24 Mar
24Mar

تُعدُّ صياغة العنوان مهارة أدبية وتأثيرية وإشهارية في جميع الفنون الكتابية، فهي أدبية لأنها تميل للإيجاز والإيجاز ملمح أدبي في ضوء القاعدة المشهور( خير الكلام ما قلَّ ودلَّ)، وتأثيرية لأنها تشدُّ المتلقي نحوها بحسب قربها من فنية اللغة وجماليتها، وإشهارية لما تحمله من نسق مُضمر يراعي طبيعة القراء والنسق الاجتماعي العام.

ومن محفوظات ذاكرتي في الجانب الإشهاري ما نشرته إحدى الصحف المصرية في عنوان تصدَّر الصفحة الأولى منها، إذ كُتِب بالخطِّ الأحمر العريض (لعن اللهُ المحافظ) ومعلوم أن منصب المحافظ في مصر يمثّل السلطة العليا فتوقّع القراء أن الصحيفة تلعن المحافظ فنفدت الصحيفة في ذاك اليوم ولكن بعد قراءة المتن تبيّن ان الكاتب يتحدث عن محفظة المال التي سُرقت من جيبه في سيارة النقل الكبيرة المزدحمة فلعن المحافظ (جمع محفظة)؛ لأنها سهلة السرقة.

نجد هذه المهارة متباينة المستوى من روائي إلى آخر يحكمها قول رولان بارت ("إن القائم بالسرد فعلاً هو القارئ) (الأدب والغرابة: عبد الفتاح كيليطو دراسات بنيوية في الأدب العربي، دار الطليعة، ط2، 1983م، ص:36.) 

ففي رواية (زولام) لـ (وحيد أبو الجول) استند مؤلفها إلى غرابة العنوان الذي يحمل طابعاً علمياً طبياً ونفسياً.

فـ(زولام) علاج للاكتئاب والقلق والهلع بحسب المترجم الألكتروني، ونلحظ أن الكاتب قد بدأ روايته بالعبارة الآتية (يخاف يوسفُ الكلابَ إلى حدِّ الهلع) (رواية زولام: وحيد أبو الجول، مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع، بابل، 2022م، ص: 9)، وختمها بحديث يوسف مع شخص افتراضي إذ قال له : ( من تكون؟ قال بصوت مرتفع وكأنه يتحدث مع شخص واقف أمامه) (الرواية ، ص:181).

فالرواية بهاتين المحطتين أقصد محطّة الاستهلال ومحطّة النهاية أوفت لعنوانها النفسي فيمكن تسميتها بـ( الرواية النفسية)، وهيمنت ألفاظ التفكير والأحلام والرأس وكيفية إملائه والإنصات كالإنصات إلى صوت الريح  أو إنصات عزيز الحلاق(شخصية من شخصيات الرواية) إلى الأصوات المنبعثة في الظلام من بيت مهجور، وقلق نضال الشخصية الأنثوية في الرواية التي وصف الروائي حيرتها في منتصف الليل إذ نظرت إلى أن المتبقي من ليلتها كأنه المتبقي من حياتها، وتوهم يوسف بخروج نحيب من إحدى لوحاته، وبحثه عن أسباب الوجود الإنساني عكل ما تقدَّم هيمن على سيرورة الرواية، واشتغل الروائي على مبدأ تفريغ اكتئاب الشخصيات كما هي الحال في لجوء يوسف الشخصية المركزية إلى رسم الوجوه ( الرواية، ص:35) ، وظهرت علته النفسية واضحة في خلال رغبة يوسف في رسم وجوه الموتى، ومكوث يوسف زمناً طويلاً أمام المرآة (الرواية ، ص: 46)، أو محبة أحد شخصيات الرواية التي سمّاها الروائي بالرجل للطيور والبقاء مدة طويلة ينظر إلى السماء ( الرواية ، ص: 41)  والملحوظ على الرواية أن الكاتب أجاد في اختيار العنوان لكنّه أثقل الرواية باللغة المحكية بلا مسوّغ.

  أدَّت المشاهد الذهنية وظيفة إسنادية للمحفز السردي الذي مثَّله الرجل السومري وعلاقته مع يوسف فكان لهذه المشاهد  حضور واضح في الرواية، ولاسيما تلك المشاهد المتعلّقة بالوجود وقيمة الذات الإنسانية، وروابط الأنا والنحن وهذه مسائل فكرية محضة وردت في المتن الحكائي للرواية، وضمَّت الرواية في طيّاتها دفاعات الإنسان عن وجوده وأماكنه من شرور الجن والشيطان بوساطة التحصّن بالتعاويذ ورشّ الملح الخشن في الزوايا( الرواية، ص: 93)

وبدا لي أن الرواية اقتربت من تنظيرات هيدغر؛ لأنَّ هيدغر أولى الطبيعة اهتماماً كبيراً في جانبها الانفعالي بوصفه وجوداً إنسانياً يُحدّد كينونة المجتمع (يُنظر في سبييل كموسوعة فلسفية "هيغل – سارتر – برجسون": مصطفى غائب، دار مكتبة الهلال، بيروت، ط2، 1982م، ص: 24-25.)

واتّضح هذا التقارب في خلال ربط الرواية للتفكير في الوجود بالسماء في أكثر من موضع سردي، وحملت الجملة السردية الآتية خطاب الرواية أو معادلها الموضوعي (الروح هي جوهر الوجود) (الرواية ، ص: 162)، ممّا تقدّم نؤكّد أن الرواية لم تهتم بالحدثية بوصفها معماراً سردياً، بل ركّزت في متنها السردي على الجانبين الذهني والنفسي ففي وعلاقتهما بالوجود الانفعالي، وظهرت الغرائبية بما تحمله من إخافة أو بثّ الخوف في بعض المقاطع السردية.



تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن