17 Feb
17Feb

منذ سنوات عدة والأستاذ ( شهيد )يقطع المسافة التي تفصل بيته عن الجامعة الواقعة عند الضفة الأخرى من النهر سيرا على الأقدام بعد أن ينفق وقتا ليس بالقصير واقفا أمام مرآته ينظر إلى تجاعيد وجهه, يتحسس أنفه الناتىء ووجنتيه البارزتين بأطراف أصابعه ،يتأمل تساقط أوراق نضارته وعريَ أغصان عمره من اخضرارها يوما بعد يوم ، يدرك أن قطار سنواته ماضٍ ينهب الأرض مسرعا وقد ترك شبابه على احدى مساطب الأنتظار عند محطة فائتة ولم يسدل الستار على فصل عزوبيته ، برودة الصقيع وقساوته لم تثنه من الاستمتاع بعبور الجسر والانصات لصوت النوارس وصخبها .اعتاد أن يقف فوقه مستنشقا الهواء الندي بعينين مغمضتين معمداً ذاكرته بلقطات وحكايات عاشها مازالت رائحة بعضها عالقة بسوره الحديدي. لكن  هذا الصباح يختلف عن كل الصباحات الراحلة ففي ليلة الأمس صبّت الطائرات جحيم غضبها على هذا الشريان الرابط بين جسد المدينة فقطعته وحولته الى أجزاء متناثرةٍ راحت تعانق قعر النهر ولم يبقَ غير سمفونية الموت التي تعزفها الأمواج عند أسفل دعائمه المحطمة ، مئات من الرجال والنساء متجمهرون حوله بوجوه واجمة يلفهم الكدر ,ملتحفين المأساة تغطيهم سحابة أصوات بكاء وأنين ,ينادون بأسماء أحبتهم الذين كانوا يعبرونه راجلين لربما يتقيأ النهر ويقذف من جوفه ممن فيه بقايا روح ،مجموعة من الشباب يغطسون ويطفون ملتقطين ماملكت أيديهم من أجساد متخشبة من القاع. مشاهد الموت طاغية على كل مكان , الأمهات المنتظرات بوجل أن يخرج أحد الغطاسين يحمل بين ذراعيه جثة أو مايدل عليها من ثياب تعود لأولادهن ,يرقعّن صبرهن المتشظي بحفنة أماني عاقرة .تباً لهذه المخلوقات البشرية التي تتلذذ بالحروب وتنشط بقهرها للجمال والحياة؟ وتباً لهذه الطائرات التي جلبت الويلات والدمار بدويّها ,هذا ماكان يتمتم به ,شهيد, مع نفسه من كلمات لهول ما رآه من كارثة حلت بالمدينة وأهلها, لمح هناك مجموعة صغيرة من الناس ينحدرون صوب النهر على بعد عشرات الأمتار عن الجسر, ذهب خلفهم, الكل يريد العبور للضفة الأخرى ,وجد قارباً صغيراً يقوده شيخ عجوز أحنت ظهره السنون باسطاً كفه لقاصديه لمساعدتهم على الركوب: تقدم على مهل وأنتِ اركبي بحذر.توسط ,شهيد ,الناس على متن القارب الذي راح يشق المياه بهدوء .كان حزيناً لما شاهده من خراب وضياع لبلاده, يضع يديه على جانبيّ القارب المتأرجح وهو يبتعد عن أصوات الحزن والهلع شيئا فشيئا.كانت عيناه تحتضنان الشمس التي تتكسر في الماء تحت ضربات مجداف الرجل المسن  ويداعب سمعه صوت تدفق النهر الذي أغرق ذهنه بالتساؤلات : أيعقل هذا أن يخفق قلبي للحب بعد كل هذا العمر وعلى احدى طالباتي ! صورتها لاتفارقني كل الأوقات ,نظراتها توحي بأنها تبادلني ذات الأعجاب وذات الشعور ، ثم أحس بنصل البرد يحز كفيه وأذنيه فدعك راحتيه ونفخ فيهما وضم ذراعيه الى صدره.ارتسمت مجددا ابتسامة على فمه وعيناه تلاحقان ضربات المجداف:  فعلا اني أحبها, أنها زهرة خريفي العابقة بالسعادة وهي كحبات مطر هطلت لتروي يباب أوقاتي المقفرة ,لكن أنا بعمر أبيها بل أكبر بكثير، يا الهي مالذي يحدث لي ؟توجه الى غرفته بعد أن وصل الجامعة ,ينظر الى ساعته والى حركة عقاربها الثملة ,استل سيجارة وأخذت شفتاه تمتصان عقبها بشراهة ونهم : ما أقسى برد هذا اليوم وبطء سير الوقت ,قطع هاجسه وقت بدء المحاضرة,  سحب أذني ياقة معطفه الى الأعلى لتخفي خلفها ذوائبه الرمادية, مسح عينيه بلطف ومسد شعره المبتل، ألقى تحية الصباح على الطلبة، رمق بخلسة ولهفة موضع جلوسها وكأنه لص يعاين مكان ضالته ، تصفح الوجوه المنشغلة فيما بينها بالهمس والضحك الخافت علها بينهم في موضع ما من القسم  ,احتدمت في رأسه الظنون عندما تَيقّن غيابها , كأنه طعن بسكين وصمته يملأ رأسه بالتساؤلات أين هي لماذا لم تأتِ؟ ألا تعلم إني أحترق بنيران الشوق لها, وأعد ساعات الليل الثقيل لحظة بعد أخرى حتى يأتي الصباح كي أنير قتامة دنيايَ بضياء ابتسامتها.الا تعلم حين لا أراها تتشح كل الأشياء التي أمامي بالسواد. الا تعلم اني بت أرتدي البدلات الأكثر شبابا لأجلها وأضع العطور الفاخرة, الا تعلم اني أصبحت أعشق الحياة من أجلها فقط,آه, وأنَّى لها أن تعلم أن أستاذها الوقور هائمٌ بحبها, من يهبني القوة وضبط النفس حتى أكمل هذه المحاضرة بل كيف أستطيع أن أرش ابتسامة كاذبة على عيون الذين أرتابوا لتذمري وعدم اتزاني ,كيف تمر هذه الساعة ويمضي هذا اليوم ,هل أسألهم عساني أجد من يريح فضولي بخبر , لا..لا أريد أن أثير الشكوك أكثر فأنهم منتبهون لأهتمامي وشدة اضطرابي عندما أدنو منها ,لكن عندما تأتي في الغد سوف أحشد كل شجاعتي وأقول لها أرجوك لاتتخلفي مرة أخرى في قابل الأيام لأني أفتقدك كثيرا,اشفقي على قلب رجل كبير ليس قادرا على تحمل جنون نبضاته، بالتأكيد سوف تفهم مدى تعلقي بها وتدرك حقيقة حبي لها..كان منغمساً في صراعات فكرية وهواجس جعلته مضطرباً بحركاته.تناهى الى سمعه وقع أقدام خارج القسم ,شده هذا الصوت الى التطلع نحو الباب فبادر اليه ولم يستطع انتظار القادم حتى يصل ظناً منه بأن صوت طقطقات حذائها تقترب ليطمئن قلبه قليلاً ويهدأ من أعاصيره المدمرة. وقعت عيناه على موظف الجامعة وهو يحمل بيده ورقة أرسلها اليه العميد,عاد الى مكانه بعد أن تبددت في الفضاء آخر توقعات حضورها,أخذ الورقة وهو مشتت الفكر وقرأ ما احتوته من كتابة حتى كادت عيناه تقفزان من مكانيهما، مد يده بارتعاش ولبس نظارته الشفافة وحدق ثانية, رفع رأسه ببطء شديد ,تمعن في الوجوه المندهشة لمنظره ,توجه نحو الباب يجر قدميه المتعشقتين في الأرض  , هوت  من يده الورقة مثل فراشة قطع أحد جناحيها.أرتفعت تمتمة الطلاب بالأستغراب والحيرة , بادر أحدهم ملتقطا الورقة ,بعد أن أطال النظر فيها, تأوه قائلاً وبصوت متلعثم : اخواني ان زميلتنا ( أمل ) وأشار بأصبعه الى مقعدها الفارغ هي الآن نائمة بسلام تحت ركــام الجسر

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن