كتابة : محمد الجاسم
صدر قبل يومين عن مؤسسة ثائر العصامي للنشر والتوزيع في بغداد ، كتاب جديد للمفكر الإسلامي الأستاذ رياض عبد العزيز الحسني، بعنوان ( مفهومُ الحزنِ في الإسلام ـ حزنُ الإمامِ زينِ العابدين ، أنموذجًا )، تناول فيه المؤلف بعض الخفايا الفكرية، والالتقاطات الفلسفية عن ماهية (الحزن) بشكل عام، من جهة، وما جاء عن الله تبارك وتعالى عن مادة (الحزن) في كتابه العزيز بطرائق مختلفة وأساليب وإشارات رمزية متعددة موزعة في آيات كثيرة، من جهة أخرى.
في مقدمته الرصينة لهذا الكتاب الموضوعي ، كتب المؤلف: " يختلف تفسير الحزن بحسب السياق القرآني لموقع تلك الآيات، ومن خلال المشتركات في النصوص القرآنية يمكننا توزيعها الى مجاميع بحسب المقصود القرآني من ذلك الحزن، فهناك (حزن أُخروي) وعد الله تبارك وتعالى المؤمنين بنفيه عنهم، ومنع وقوعه في ساحتهم، وهذا النوع من الحزن جاء في عشرين آية، إلا أن الوعد الإلهي فيها كان مشروطاً، وجاء في سياقٍ قرآني يتحدث عن نوع من أنواع الأعمال والطاعات والالتزامات الدينية، إذا ما التزم المؤمنون بأدائها سيكون ثوابه نفي الحزن والخوف عنهم يوم القيامة، وفي المقابل هناك سياقٌ قرآني يقدم الحزن كـ(عقاب) يتوعّد الله به الكافرين والمشركين في الآخرة، وهذا إضافة الى ما نلاحظه من خطابات أُخرى إرشادية، يكون الحزن فيها عنصراً من عناصر الإرشاد والتوجيه، يخص الله به النبي (ص) أو المؤمنين بتجنب الوقوع فيه، لأنه نوع ممقوت من الأحزان يخالف أصل العقيدة، أو فرع من فروعها التشريعية، وهذا بالطبع لا يجعلنا نغفل عن خطاب قرآنيّ آخر، يمدح الله تبارك وتعالى فيه الحزن لأسباب نابعة من الحزن نفسه، أو من دوافعه أو ما يؤول إليه من نتائج." .
تمكن الأستاذ المؤلف في هذا الكتاب من تتبّع الآيات القرآنية التي جاء فيها ذكر (الحزن) مشفوعًا برمزية عميقة، ربما لم يتيسر لعامة قرّاء المصحف الشريف التقاطها والوقوف عندها واستجلاء غاياتها، لاسيما تلك الآيات التي ذكرت حزن الأنبياء والصالحين، حتى تمكن من رصدها وتوظيف ذهن المتلقي للتعامل مع مقاصدها الربّانية من حيث التفحًّص الذكي لمكنون الحزن كسلوك فردي فطري تارة، وكاستجابة محسوبة بالحسابات الإيمانية المرتبطة بالمعاني الأخلاقية ، وتأثيراتها الإيجابية على بناء الشخصية الإسلامية، تارة أخرى.
من الواضح أن الكتاب لم يتعاطَ مع مفردة (الحزن) بكونها سلوكًا فرديًّا، بقدر ما تعاطى مع النتائج النفسية والفكرية لهذا الشعور السامي في حياة بعض الأنبياء، مثلًا، " فلم يكن يعقوب النبي حزيناً وكفى، بل إن ( الحزن اليعقوبي ) كان منظومة دعوية اصطبغت بها حياة النبي يعقوب عليه السلام، وبان أثَرُها على محيطه المجتمعي كله " ، وتناول المؤلف هذه الجزئية في بحث موفق في أحد فصول الكتاب.
أما فيما يختص بفلسفة الحزن عند الإمام السجاد عليه السلام، فقد كان البحث في كتاب الأستاذ رياض عبد العزيز الحسني، قد نهل من التعامل القرآني مع مفردة الحزن، وكأنه محطة من محطات الحزن السرمدي الذي سكبه الله تعالى في قلوب الصادقين، كحزن أم موسى (عليهما السلام) مثلاً ،وطبيعة السياق في عرض حزن مريم بنت عمران أمّ المسيح (عليهما السلام) ، وآسيا عليها السلام زوجة فرعون، فهناك بَوْنٌ شاسع في عرض الحزن كقضية اجتماعية عامة، وبين عرضه كحالٍ فردية يقدمها القرآن كأنموذج وعبرة، ليبرز لدينا حزن الإمام السجاد عليه السلام نتيجة التعسف الظالم الذي تعرض له ، ورغم المواقف القيادية والسيرة الإيمانية ،التي طبعت تأريخه ، فإن ظاهرة الحزن السجّادي هي التي جلت حجب الزمن وركام التأريخ وظلامية المدوّنات الحالكة ، لتجعل المفكرين والمهتمّين بالشأنين الفلسفي و التأريخي، أن يؤسسوا إلى ثقافة الخوض في ظاهرة الحزن بوصفها مدرسة فكرية وأخلاقية ، صحيح أن سببها الرئيس كان معايشته لتفاصيل موقف عسكري رباني قادة أبوه الإمام الحسين عليه السلام، بثورته العالمية ضد الباطل، ورغم أن ذلك الموقف أفضى الى استشهاد كل من شارك في تلك الملحمة الإسلامية النادرة من الرجال، عدا الإمام نفسه، ورغم أنها كانت معركة غير متكافئة ، لكن المرض الذي أقعد الإمام عن خوضها، قد أبقاه لكي ينهض لوحده لمقاتلة الذين أسسوا للظلم ونشروه في الأمة، وبتفاصيل كانت أقسىٰ من تلك المواجهة التي كان يمكن أن يُستشهد فيها مع إخوته وأبيه وأصحاب أبيه، ويبدأ بالتصدي الحازم لسنيّ الألم وعقود الحصار والانحطاط السياسي للحكام.
لقد تحول حزن الإمام السجاد الى حركة في الواقع وتجسيد للمثال والقدوة الحسنة ، ونموذج لتعايش المفاهيم السماوية مع مصاديقها الدنيوية ، و كان الإمام السجاد عونًا للمظلومين ، وكان بكاؤه وتهجُّدُهُ منهجًا تربويًّا للأمة.
بغداد 18شباط2024