04 Dec
04Dec



   صلاح جبار أبو سهير 

لم يكن عبد الوهاب البياتي احد رواد الشعر الحر فحسب ، وإنما أطلقت عليه عدة تسميات منها شاعر القصيدة الرومانسية وشاعر الأساطير والشاعر الغنائي ،إلا انه وبالرغم من هذه التسميات المتعددة،فهو شاعر النفي والتشرد،فعبد الوهاب البياتي كتب في المنفى القسم الأكبر من قصائده ،ولقد بين هذا الشاعر معنى المنفى الاجتماعي والسياسي والفلسفي في كتابه القيم (تجربتي الشعرية ) واستطاع في معظم دواوينه السابقة إن يعبر عن كافة هذه الحالات من النفي والغربة ممتزجة بعضها مع البعض الأخر،إن قراءة متأنية  لتجربه البياتي في قصائد (عيون الكلاب الميتة)هي بمعناها غربة اتحاد الرمز الذاتي بالرمز الجماعي ، 

وبعد إن نكنس القديم 

في قرقعة وحشيه سوف تجلجل في العالم

 حكاية كوننا الجديد

 وفي السماء، إلف سلم

 لأقواس قوس قزح سوف تغني

 وفي عالم جديد، سوف يتفتق 

الورد والحلم 

وأننا سنقطف

 وسنعي ورودا 

جديدة عواصم جديدة ذات ساحات من النور. 

إن المواد الشعرية الاوليه في عالم البياتي  الشعري مستقاة من حياته أليوميه كلها بكل تفاصيلها البسيطة وبكل مصادفاتها الغريبة ،وهذا ما نعنيه حينما نقول إن البياتي قد استخدم في بناء إشعاره لغة التجربة،فهو يغور في تفاصيل الحياة اليومية

 أيها الحرف

 الذي علمني جوب البحار

 سندبادي مات مقتولا على مركب نار

 وطني المنفى 

ومنفاي الى الأحباب ذر

 وجه أمي،أبدا المحه عبر الجدار

 وجه أمي والصغار 

والمصابيح التي تهزم في شارعنا

 ضوء النهار 

أيها الحرف المد مى

 أيها المنفي

 يا محض شعار إنني احمل بغداد معي من دار لدا ر. 

أبدا لن يستر الثوب المعار

 عري أهلي

 لقد أصبح البياتي بحد ذاته مدرسة شعرية عراقيه وعربيه وهذه المدرسة تركت أثرا واضحا في مسيرة هذا الشاعر . 

آه من عري القفار

 آه لو عدت الى بيتي 

لمزقت مكاتيبي وأوراق الغبار 

ولعلمت الصغار 

كيف أبحرنا على مركب نار

 إن اللغة الشعرية المموسقة  التي يمتاز بها شعر البياتي جعلته متفردا في أسلوبه الرومانسي هذا ، والبياتي يعد من المحدثين القلائل الذين تركوا  بصمة واضحة في المشهد الشعري العربي والعراقي

 مائدة موحشة ومقعدي جليد 

يا دمية تجهل ما أريد 

عودي الى بيتك يا صغيرتي 

عودي الى فارسك الجديد 

عودي وخليني هنا 

امضغ قلبي

 وانزوي وحيد

 إنا إذن استيقظ فيك والشوق

 إنسان من الجليد 

عواطفها تركتها هناك 

في دمشق

 في مدينة الشمس التي في الليل 

لا تغيب 

عودي الى بيتك 

يا صغيرتي 

عودي 

وخليني على الصليب

 أبدع البياتي في كتابة القصيدة العربية الحديثة وبلغ بها مدى بعيدا حين كشف عن أساليب أكثر تركيزا في التعبير فحلت الاستعارة محل التشبيه وأصبحت الصورة المحسوسة مفضلة على التعميم الشعري - فأصبحت القصيدة صورة واقعيه من الواقع المعاش ،الواقع داخل الوطن وواقع المنفى الذي يراود الشاعر في الطرقات والازقه والليل. 

وانأ.. 

وأنت؟

 إنا وحيد 

كقطرة المطر العقيم إنا وحيد 

وهؤلاء

 مثلي ومثلك يحفرون قبورهم 

عبر الجدار 

مثلي ومثلك مقبلون على انتظار

 من لا يعود 

وانأ وأنت وهؤلاء 

كالعنزة الحرباء افردها القطيع

 لا نستطيع

 وإذا استطعنا  ، فالجدار. 

والتافهون

 يقفون بالمرصاد  ، كالسد المنيع

 لا نستطيع 

والتافهون والشمس في الطرقات 

تحتضن البيوت 

فتثير في النفس الحنين الى البكاء

 لقد كان الشاعر يعيش الحلم برؤيا بلاده والموت بين افيائها  بل ومشاهدة الحدائق والبساتين التي يحلم بها البياتي منذ لجوئه الى المنفى ،لقد كانت بلاده حاضره في اغلب قصائده

 سنلتقي على تخوم العالم المسحور

 سنعبر الجسور 

معا نغني 

والى بلادنا نطير

 في فجر يوم ازرق مطير

 معا سنصطاد الفراشات

 معا .

سنقطف الزهور 

غدا إذا غرد في بستاننا عصفور

 واندن هذا السور

 ويقول في قصيدة أخرى متغنيا ببغداد التي يحملها بين إضلاعه ،أنها القلب الذي نتنفس منه عبير يزرع في الجليد.

 بنسفجات حبه.

الجديد يزور في أعياده الموتى ،يغني الموت في البلاد 

يحمل في ضلوعه بغداد 

يمد نحو الوطن البعيد قوس

 قزح السماء

 يضاجع النساء. 

يكتب فوق حائط السجن،وفوق 

جبهة المدينة 

إشعاره الحزينة

 إن الأساطير والرموز التي تغنى بها البياتي وراودته منذ مجموعته الشعرية  الأولى (ملائكة وشياطين )ومجموعته الأخرى ( أباريق  مهشمه ) حتى مجاميعه الاخيره نرى الرموز حاضرة في قصائد هذا الشاعر الرومانسي (تموز وعشتار وشيراز وعائشة  وسمر قند )كلها أمكنه وأسماء تراثيه لاصقت البياتي في نصه الشعري. 

ولدت في جحيم نيسابور 

قتلت نفسي مرتين ،ضاع مني

 الخيط والعصفور

 بثمن الخبز اشتريت زنبقا،

 بثمن الدواء 

صنعت . تاجا منه للمدينة

 الفاضلة البعيدة 

لآمنا الأرض التي تولد كل

 لحظة جديدة 

نمت على الأرصفة الغبراء 

اصطدت الفراشات ،وقعدت في شراك النور

 وسحب الخريف والغابات والزهور

 إن إي رحلة  أو قراءة  لشعر البياتي ،رحلة خصبة ومثيرة .و غنية ذلك إن قصائد  البياتي تحمل في تدفقها المستمر جوهر الشعر الحقيقي وتؤكده وتحمل قدرة النفاذ من خلال الموسيقى والصورة والرؤيا الى الوجدان ، وجدان الإنسان المعاصر إذ يقول

 كلماتك الخضراء في ليل انتظاري

 نفذت بلحمي مثل نار

 ثأرت الى صمت البحار

 عبرت صحاري

 حلت بداري 

ضيفا وباتت في قراري

 لقد انتقد الشاعر البياتي الأوضاع السياسية السائدة التي كانت في البلاد خلال الفترة السابقة،وكان يحلم ويتمنى ان يرى أصدقاءه الفلاحين والكسبة والعمال وهم يعيشون أحرار منعمين واحيانا يستنكر الإرهاب في شتى إشكاله وألوانه إذ يقول

 ُالليل والباب المضاء 

وأصدقائي الميتون 

بلا وجود يحلمون

 بالفجر والحمى وضاع الظلام

 يتاجرون بما تبقى من سموم 

كل الدروب هنا الى روما تؤدي

 والذئاب تسطو على من لا كلاب له،

وسفاكو الدماء

 يقامرون بما تبقى من رصيد

 (لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى تراق على جوانبه الدماء)

 الليل والباب المضاء 

والشارع المهجور والقتلى واقنية

 والريح والدم والمداخن والهوام 

من سطوة الإرهاب ،تزحف

 في الوحول والأصدقاء الميتون من

 المصانع والحقول 

كمياه نهر هائج تتدفقون 

ويهتفون

 يموت سفاكي الدماء 

وسقوط صناع الظلام

 والجوع والحمى وأشباح النساء 

وصبية يتوعدون. 

( الليل ولى نحن أحرار لنا حق المصير) 

أما المرأة فكانت حاضرة في شعر عبد البياتي ،فهو ينظر للمرأة من منظار متعدد الجوانب فالمرأة هنا إلام والحبيبة  وأحيانا بغداد هي المرأة التي يحلم برؤيتها .

 ليلى أحس على فمي شفة .

  صفراء تصبغ بالدماء فمي

 وجناح خفاش يطير على

 قبري فيملأ بالرؤى حلمي

 وارى يد سوداء تصفعني 

وتشد شعري شد منتقمي

 وارى  غطاء القبر منتفخا 

وجحافل الديدان كالظلم 

ويقول في قصيدة أخرى واصفا نفسه كالطير الجريح: 

رجعت إليك كطير جريح 

يعود من الغاب عند المساء

 يلوك بمنقاره زهرة 

ملطخة  ببقاي دماء فألقى الليل بأشلائها 

وعاد جريحا كما هو جاء 

يرف بعيدا وراء السراب

 ويطوي الصحاري .. صحاري الظماء   ( .15 ) 

ان المفردة الشعرية  تمثل وحدة بناء العمل الإبداعي ،فأن الشعر يبذل قصارى الجهد كي يجعلها تنتظم في سباق شعري ثر ولكن من .البديهي القول ،ان اختيار المفردة الشعرية   له علاقة بألتوتر الحسي والنفسي للشاعر ،كما له علاقة بالبيئة  والوسط،والمنفى هي بيئة البياتي وان المفردات التي استخدمها  هذا الشاعر كالأساطير والأمكنة والرموز التراثية جعلته يشكل ظاهره إبداعيه  في المشهد الشعري العراقي خصوصا والعربي عموما . 

اكتشف الإنفاق الحجرية في روحي

 والمنفى والنار

 ومقابر بغداد 

اكتشف اللوح المحفوظ 

والمقبوس المسماري النابض في 

جدل الروح

 اكتشف ،ألان ،لماذا كانت

 أصوات الموتى ،تصعد من 

بئر شقائي 

ولماذا كنت أخاف 

من بعض الأصوات الغامضة التعبى

 تثقب صوت الإنفاق 

اكتشف ألان،البعد الخامس في 

مرآة الأشياء 

وفتوحات الإسلاف الشعرية  في

 نار الكلمات 

لكني

 وإنما اتماهى في داخل روحي احترقت ألان

 ثمة ملاحظة يجب ذكرها في هذه الدراسة هو ان ظاهرة البياتي الإبداعية  كانت مشروعا أدبيا أو شعريا في المنفى ،وكان هذا الكائن (الشاعر)حاضنة للمشاريع الأدبية العراقية،فأسس جائزة شعرية خاصة به للشعراء العراقيين الشباب موسومة (بجائزة عبد الوهاب البياتي الشعرية)وكانت لجنة مخصصة  من الشعراء العراقيين مشرفة على هذه الجائزة منهم الشاعر محمد مظلوم،وقد استمرت هذه الجائزة عدة سنوات ،وكانت سنوية،وقيمة الجائزة هي معنوية قبل ان تكون مادية ،ويطبع النتاج الشعري الفائز أو ألمجموعه الشعرية الفائزة على نفقة الشاعر عبد الوهاب البياتي ،فكانت مشروعا ثقافيا عراقيا بيانيا ،نال الرضا من جميع المؤسسات الثقافية العراقية في المنفى وكانت هذه المسابقة تمثل الخيمة التي لمت .شتات الأدب المهجري ،واستمرت عدة سنوات حتى وفاته في دمشق وهو يكتب مرثيته الأخيرة

 كتبت فوق السور 

مرثيتي الأخيرة 

فأن مررت في غد أيتها الأميرة 

بهذه الجزيرة 

فلتأخذني وريقة من هذه الصفصافة

 وريشة من طائر الخرافة

 وقطرة من نور

 الى صحاري وطني المهجور

 لعل خيل الفتح،يا أميرتي 

على.ضياء الصبح 

لقد التقيتُ بالشاعر البياتي في منفاي قبل ثلاث سنوات من رحيله ،فكان عندما يتحدث أحسست بهذا الرجل يحمل هم وطني وأنساني ،فقرأت في عينيه هموم المنفيين وعذاباتهم،كان في حينها في سنواته الأخيرة ،يمشي الهوينا،لا يحب التفاخر والثناء،بل كان متواضعا،وعندما تحدث عن تجربته الشعرية إمام حشد من الزملاء الشعراء في المكتبة المختصة في المنفى،رايته وكأنه يتحدث عن الواقع العراقي المعاش،كنا ننصت أليه بتلهف وشوق،ونسأل هل هذا هو البياتي الذي ملأ عالمنا العربي ضجيجا، ام هو هذا الكائن (العراقي)الذي لا يحمل سوى الكلمة واليراع.

 (.. وتعثرت بآلاف القوافي والحروف 

وتبارزت بآلاف السيوف

 فإذا بالشاعر العائد ما زال يطوف

 مركبي ظل 

ومهما ظل

 فالدنيا ظروف 

كل ما اكتبه 

يا سندبادي 

كل م اكتبه محض حروف

 فأنا اعتصر الحرف وورقائي مع الصبح هتوف

 آه لاتوقظ جراحاتي 

ولا تملأ رقادي بألطيوف 

هكذا هي قصائد شاعر الاغتراب عبد الوهاب البياتي قصائد رومانسيه مليئة بالصور والمشاهد والمضادات والرموز الأسطورية وكنت كلما شب لظاها شب.. 

صحت أيها النار أضيئي  كلماتي

 واصنعي منها وجودا لحياتي

 فهي خبزي وسلاحي

 وجناحي

 وانأ من دونها أعمى

وصحت ..

 وتمزقت وكان الثلج ربي

 يغمر الغابة .

 يطفو فوق هدبي . 

عندما استيقظ حبي

 وأحيانا يستخدم البياتي فلسفة البناء الفني للموال الشعبي بأسلوب إبداعي،يستذكر في هذا مدينته بغداد التي فارقها منذ زمن طويل،كما في قصيدة (موال بغدادي)

 بغداد يا مدينة النجوم 

والشمس والأطفال والكروم

 والخوف والهموم 

متى أرى سماءك الزرقاء 

تنبض باللهفة والحنين

 متى أرى دجلة في الخريف

 ملتهبا حزين

 تهجره الطيور

 وأنت يا مدينة النخيل والبكاء 

ساقية خضراء 

تدور في حديقة الأصيل

 متى أرى شعرك ِ الطويل؟ 

تغسلهُ الإمطار

 في عتمةِ النهارِ

 واعين الصغار

 تشرق بالطيبة والصفاء.

 ان الغربة هي قدر الشاعر لدى البياتي ،لان الشاعر وهو يبدع في نصوصه الشعرية إنما يسلخ من الواقع  وينتقل من البرهة اللا زمنية ،ومن (الأنا) الى (الأنات)وهذه الحالة تسبب قلقا وشعورا بالغربة ،لان الواقع بالنسبة حالة متغيرة وغير مستقره ،وهو يموت بقدر ما يرحل ،ويولد بقدر ما يرحل أيضا.

 هكذا بالنسبة للشاعر البياتي وقد عانى هذا وقد عانى هذا الشاعر كبقية الشعراء من (غربات )أخرى سماها الرومانسيون (غربة الروح )ويسميها البعض من النقاد (التفرد) وليس (العزلة )الى جانب إضافات أخرى،هي غربة الإنسان في هذا العالم بشكل عام والتي تنتج عن التفاوت الطبقي والمادي فالغربة.إذن شعور ميتا فيزيقي.

أصيل يولد مع الإنسان وينمو بقدر ما يحاول هذا الإنسان الحفر في قاع الروح ،ويموت هذا الشعور بقدر ما يستسلم هذا الإنسان للواقع والمصير والقدر،اما بالنسبة للشاعر فان أدواته الشعرية  هي أدوات استبصار واستشعار،فهي تجرفه معها في تيارها ليواجه محنته محاولا الحفر في قاع الروح والبياتي أبدع في هذا المجال . 

ولا تسألي النجم عن موطني

 فما موطن 

غير هذا الفضاء 

ولا تذكريني ولا تحزني

 إذا ما سمعت 

رياح المساء

 تولول بين الشجر

 فتوقظ حتى الحجر

***

و لا تسألي من إنا

 ولا تندبي حظنا 

فما أنا إلا كهذا الجناح

 جناح شريد

 بكته على الأرض حتى الجراح

 يساءل أيامه عن غد

 ويروي الى الليل حلما جديدا 

ان الشاعر عبد الوهاب البياتي ،شاعر الاغتراب والحنين وقصائده نماذج إبداعية من شعر المنفى العراقي،وله الفضل في المشاريع الأدبية في المنفى ،وعبد الوهاب البياتي يعد ألان من المجددين في القصيدة الشعرية ،فالتحديث الذي أبدعه البياتي مع نخبة  من شعراء الحداثة جعلته رائدا من رواد الشعر العربي . لقد حفر اسمه في مشهد الشعر العراقي والعربي بجدارة،انه شاعر المنفى العراقي.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن