منذ أن بدأت أولى خطواتها في عالم الكتابة السردية، والكاتبة العراقيّة رغد السهيل تحفر بعمقٍ بأسلوبها الذي لا تريده مُختصرًا تحت أيّة يافطة. ولدت السهيل في بغداد، وحصلت على شهادة الدكتوراة بعلم المناعة من جامعة بغداد عام 2004. تجمع بين العلم والأدب، إذْ حصلت على براءة اختراع حول علاج أحد الفيروسات التي تصيب الجهاز التنفسي في برنامج مشتركٍ بين جامعتي بغداد ودورهام البريطانية. أدبيًا، أصدرت السهيل أربع مجموعات قصصيّة هي: "ضحكة الخاتون" عام 2011، و"سايكو بغداد" عام 2013، و"كللوش" عام 2017، و"بانت سعاد" عام 2021، وروايتَيْن هما: "أحببتُ حمارًا" عام 2015، و"منازل ح 17" عام 2009.
(*) ما الذي جاء برغد السهيل الى الأدب؟
في الحقيقة هربت من الأدب أكثر من مرّة، لأنني أحترم هذا العالم كثيرًا، ولم أرغب أن أزجّ نفسي فيه، وأعتقد أنني قارئة جيدة. فابتعدت بكامل إرادتي واخترت الدراسة العلمية. مع هذا ظلّت الأفكار الأدبية تراودني، فتجد على صفحات كتبي أو أوراقي أفكارًا أدبيّةً أو حتى محاولاتٍ شعرية وتجارب قصصيّة، تجاهلتها واعتبرتها هواية. وحين أكملت تعليمي العلمي لم أجد في علم المناعة والفيروسات ذاتي، إنما كان مجرّد مهنةٍ وعملٍ انتهجته للعيش، لكن عالم الأدب قبض عليّ وفرض إرادته، فهو الجانب الوحيد الذي يعيد توازني الذاتي في عالمٍ لا توازن فيه.
(*) في أغلب نتاجك الأدبي ثمة صراعٌ قد يبدو مرّةً خفيًا وأخرى ظاهرًا بين وجود المرأة وما حولها. هل هي محاولة لتأطير الصراع أم هو توجّه للأفكار؟
من وجهة نظري، القضية لا تتعلق بالمرأة على وجه الخصوص، إنما تتعلّق بالإنسان كوجودٍ والمجتمع ككل، وما تعاني منه النساء هو انعكاسٌ للمعاناة الطويلة للرجال من سلب للكرامة والحقوق. ففي رواية "أحببت حمارًا" صورةٌ رمزيّة لهذا، فالغول قطع آذان الرجال، لذا لم يعودوا قادرين على الإصغاء لآهات النساء، بينما للحمار آذان طويلة. نحن جميعًا حصاد مجتمعٍ يتعرّض لما يتعرّض له من غبنٍ وامتهانٍ للكرامة، متى ما استعاد الإنسان حريّته وكرامته تعافى الجميع. بمعنى آخر لا يمكن أن تتعافى المرأة في مجتمعٍ مريضٍ، فعقلية وفكر المرأة هو ثمرة لما يزرعه المجتمع فيها من أفكار، وكما تقول سيمون دي بوفوار بما معناه أن "الأنثى لا تولد امرأة أنما المجتمع يجعلها كذلك"، لذا دائمًا حين أتناول النساء بقضية، ستجد إشارات أخرى لما يعانيه الرجال أيضًا.
(*) في روايتك "أحببت حمارًا"، ثمّة سخرية فاعلة. هل العنوان قصديّ؟
الحمار في هذه الرواية أشبه بإطار حول اللوحة الأصلية، وهي هدف الرواية، أقصد معاناة النساء في ظلّ تغيّر الأنظمة السياسية، وما يجلبه ذلك من انقلاب اجتماعي. كان من الضرورة إضافة نوعٍ من السخرية أو الكوميديا السوداء لتخفيف وطأة الوجع والألم في الرواية، أن يتم بيع طفلة من قبل ابن عمّها المعوّق وهو ضحية حرب ما. وأن تناضل سيّدة في العمل مع العمال في أعمال البناء المرهقة فقط، كي تدفع أجور المحامي، لتصدّق عقد زواجها بعد وفاته، لأن العقد كان عند "السيد". وأن تفقد إحداهنّ عقلها وتقف عند إشارات المرور تشتم باللغة الإنكليزية النظام السابق، وهي على درجةٍ عاليةٍ من الثقافة والتعليم لأنها كانت سجينةً سياسية، وغيرها كثير من القضايا الموجعة التي تعاني منها النساء في العراق خصوصًا، والوطن العربي عمومًا، وهذه القضايا تفيض بالسوداوية. كان لا بد من تخفيف كميّة هذا الوجع بنوعٍ من السخرية، كأني أربت على كتف القارئ ليواصل القراءة، لذا كان الحمار في المتن.
(*) مَن هو الحمار في هذه الرواية؟ وهل هو الجزع الذي ينتاب المرأة العربية والعراقية خصوصًا، وربما ينتاب المجتمع ككل؟
من الصعب أن تطلب من الروائي تحديد فكر القارئ بمسارٍ معيّن. ماركيز كان يرفض تفسير رواياته، لذا سأترك القارئ لينطلق بخياله ويفكّر من هو الحمار. القضية لا تتمثّل بالجزع، إنما بالانهيار الإنساني لمنظومة الأخلاق والقيم عند البشر في زمن عنيف ومادي بحت. فللحمار مزايا بات يفتقر لها البشر. لم أتخيّل حقائقَ عن الحمار وصفاته، هذه كلّها مدوّنة بالمصادر العلمية الموثقة التي قرأتها وبحثت فيها قبل كتابة الرواية. فمن صفات الحمار عدم اعتدائه على الأطفال عمومًا، وخصوصًا من ذوي الاحتياجات الخاصّة منهم، وعدم إيذائه للنساء، ومن جلده تصنع الكثير من المضادات الحيوية. بل إن لحليب الأتان فوائد في تجميل بشرة النساء. الحمار في الرواية مجرّد رمز. الطريف أننا نستخدم لفظة الحمار كصفةٍ نابيةٍ للشتم أو الغباء. والحقيقة ليست كذلك مطلقًا. بكلّ حال القضية الجوهرية هي ما الذي قدمه الإنسان العربي حاليًا لمجتمعه وللحضارة الإنسانية ككل؟ هذا هو السؤال.
(*) تلجئين في نصوصك إلى محاكمة التاريخ. هل هو اعتراضٌ على ما حصل أم تنويهٌ عنه، أم مقاربة ما بين الحاضر والماضي؟
لا أتعمد ذلك، ربما هي طريقة تفكير. وثمّة إشارة مهمةٌ في مقولة جورج برنارد شو المعروفة: "كان هيغل على حق عندما قال أننا تتعلّم من التاريخ أنه يستحيل على البشر التعلم من التاريخ". الأحداث تكرّر نفسها ونحن لا نراجع أنفسنا ولا نتعلّم من الماضي فنقع في نفس الأخطاء، لست قاضية لأحاكم، ولست باحثة في التاريخ، أنا فقط أشير أو أناقش أو أعرض الفكرة وأحاول الإشارة لأهميّة إعادة النظر في التاريخ ونقده. الشكّ هو الطريق للتفكير السليم لحلّ معضلات الحاضر، ونحتاج للتعامل بعلمية وموضوعية أكثر مع التاريخ.
(*) قيل إنّ كتاباتك تحاول طرق أبواب اللامألوف. ولكن لماذا هذه التغريب في نقل الواقع؟
لا أتعمّد ذلك، لأنه في الأساس واقعنا ضرب من الفانتازيا، ونظام حياتنا غريب بكّل ما فيه من وقائع لدرجة إننا تآلفنا مع هذا الغريب والقبيح فلا يدهشنا. وهنا الخطورة وكما يقول الجاحظ "أعجب من العجب عدم التعجّب من العجب". أبسط مثال: لم يعد انقطاع الكهرباء يدهشنا في بلدٍ قدراته وإمكانياته مثل العراق، لأننا تآلفنا مع هذا الأمر العجيب وصار عاديًا. أليس هذا بحد ذاته عجيبًا! لذلك أعتقد بأننا نحتاج لغةً وأسلوبًا مختلفًا للتعبير، فإذا لم نطرق على دماغ القارئ بقوّة ليرى واقعه ويخرج من الفانتازيا التي يعيش، فما جدوى الكتابة إذًا!
(*) في نصوصك الأدبية ثمّة ألمٌ دائم، مثلما ثمّة موت. هل هي صرخة لغياب الحب؟ أم لأن الإنسان العراقي جُبل على الحزن؟
ربما هي صرخة رفض للواقع. أنا شخصيًا دائمة الاعتراض، فالألم الذي مرّ به بالعراق، لا أظن مرّ على أيّ بلدٍ في العالم، حتى أن إحدى عناوين كتبي كان "كللوش"، وهي الهلهولة عند الفرح، لذلك هي دعوة للبهجة. وصادف حين أصدرت الكتاب تحرير الموصل، ونحن شعب ظامئ لأيّ فرحٍ كان، حتى لو كان بسيطًا، كوننا نسكن قمّة جبل الأحزان. الجميل والرائع حقًا أننا شعب مبدع ومعطاء ومبتسم ويتكيّف مع كل الأحوال، وصارت الشخصية العراقية مبتسمةً وضاحكةً وغير مباليةٍ رغم كل معاناتها.
(*) هل يختلف إنتاج المرأة للأدب عن الرجل؟ هل هي أكثر جرأة ام أكثر قلقًا؟
أعتقد أن الأمر لا يتعلّق بجنس الكاتب، إنما بفكره وطريقة تناوله للموضوع. فليس كلّ الرجال يمتازون بالجرأة ولا كلّ النساء، وقيمة أيّ منجزٍ بالجديد الذي يضيفه وقيمة ما يضيفه. لا أحب تقسيم الأدب بناء على الجنس مطلقًا، فهذا غبنٌ للإبداع، وإن كنت أؤمن بالنظرية النسوية. لكن ذلك لا يعنى التميّز بناءً على الجنس، بل هي دعوة للنساء للمشاركة في البناء والتعبير عن أنفسهنّ بكامل الحرية في كلّ ميادين الإبداع والعطاء لغاية رفعة المرأة. فكونها امرأة، تلك هويّتها الخاصة، فلم تتنازل عن هويتها والتعبير عن نفسها بأسلوبها الخاص. وهذا الهدف ممكن أن يحقّقه الرجال والنساء حين ترتفع قيمة المرأة بالمنجز. لكن مع الأسف كثير من الكتابات النسوية العربية تكتب بلغة ذكورية بحتة، وإن كان الأمر طبيعيًا، فنحن جميعًا تحت تأثير اللّغة السائدة في المجتمع وهي اللغة الذكورية. شخصيًا أرى الجرأة هي في الفكرة الجديدة والثقة بالتعبير عنها لغايةٍ ساميةٍ. بالتأكيد لست من المؤمنات بجرأة لا هدف لها، لأن الكلمة مسؤولية.
المصدر : "ضفة ثالثة"