كتب : حسان الحديثي
احب الشخصيات المتروكة والمهملة ويكون لها لاحقاً دور في المجتمع وتنهض في اعين الناس ويعلو أثرها في حياتهم بعد حين.لأجل ذلك أحببت شخصية "كوازيمودو" في رواية أحدب نوتردام لفكتور هوغو ، والذي تركه أهلُه صغيراً مشوَّهاً بعيب خَلقي في الكنيسة ليكبر فيها بعناية القس ويعيش قصة حب نبيلة يموت متأثراً بها.
يقول هوغو على لسان الاحدب وهو يخاطب الفتاة التي احب:أنت لا تعرفين معنى الشقاء الحقيقي؛ هو أن يحب الرجل بكل قواه ويجعل دمه وحياته قرباناً ويضحي بلا أسف بسعادة الدنيا والأخرة لأجل ابتسامة واحدة أو كلمة حلوة من فم المرأة التي يحب.الشقاء الحقيقي بأن يكون مكروها ممن يحب ويراها تضع كنوز حبها وجمالها وطهارتها تحت قدمي انسان أخر ليس أجدر منه بحبها.
أتعرفين يا فتاة معنى العذاب؟ هو ما يعانيه المحب من وطأة الحب والغيرة واليأس.
كذلك شخصية الأمير "ميشكين" في رواية "الأبله" للساحر فيودور دوستويفسكي والذي ظنّه من حوله انه انسان غبي ساذج لعفويته وطيبة قلبه بينما كان يحمل في رأسه عقلاً راجحاً وفي قلبه حباً عظيماً للناس، ثم بعد حين يلجأ له ويطلب معونته كل من تهكّم عليه آنفاً، سيما حين يكتشف من حوله انه امير من عائلة نبيلة.عظمة هذه الشخصية تكمن في محاولته تحقيق السعادة لأعدائه وأصدقائه على حدٍ سواء.
حريٌ بنا ان لا نخاف المزاجيين الذين تُغضبهم الكلمات وترضيهم الابتسامات، ولا نخشى شيئاً من المتقلبين في اهوائهم، ولا الذين تبكيهم الموسيقي ويستخفهم الطرب، هؤلاء تجفلُ عواطفهم عند كل منعطف كالعجائز، وتتدهور دموعهم بكل موقف كالاطفال.
رأيتُ مرةً صورة لعربة بسيطة تدور بين الدروب والحارات تجمع الخردة وقد كَتب عليها صاحبُها بالفارسية: شراء الخردة مجرد حجة، أدور في المدن شارعاً شارعاً ابحث عنك لعلي أجدك.
وصفها صديق لي بأنها ترويج عظيم للحب فاعجبتني العبارة، وجدتها تنطوي على روحٍ مُحبةٍ.
واعجبني الوصف لأني ممن يحبون الترويج للحب بأية طريقة كانت وبأي لغة قيلت او كتبت، بل حتى وان كان محض افتراض او فكرة لم تدركها الحقيقة ولم يرها الواقع.
لأجل ذلك احببت رواية "عرس الزين" للطيب صالح والتي يقص فيها حكاية فتى يقال له "الزين" كان دميمَ الوجهِ مشوهَ الخَلق ولكنه صاحب قلب طيب يوقعه بحب بنات القرية واحدةً تلو الأخرى، وكلما أحبَّ واحدة منهن شاع الخبر وأنتبه شبان القرية لها ليتقدموا لها ويخطبوها ولتتزوج سريعاً حتى فطِن لذلك أمهات الفتيات ورأين أن "الزين" خيرُ من يروّج لبناتهن حتى ينتبه أهل القرية أن "الزين" أعظم من ذلك، فهو رجل مبروك لينتهي المطاف بان يتزوج احدى اجمل البنات لصفائه وطيبته وحسن تعامله مع الناس ولتنتهي الرواية بعرسه "عرس الزين".لقد كان الزين مروجاً عظيماً للحب.
كتب صالح في هذه الرواية عبارات وحوارات ادبية خليقة بالاعجاب، وصفَ مصباح الطريق ومجموعة الشباب الساهرين تحته كأنه يمدُّ اليهم لسانَ ضوئه فيصيبهم بنوره واحداً واحداً.
لقد أشار الطيب صالح الى ذات الأمر الذي أشار له كل من دوستويفسكي وهوغو في روايتيهما "الأحدب" و "الأبله" وهو ازدراء الناس لشخص والتهكم عليه لعيب في خَلقٍ او لسذاجة فكر وطيبة في التفكير والتصرف، ثم ليكون مؤثراً في حياتهم لاحقاً.
هذه الروايات المروجة للحب تذكرني بعبارةٍ قالها لي صديقي رياض ابن مدينة الثورة بضاحية بغداد، كنا يومها نتأهب لدخول معركة في حربنا الشرسة مع ايران في ثمانينيات القرن الفائت وكان رياض يحب فتاة في الحي البسيط الذي يعيش فيه.
قال لنا يومها: لن نموت لاننا نحب والمحبون لا يموتون، صحيحٌ ان الجلال كلَّه في الموت من أجل الوطن ولكن الجمال كلَّه في العيش من أجل من نحب.
لقد كان رياض احد اعظم المروجين للحب وأول الراحلين في تلك المعركة، فكان أحد الثابتين في الذاكرة. ليس لانه مات وهو يروج للحب فقط، ولكن لانه كان يروج للحب وهو على بعد انفاس من قبضة الموت...صباح الخير