15 Sep
15Sep

د.هاني كنهر العتّابيّ

هذا العنوان (استعارة كبرى) تتلخّصُ بنقل فكرة الـ(حِكَم) من قواعد (بول غرايس Paul Grice) التداوليّة، وإضافتها إلى السرد بعدّه أسَّ العملِ القصصيّ؛ وقد يبدو للناظر في العنوان أنّنا نريد (قواعد التخاطب) أو (قوانين الخطاب) من منظار (غرايس) نفسه، غير أنّ هذه القراءة التأويليّة لا يُرادُ لها ذلك على وجه الدقّة، بل تنشغل قراءتنا لمجموعة (المَغْزَل) بالقوانين أو الحِكَمِ أو القواعد السرديّة التي سار عليها موسى غافل في مجموعته، ولعلّ استعارتنا للحكم فيها كثير من المجازفة؛ لأنّ بعض هذه الحِكَم قد تكون خروجا عن منطق اللغة، ولكنّ ما يشفع أنّ الاستعارة هنا تعمل على استثمار مفهومين فيهما شيء من التضادّ: الأوّل مفهوم المماثلة، والثاني مفهوم التفارق، بمعنى أنّ العلاقة بين (حِكَمِ المحادثة) و(حِكَمِ السرد) علاقة مماثلة وتفارق، والمهم أنّها علاقة ثنائيّة لا تناقضيّة، أو قل إنّها علاقة تقوم على الاحتواء.    تنشغل هذه القراءة بمجموعة المَغْزَل لموسى غافل الشطريّ، وتعمل على تقديم نظرة شموليّة لها، وإن أوحى العنوان إلى أنّنا نتعامل مع جزئيّة من جزئياتها، أو ملمح من ملامحها، أو طريقة من طرائق التعبير فيها؛ لأنّنا نريد الظواهر التي ألّفت (حِكَمًا سرديّة) في هذه المجموعة، أي: كيف أدار الشطريّ مَغْزَله لينتج خطابا قصصيّا مقصودا؟ وكيف يُدارُ المَغْزَل في هذا الخطاب؟ وكيف تُطوى فيه الأشياءُ والآلامُ والأعمارُ؟ ولعلّ النظر في هذه المجموعة على وفق هذا المفهوم يتوّزع على ثلاث حِكَمٍ:

الأولى: البناء المجازيّ.

تندرج مجموعة المَغْزَل في أفق فنّيّ مبنيّ على المجاز، فهي من جهة تنتمي إلى الأعمال الأدبيّة التي تستند إلى المجاز في إظهار فنّيّتها، ومن جهة أخرى تخرج عنها في اعتمادها أبنية مجازيّة غير مألوفة، فيها من الدقّة والوضوح ما لا يحتاج القارئ معه إلى مزيد تفكّر، ولعلّ ما يعنينا هنا أنّ في قصص المَغْزَل ضروبا من التعبيرات المجازيّة التي تتّصفُ بالغرابةِ والجدّةِ في الآن نفسه، فهي غريبة وإن استندت إلى الواقع، وهي جديدة في بنائها المجازيّ.   

  ومن أمثلة ذلك تشبيه الطيور بالنقط السوداء؛ إذ قال في الجذور المتوحّشة على لسان أحد شخصيّاتها: "كأنّنا ماضيان نحو ذلك القرص الدمويّ الهائل، كنت أرصد الطيور نقطا سوداء كأنّها تتلاشى في ثقبه المعتم" (المَغْزَل: 6)؛ وهذا الوصف المجازيّ على ما فيه من الجدّة واللطافة لم يسبق إليه الشطريّ، وهو وصف غريب وإن كان مستندا إلى الواقع، وقد كرّره الشطريّ في قصّة حادي القافلة؛ إذ جاء فيها: "في الأفق البعيد، والشمسُ تجنح للمغيب، رصدت عيونهم سربا من الطيور محلّقا، مثل نقط سوداء ماضية إلى أمام" (المَغْزَل: 83).   

وقد طفقت المجازيّة تتنامى في مجموعته كلّما دار مَغْزَله وأنتج قصّة أخرى، لكنّ هذه الأبنية المجازيّة تتّصف بامتلاكها شروط التأويل؛ أي أنّ القارئ قادر على تأويلها من دون جهد، ومن دون أيّ مبالغة أو تقويل، وإن كانت بعضها صفات غير منسجمة مع الموصوف؛ لأنّ الشطريّ وظّفها لإثارة الانتباه، وتعجيب القارئ، ومن ذلك وصف الصوت بالكلم؛ إذ يقول: "انبعث أنين الفتاة بحرقة، فلاح صوتها مكلوما متهدّجا" (المَغْزَل: 12)، فوصف الصوت بالتقطّع مستعمل، وله أصول معجميّة، أمّا وصفه بالكلم فغريب.   

 وفي بنيّة مجازيّة أخرى يعمل الشطريّ على تحفيز القارئ إلى ولوج عالمه؛ إذ تكشف عن علاقات إسناديّة غير مألوفة لديه، قدّم فيها مقطعا إسناديّا وصفيّا يصوّر فتاة تنظر إلى أحلامها، وهي تحمل إليها ما ترغب فيه؛ فيقول: "طالما أرهفت سمعها، وهي مستلقية على سريرها، إلى هدير تلك الطريق، لترى أحلامها حمّالة إليها أعزّ وأبهى حبيب" (المَغْزَل:14). 

   غير أنّ ثمّة أبنية لغويّة تنفرد عن شكل البناء المجازيّ للمَغْزَل؛ ليس لجدّتها فحسب، بل لغرابتها؛ إذ إنّ اسم المفعول (مكبوح) قد يرد في اللغة وصفا للدلالة على الإيقاف أو المنع، وغالبا ما يوصف به الفرس، ولكنّ الشطريّ وظّفه توظيفا خاصّا؛ إذ جاء في المَغْزَل وصفا للانتظار، في قوله: "تسحب رتاج الباب، تفتحه قليلا، وتظلّ مختبئة خلفه، بانتظار مكبوح" (المَغْزَل: 14)، ولعلّ وصف الانتظار بهذه الصفة وصفا غريبا، وكأنّه يريد أن يوضّح أنّ هذا الانتظار ممنوع، بدلالة الاختباء.   

 ولم يكتفِ الشطريّ بهذا الحدّ من الخروج على الأبنية المجازيّة المعتادة، وتوليد أبنية جديدة تتّصف بالغرابة، بل جاء في قصّة (الغائب): "طرفت بعينيها الدافئتين، وشيئا فشيئا، زحفت سحابة نوم خجولة، تحتضنها برفق، وتدثّرها بطيف هادئ" (المَغْزَل: 20)، فالفعل (دثر) له أصل معجميّ غير مضعّف دالّ على القدم والدرس، وقد يستعمل في التغطية الحقيقيّة، ولكنّ توظيفه بهذه الصورة المجازيّة غير مسبوق إليه، وهو مع غرابته يدركه الذوق.  

   وهكذا فأنت تجد المجاز يطغى على البناء اللغويّ للمَغْزَل، وبصورة تمثّل علاقة اللغة بالواقع، والواقع باللغة إلى درجة التجانس؛ إذ ينتشل الشطريّ صورة واقعيّة ينقلها ببناء مجازيّ خلّاق، يستثير الإحساس، ويتلاعب بالشعور، ويحاكي العقل، وكأنّك أمام (طلّسم) بحاجة إلى تأويل، غير أنّه يوفّر لك شروط التأويل، ومن ذلك ما جاء في قصّة طارق الليل، إذ يقول: "في كلّ ليلة مقمرة، يسهر العشّاق، مثل نجيمات أرّقهن الهوى والأنين" (المَغْزَل: 21).  

   ثمّ انظر كيف يشبّه الابتسامة الصامتة بالوشم، في دلالتها على الدوام؛ إذ يقول: "حينئذ... يلقي إليه بنظرة ساخرة، وابتسامة صامتة غامضة، التي أبقاها دهره كالوشم على شفتيه" (المَغْزَل: 23)، ولمّا كان المعيار الأساس لتحديد المعنى هو الاستعمال، فإنّ استعمال يقارب بين الابتسامة والوشم يتّصف بجدّته، وبغرابته، وبدلالته على الدوام. 

   ويبدو أنّ لغة الشطريّ في المَغْزَل تبنى على نقض المألوف في انزياح ينتج على مجازات بعيدة؛ لأنّ القاصّ ينشئ علاقات جديدة غير مألوفة عند القارئ، فلا قيمة للانزياح وحده، وإنّما القيمة للعلاقات التي يقيمها الخطاب القصّصيّ في مقامات متطوّرة عابرة للمألوف.     

ولكنّ هذه العلاقات ليست غريبة عن منطق الاستعمال؛ نحو علاقة الأحلام بالرسم والزراعة، وعلاقتهما بالرأس، في قصّة سندباديّون: "كم من أحلامٍ رسمها أبوه في رأس أمّه؟ عن السفر بين النجوم، بعربة من الفيروز، والياقوت، والحصان المجنّح، هذه الأحلام الجميلة: لماذا زرعها أبوه في ذهن أمّه" (المَغْزَل: 136)، ولعلّ أبرز ما يميز البناء المجازيّ في هذه المجموعة أنّه قائم على الذوقيّة البلاغيّة، الذوقيّة الأمّارة بتطبيق التجريب، أو بتجريب علاقات جديدة خارج حدود الوضع؛ فالقاصّ يأخذنا في رحلة استكشافيّة، يقدّم فيها مسوحات لمشاهد واقعيّة، مبتعدا عن توظيف أدوات التكلّف والتصنّع والمبالغة، واضعا القارئ بين الواقع والفنّ، تاركاً إيّاه حائرا بطلاسم المَغْزَل.

الثانية: القيود اللغويّة  

   إنّ الخروج عن القيود اللغويّة أو قواعد الاستعمال هنا لا يمثّل انتهاكا لقوانين الخطاب لأجل تحقيق إفهاما أتمّ، بل يمثّل مزجا بين مستويات اللغة إلى حدٍّ تُنتهك معه قواعدها، وتُستعمل الألفاظ والعبارات استعمالا أقرب إلى لغة الاستعمال اليوميّ، وهي لغة تكشف عن عذابات الكاتب ومعاناته، في محاولاته للوصول إلى العامّة، ولكنّها من أشدّ ما يؤخذ عليه.   

 ومن أمثلة ذلك استعمال الفعل (انهدّ) بمعنى الشروع والانطلاق، نحو قوله: "كان نشيجها الطفوليّ يتموّج مثل ثوب تعصف به ريح على جسدها. فاهتزّت بانفعال غامر. 

ثمّ انهدّ النواح عنيفا، ولم يعد باستطاعة الأب أن يصمد" (المَغْزَل: 12)، وهو معنى غريب لم يرد في معجمات العربيّة؛ إذ ورد الانهداد بمعنى الانكسار فقالوا: (انهدّ الجبل): إِذا انكسر وانهدم (تاج العروس: 9/340)، ولم يرد بهذا المعنى في الاستعمال.   

ومن ذلك أيضا استعمال المصدر من (نضج) على (فعول) فيقول: (نضوج)، نحو قوله في مفتتح قصّة (ذات الإطار الأبنوسيّ): "كانت العاهة التي عوّقت (فريد) قد وفّرت له إدراكا مبكّرا بما يحدث من خفايا الأمور، دون أن يبدو على ملامحه ما ينبئ من نضوج  سوى زغب كحليّ" (المَغْزَل:31)، في حين أنّ مصدر الفعل نضج (نُضجٌ) لا (نضوجٌ)، والثاني مرفوض لعدم وروده في الاستعمال. (معجم الصواب اللغويّ: 1/760).  

  ويظهر أنّ استعمال نحو هذه المفردات، وإن كان هدفه تقريب لغة الخطاب القصصيّ من اللغة المستعملة، يعدّ خروجا عن منطق اللغة، ولعلّ ما يدلّ على قصديّة هذا الاستعمال لغة الكاتب العالية، واستعمال كثير من الكلمات بالمعنى الدقيق لها، نحو استعمال الفعل (يتلفّع) بمعنى (يتغطّى) في قوله: "يتلفّع العاشق بمعطفه الخلق" (المَغْزَل: 22)، وغيرها من الاستعمالات التي تدلّ على سعة معجمه اللغويّ، ودقّة توظيفه للعبارات والأساليب. 

الثالثة: ضمنيّات الصمت.   

  إنّ قارئ المَغْزَل يتوقّع عبارات (الصمت والعوق والفيء والعباءة والإيماء) في كلّ قصّة؛ لأنّه اعتادها؛ إلى درجة لا يمكن أن يفقدها في إحدى قصصه؛ لأنّه يوظّف المسلّمات (المدثّرة) التي بدت على رأيه تؤلّف عوقاً اجتماعيّاً فاضحاً لا يحتاج إلى صوت؛ بقدر حاجته إلى (ضمائر) تظهرُ بالعمل الجادّ، والرغبة في التغيير.  

  ولأنّ الكاتب من الذين يعدّون الأدب فنّا ثوريّا، فإنّ القارئ يكشف عن ثوريّته في توظيف نحو هذه العبارات؛ فإن حاول القارئ أن يحصي عبارات الصمت على سبيل الذكر، يجد أنّه قد وظّفها في كلّ قصصه، فلا يمرّ على قصّة إلّا وكان التعبير عن الصمت مكرّرا فيها، حتّى أنّ القارئ ليسأل عن سبب توظيفه: أهو عائد إلى قصور معجمه السرديّ أم مقصود تكراره قصدا أكيدا؟   ولمّا كان الصمت عند التداوليّين أشبه بالعلامات اللسانيّة، أو قل هو علامة (مجازا) على تحقّق قول ما في ظروف السياق، كانت له دلالات جليّة في دورة (المَغْزَل)؛ على نحو قول الجاحظ: "فالصامت ناطق من جهة الدلالة" (البيان والتبيين: 1/12)   

  يوظّف الشطريّ في مفتتح قصّة الغائب للدلالة على الانقطاع؛ إذ يقول: "ألحّت أمّ حسن على كنّتها لكي تتناول عشاءها، أذعنت، وران صمت واستمرّتا تثرثرا..."(المَغْزَل: 12)، فالصمت هنا لا يدلّ على معنى قدر ما يؤكّد فعل الإذعان، أيّ أنّها أذعنت لما طلب منها، والدليل على ذلك أنّها صمتت، وبعد ذلك استمرّ الكلام، وقد يرد الصمت في القصّة نفسها للدلالة على الغضب؛ إذ يقول: "آنذاك جلسوا جميعا يثرثرون ووقفت صامتة. ثمّ تجلس وتغور عيناها في عينيه، فيختلس بين حين وحين، نظرات جافلة يبعثها لوجهها الخمريّ، مذيّلة بابتسامة متمسكنة، تطلب الصفح والمغفرة" (المَغْزَل: 15)، فالصمت في هذا الخطاب نسقٌ خفيّ دالّ على الغضب وعدم الرضى، ولا يمثّل مجرّد انقطاع. 

  وقد تتّسع معاني الصمت فيتحوّل إلى حكمة تناسب المقام، فقد ورد الصمت في مفتتح قصّة المَغْزَل للدلالة على تأكيد فعل الصبر، إذ جاء فيها: "تنفش الزوجة عهنها متمهّلة صابرة. وتغزل بصمت، والزوج رغم عوق ذراعه، يعمد إلى الطوي" (المَغْزَل: 55)، فالصمت هنا تصرّف مفتعل، وهو أشبه بالعلامة الدالّة على تأكيد الصبر، فكان له أثرا إيجابيّا في تقوية الدلالة وترسيخها.   

 وقد يرد الصمت في القصّة نفسها للدلالة على التوقّف عن البكاء، فالصمت هنا لا يمثّل فراغا خطابيّا بقدر ما يصوّر حالة من حالات شخوص القصّة؛ إذ يقول: "ويهدر بكاؤها المهووس كالرعد. ثمّ يتلاشى كالهشيم في أعامق الصمت القصيّة" (المَغْزَل: 66)   ويمثّل الصمت حالة من حالات العوق الفكريّ بسبب العوق الاجتماعيّ؛ فيصوّر حالة السكون؛ ومن ذلك قوله: تعود أمّ غنيّ صامتة، تقضي نهارها صامتة، تقرّر هي متى تتحدّث، هو أيضا ليس ملزما، أن يجيب بإسهاب، ذلك أمر لا يؤثّر على كفّة المعادلة، هم أحرار في الصمت" (المَغْزَل: 67)، ثمّ يتوالى اقتران الصمت والعوق مع دورة المَغْزَل، بسبب ضياع صاحبته في صبرها المفتعل؛ إذ "ما عادت تطيق حركته اللولبيّة، والمطوى، والكيس المحشوّ مصائب ... ما عادت لها أنوثة محتشمة، المَغْزَل ألغى الأنوثة" (المَغْزَل: 68).   

 وهكذا فأنت تجد الصمت وعبارات العوق والتغطية والصوت الواطئ بوصفها ثورة على الواقع الاجتماعيّ، ثورة تأبى أن تسجّل، فالصمت ليس قصورا معجميّا، ولا انقطاعا في لحظات الخطاب، بل هو معطى خطابيّ يمثّل فعلا تمثيلا ضمنيّا غير مقول، فيجعله بمنزلة المقول بالاستناد إلى سياق الحال.

      وإذا كان الأديب، أيّ أديب، يعمل على "تبليغ المعاني أكثر ممّا تدلّ بقول من الأقوال، فإنّ الشطريّ وظّف المَغْزَل توظيفا مدهشا، فهو يجعل القارئ يشاهد عمليّة الطيّ (الطوي)، فيطوي الحرب وآثارها، والاعتقالات ومآسيها، والدكتاتوريّة وظلاماتها ...، يطوي الأحداث القاسية، يطوي العوق، يطوي الموت، يطوي الصبر، المَغْزَل يدور وهو يطوي، يدور ويطوي، وما زال الكيسُ (محشوّا بالمصائب)، وعملية الطيّ (الطوي) هذه قد تكون مملّة، لكنّها، إذا ما نظر إليها من زاوية طيّ الآلام، تكون مؤثّرة ومثيرة ومؤلمة. إنّ مجموعة المَغْزَل تجسّد القول إنّ الأدب ثورة على الواقع، فالمَغْزَل ثورة.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن