25 Feb
25Feb

غداة اندلاع الحرب الروسية  ضد أوكرانيا، أدرك الروائيون والشعراء والفنانون، مثلهم مثل بقية أبناء وطنهم، أنهم معنيون كثيراً بهذا الغزو الذي أعاد إلى ذاكرتهم تاريخاً من المواجهات والحروب والعداء، جمع بينهم وبين روسيا ثم الاتحاد السوفيتي، الستاليني خصوصاً، ثم العهد الإمبراطوري البوتيني. روسيا هذه بجميع عهودها تسميها الشاعرة إيللا يفتوشنكو "جارتنا الملعونة، عدونا الوجودي". وكان لافتاً جداً انضمام جمع من الكتاب والشعراء والفنانين إلى صفوف الجيش والمقاومة الوطنية، بعضهم تلقى التدريب العسكري ليلتحق بجبهات القتال، وبعضهم انصرف إلى الخدمات اللوجيستية والطبية والاجتماعية. أما الآخرون الذين لا يجيدون الخدمة العسكرية، فجعلوا من أقلامهم سلاحاً، فكتبوا النصوص والقصائد والمقالات وراسلوا الصحافة العالمية، ناقلين صوراً حقيقية عن المأساة التي تعيشها اوكرانيا.


"أوكرانيا: 24 شاعراً من أجل وطن" مختارات بالفرنسية (دار برونو دوسي) 

في خضم هذه المعركة الشاملة كتب الشعراء الجدد والشباب، قصائد كثيرة، عبروا فيها عن آلام شعبهم والمعاناة اليومية التي يكابدها تحت القصف الروسي، وعن واقعهم القاسي، على ضوء ماضيهم القومي الذي طالما تعرض للمآسي الآتية من الدولة الروسية. لم تخل القصائد من الغضب والسخرية والتحدي والحماسة ومن هجاء العدو المعتدي، لكنها حافظت على روح شعرية راقية، حقيقية، تفيض وجعاً ومرارة، وأملاً ورجاء.

 مختارات شاملة بالفرنسية 

ولئن كان معروفاً أن الشعر الأوكراني غير رائج عالمياً وأن ترجماته إلى اللغات العالمية قليلة ولا تمثل الحركة الشعرية الأوكرانية تمثيلاً شاملاً أو حقيقياً، فلعل المختارات الشعرية أو "الأنطولوجيا" الصادرة حديثاً عن دار برونو دوسي في باريس، باللغتين الأوكرانية والفرنسية، تقدم المشهد الشعري في أوكرانيا بمعظم مراحله وأجياله، مركزة بوضوح على الجيل الجديد الذي يسمى جيل "الميدان" (لعلها كلمة الميدان العربية نفسها)، وقد كتب بعض شعرائه قصائد من وحي الحرب والنضال والمقاومة، ولكن من غير أن يتخلوا عن أساليبهم الحديثة وما بعد الحديثة، ولا عن فنهم الشعري المفتوح على المدارس الراهنة عالمياً. جيل "الميدان" هذا نشأ في أوكرانيا الحرة، بلاد ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانحلال القبضة الشيوعية. 

الشاعرة الأوكرانية الفرونكوفونية إيللا يفتوشينكو التي أعدت المختارات (دار برونو دوسي) 

هذه الأنطولوجيا التي حملت عنوان "أوكرانيا: 24 شاعراً من أجل بلاد"، وحملت العلم الأوكراني غلافاً، تعاون على إنجازها الشاعرة الأوكرانية الفرنكوفونية إيللا يفتوشنكو والشاعر الفرنسي برونو دوسي، صاحب الدار، وكتبا لها مقدمة مشتركة، وعملا معاً على ترجمة القصائد وصقلها، وعرفا بالشعر والأجيال الشعرية. وكما يشيران، "ولد الكتاب هذا من الحرب مثل زهرة تمكنت من أن تخرج من بين الأنقاض لتعلن حقها بالنور والحياة". وتكتب الشاعرة إيلا في ما يشبه الاعتذار، قائلة "الشعر لا يستطيع وقف القذائف. وعلى رغم إرادتنا الشديدة، نعلم أن الكلمة لا تملك القدرة الفائقة، والشعراء يتساقطون تحت الرصاص والقذائف مثل الآخرين، لكن الشعر والثقافة والهوية، وكل ما نناضل نحن من أجله، وهو ما حاولت الإمبراطورية الروسية الاستعمارية دوماً أن تقضي عليه، هو الذي سيدوم، رغم كل شيء". وقد اعتمد مؤلفاً الأنطولوجيا ومترجماها تقديم الأجيال على خلاف الزمن الكرونولوجي، بدءاً من الجيل الجديد فالجيل السابق فالأسبق وصولاً إلى جيل التأسيس. هكذا تبدأ الأنطولوجيا مع جيل "الميدان" الجديد (11 اسماً) ثم تنتقل إلى جيل "عند أسفل الجدار" الذي يضم الشعراء الذين عاشوا في الحقبة الأخيرة من الحكم الشيوعي (سبعة أسماء)، ثم جيل "الشعراء المنشقون" (شاعران، قضى أحدهما، وهو فاسيل ستوس في أحد مخيمات الغولاغ)، جيل "شعراء النهضة التي أطلق عليها الرصاص" (شاعران قتلا في الغولاغ، ميخائيل سيمنكو ويفهن بلوجنيك)، ثم جيل الرواد ومنهم: الشاعرة ليسيا أوكريانكا في (1871-1913) وتاراس تشفنتشينكو (1814- 1913). 


رسمة بريشة سيباستيان آبو (صفحة الراسم - فيسبوك) 

ليس المطلوب من الشعر اليوم أن يصنع المعجزات، لا سيما في زمن الحروب والقتل والتهجير، ولا أحد يدري إن كان الشعر قادراً وحده على مواجهة كوارث العصر. وإزاء اندلاع حرب لا تعني فقط روسيا المعتدية، ولا أوكرانيا المعتدى عليها، بل تعني البشرية كلها، الناس كلهم، مواطني العالم الجديد، وحيال المآسي عديدة التي تنجم يومياً عن هذه الحرب التي تهدد الأرض، لا سيما إذا غرقت في البحيرة النووية، لا بد من قراءة الشعراء الأوكرانيين، الراحلين والأحياء، والشعر الأوكراني الذي كان خير شاهد على مآسي هذه الأمة، المتوالية منذ عصور، التي ما برحت مستمرة حتى اليوم. هنا مختارات: 

إيللا يفتوشنكوفي اليوم الخامس للحرب 

يد التاريخ تعيد ساعة الرمل 

تكتب صفحة جديدة في الكتاب الموجز

وتقلب العالم رأساً على عقب 

يد التاريخ تقشر البرتقالة الزرقاء

ولكن يا للغرابة 

العصير أحمر

الأمثال البيبلية عن السنبلة

تكسب حياة

كذلك الذئاب التي بملابس الحملان

الثلج يهطل ويذوب من ثم

مثل جيش عدو على أرضنا

الروزنامة لا تريد أن تقلع حتى للمرة الخامسة

تتنحنح ثم تتنحنح

قائمة الهر أسقطت ساعة الرمل عن الطاولة.

 أولينا إيراسيميوكأغنية السجن

أفتح النوافذ وأسمع النار

أفتح عيني وأرى النار

أخرج إلى الساحة وأرى النار

مزاليج الأبواب الدوارة تذوب

حافلات القطار تحمل النار

ليست موسيقى ما ينبعث من المقاهي، بل نار

ألتقي أشخاصاً لكنني لا أبصر سوى النار

دخان الحرائق يهب من الجامعات والسجون

الرماد يملأ الفناءات والكاتدرائيات

المقابر خراب ومبنى البرلمان

في اليد قنينة من زجاج، رغوة، خرقة، بنزين ونار

رأسي واضح جداً كما الزجاج أو النار، قلبي مملوء ناراً

إنهم مئة ينهضون من قبورهم ليخوضوا المعركة- بالنار

فوج يقوم من المقابر كي يقاتل

لكن النار نسميها منذ الآن حرية.

انظروا وجه الحرية، وجهها الإلهي في الدخان

انضبطوا في الصف تماماً! انطلقوا- إلى الأمام!

لا تنسوا واحداً من آلاف الأسماء تلك- أطلقوا النار

انتقاماً! 

بودان – أوليه أوروبتشوك

قصيدة

 العالم يدور حول أيد موثوقة 

كيف تتم تبرئة الثلج لبياضه 

بينما هو يعير بياضه للقماشة التي تربط المعصمين 

الزمن صلب، أخرس 

مطهو مثل كعكة 

أقطعه فيسيل الدم 

الصمت غناء المعذبين حتى الموت 

غناء يستحيل سماعه 

العالم يدور مثل أسطوانة مزيحة 

مع أثلام دائرية مفعمة بأجساد 

وثقوب قذائف تتعثر عليها إبرة التنبيه 

البقايا المكلسة، بقايا الشعر 

تنتظر أن تدفن 

الغراب 

الأم المسودة 

تنحني تحت الصرخة. 

بافلو كروبتشوك 

قصيدة 

لا أستطيع أن أتكلم لا أريد أن أتكلم 

لأن الكلمات لا تزال موجودة 

على خلاف الناس الذين قتلهم الروس، الدنيئون 

كيف نقايض الناس بالكلمات 

كي يحييوا من جديد 

كأن نكف عن استخدام بضع كلمات 

إني لمستعد أن أستبدل أشخاصاً بكلمات جميلة 

مثلاً 

جوهرة 

وخز الإبر 

زهر العسل 

أسطرلاب 

لمسة 

لماذا إذاً الكلمات؟ 

إذا لم يكن ثمة من يلفظها 

سأتكلم بجذل إلى القائمين من الموت هكذا: 


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن