذه الأسرار اخذت الشاعر في رحلة كشف عن ممارسات لغوية وعلائق جديدة تفكك ايدولوجيا الذات والانقضاض على تشعبات ووعورة التجريد  التقليدي ومباغتته  بانزياحات انحاز لها   الشاعر مسبقا برؤية فلسفية وبصيغة ابداعية متقدة تهب للنص خطبة الحياة وجوهرها . 


" كن ولو مرة تنظف الأبجديات بسفينة المعنى 

كن ولو فرصة ترابية بلون المضيعين 

كن للوراء 

وانت تمر بنافذة مامر من اسلافك بمضافاتها 

نحن الذين نجر الالوان لنكمل اللوحة التي تتطاير منها النبال 

كما نذرف الأغاني لوطن يبيع الحقائب بطعم الفراق 

الكلام هو مضيعة في منتدى الرواة كما قلت لك " . 


لم يكتف الشاعر بهذا الخلق من حزنخاناه في هذه القصيدة ومستوى الرمزي لطقوسه ،   بل راح الى ابعد من ذلك حينما فتح افقا من توظيفالسرد والحوار وأمكنة التاريخ والأسطورة .


" انا معكم بشرط ان اكون سمير العاصفة 

وعلى افتراض ان مظلات بغداد 

هي سندباد الفقه وآلة النعيم " . 


 ان جمل القصيدة الغنية بثنائية  قلق الذات وحدوسات الشاعر المليئة  بالحلم  والخيال  والنسيان  والموت والحضور والغياب والتجارب الموازية  والعلاقات الحادة  بين اللغة ودلالاتها ،  جعلتها تتجاوز خارطة النوع الى اعادة ترقيم المجموعة عبر اختيارها عنوانا تاما لها . 


" هنا في كل جمعة يضج المعذبون 

ياإلهي سوف اموت ولا ارى خطبة الحياة 

وهي تدور بين المقاهي وفجر الالوان ".

 في قصيدة ( جبين العالم ) الخامسة في تسلسل المجموعة  ، سرّب الشاعر لغته الى واقع اجتماعي وسياسي متكلس ،  سعيا منه لخلخلةبُناه التقليدية التي أسرفت في العطش والدم واليأس ، واحداث مقارنة بين عقلية المجتمع وعقلية النخب الثقافية اعتمد فيها احداث مقارباتفي لغة تصويرية جديدة وبناء سردي جمالي يواجه الفراغ بواقعية . 


"  انت تدنو من القضية 

ومن زجاج غروبي 

انت تدنو من شظايا النايات 

ومن عتاد الآلهة 

انت تدنو من لون الفقراء ... المسافر . 


الى ان يَصْل : 


سلام لوجهك الذي نزفته النواميس 

انت كل الفصول التي سقطت من القافلة 

انت سيرة ذاك الطين 

الذي ظل نهبا لجند الخليفة 

انت الناصرية ... الراكضة بالالم 

والمدهوشة بالهشيم " 

 ويستمر الشاعر في جهد مشبع  بانقلاب ا لمعايير والقيم  الفنية  وتحولاتها  الجيلية   ف هو القادم من نصه  الاول  منتصف الثمانينات والباحث عن الدلالة الى نصه الحاضر  في  نهاية ا لسنتين الاخيرتين من العشرة الاولى في الافلينيات حيث الحيرة في السؤال والدهشة . 


" لماذا وجهك بلا وطن 

لماذا اجراسك بلا فضة 

ولحنك بلا ذخيرة 

لماذا احزانك بلا أزرار 

وجندك بلا تراب 

يامثقلا بالقبائل 

ومتشحا بالخصوم 

اه كم طال شتاء الرصاص " 


ثم يستمر الشاعر في تجليات القصيدة وهندسة صورها وتخيلاتها الذهنية والواقعية واسترجاعها عبر موروثاته  القرائية المتعددة  كالرمز والأسطورة والاستعانة بالموروث ويمكن ملاحظة ذلك من خلال استخدامه المتكرر لكلمة ( الرواة) ، وهذا ما يسهلّ علينا تحديد دائرة صراعالشاعر مع واقعه واصراره على تجذير رؤاه بان الشعر وسيلة من وسائل تغيير المجتمع . 


" 

إنكما ماء العراق الاول 

ولوحته النازفة 

مولاي اني بقدر ماحملت من الرايات 

غدوت بلا .. قضية 

بلادي التي تنفعل وتمسك شاربها .. كالعادة 

في اخر الليل 

تسترخي في رابعة النهار 

وتنام على وجع السقيفة متنكبة بالرواة"


ويراهن الشاعر في نصه السادس ( سيرة دمعة ) على ضرورة الكشف عن عزلة ونسيان المرأة والصمت الذي غلفها بالحزن والالم مستخدماأقصى مفازات اللغة لسبر غور الذاكرة . 

" هن سلالات من جروح 

ودمعات من دخان 

لاجنة تحت أقدامهن 

ولاظل لهن .. ولا سمير 

الناذرات سيرتهن 

والباذلات قرابهن على الارصفة السومرية 

لم يعرفن البهجة الا بالنحيب 

ارملات الجنود " . 


ان الجمل القصيرة  التي استخدمها الشاعر والرمزية الخطابية سرعان  ماتحولت  لدية من رسم شعري الى مطاردة العدم والوجود . 

" هكذا اليائسون 

حيث لاناصر لهم من صرير الآلهة "


 الشاعر الذي ارتكب اكثر من لغة في  كتابة  نصه بذل جهدا جماليا كبيرا وهو ينتقل  بنا الى لغة تأويلات الوجوه التي تقف عند الحدود المشكلة لمعاناة ورغبات الشاعر . 

" أيها الذي .. هو انت 

أيها المصبوغ بالحزن والطبول 

ها انت تلفظ من فم البصرة 

وتيمم وجهك صوب الناصرية 

موطن العسس القديم 

ورقيم الخسارات 

ولاشيء في الأفق غير الحدود"


وللحديث بقية …… 



تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن