قد يرى البعض ان مقارنة شاعر فصحى بشاعر شعبي
هي مقارنة غير نافعة ولا داعي لها ولربما تكون غير عادلة اساساً ، لكنني قررت المقارنة من ناحية التشابه الشعري العام وليس التخصصي ، باعتبار الشعر فن .
اي انها ستكون مقارنة جمال وتشابه مواضع فنية مختلفة عن بعضها اساساً . لا شك ان كل متذوقي الشعر الشعبي العراقي يرون ان عريان شاعراً مختلفاً يكتب القصيدة بطريقة جديدة بغض النظر عن مدى تقبلهم لنتاجه الشعري الذي تركه قبل رحيله ، ولكن ما مدى التشابه بين الشاعرين ؟ الاثنان اراهما من وجهة نظري كلاسيكيان ضد الكلاسيكية او يمكن القول بأنهما يحملان الحداثة والكلاسيكية في آنٍ واحد ، واعتقد ان بعض النقاد يرون كذلك ايضاً . الاثنان لديهما لغة عالية الصدى ومخزون لغوي غني ومفردات رصينة يجيدان استخدامها ووضعها في المكان المناسب في القصيدة ويجيدان تسيير اللغة كما يشاءان في النص الشعري لدرجة رائعة وصعوبتهما لذيذة جداً من ناحية فهم الجملة الشعرية المحملة بالبلاغة والمجاز وحتى الرمزية . لم ارى عريان شاعراً تقليدياً قط ولا الجواهري كذلك برغم ما قيل عن الجواهري بأنه آخر الفحول و ان شعره تقليدي لاسلاف الشعر لكن التقليدية ليست هي الكلاسيكية . وكذلك عريان لم يكن تقليدياً ولم يكن حديثاً وحداثوياً كذلك للدرجة التي تجعله ممن ارتدوا معطف النواب لآخر بيتِ كتبوه بل على العكس انه بعيد جداً عن اسلوب النواب رغم تأثره وحبه لتجربة مظفر وهذا ما قاله هو شخصياً في العديد من المقابلات . نعود الى اوجه الشبه بين الجواهري وعريان . و ان كان الجواهري ملتزماً بالشكل الكلاسيكي للقصيدة الملتزم بالوزن والقافية إلا ان باطن هذا الشكل لم يكن تقليدياً ومجردَ استمرارية شعرية عربية من العصر العباسي او اي عصر آخر بل انها نتاج تجربة شخصية حافلة بالتقلبات السياسية والمزاجية الشعرية و الالام الشخصية ، اما عريان فهو الآخر كذلك في ستينات القرن الماضي تجده في قصيدة ردي ردي يقول :
ردي ردي
يا ضعن شَت عن هله وحداي
غربه البيه تحدي
انه موش اول زند يشتل شلب ويحصد بردي
ويقول في قصيدة ضيعتني :
ذوبتلك حتى اصابيع العرايس
وانه هاجس
امشي واضحك للضحك
وعيوني بعيون اليضدونك تجابس
بس احسنهم يكولون بكلبهم ضيعك !
انتقال زمني واضح بنفس الروح الشاعرة وقوة المفردة واستخدامها الصحيح ، وهذا يدل على انه يؤمن بأن الشعر كائن حي يتطور مع الزمن . قال محمود درويش عن الجواهري : انه اخر الكلاسيكيين عندما رحل اخذ الكلاسيكية كلها .
( بغض النظر عن رأيي الشخصي بما قاله درويش )
كذلك ارى بأن عريان هو اخر الكلاسيكيين المثقفين الذين تأثروا بمن سبقوهم من شعراء مثل الحاج زاير ، عبد الامير الفتلاوي .. الخ دون اللجوء للتقليد . هو اخر كلاسيكي حقيقي
فمن جاء بعده من الشعراء الكلاسيكيين وافاهم الاجل قبله وبقي هو ، وفي صحراء السماوة بقيَ اسمٌ يجلس على الرمل ظهرَ بعد وفاة عريان وهو محسن الخياط
الذي وافاه الاجل كذلك بعد سنوات قليلة ولكن الحقيقة ان محسن لم يكن مثل عريان ابداً حتى لو وجدنا تأثراً وانعكاس لاعجابه بقصيدة عريان ورصانتها . الصفة ستبقى لعريان لان من جاؤوا بعده خصوصاً جيل التسعينات او نهاية الثمانينات ( الشعراء الذين ابتعدوا عن نص التفعيلة واظهروا تأثرهم بالشاعر كاظم اسماعيل الكاطع ) لم يصلوا لما وصله عريان من لغة شعرية خاصة وحداثة داخلية منعشة للنص ، بل كانوا تقليديين والبعض منهم كان تقليدياً اكثر من اللازم ويعتمد كلياً على عاملين او ثلاثة كحد اقصى لنجاح القصيدة .