د. محمد ونان
يُعدُّ الفراغ مصطلحاً جمالياً شائعاً في دراسات التشكيل الفني والصور الفتوغرافية والرسوم وولكننا سنحاول في هذا المقام تحليل الفراغ بوصفه ملمحاً نفسياً واجتماعياً في الآن نفسه ويشكل الفراغ نسبة كبيرة من الوجود، ويمتدُّ وينحسر على وفق تراتيبيات كونية متأتية من اللا استقرار ، أو تخلخل الوعي الفردي واهتزاز نمط تكوينه وشيوع الأسى في أنساقه المختلفة، ووظيفة الفراغ وظيفة غير ذاتية لأنَّها تمنح المتلقي حيزا من التدخل الذي يمكن تسميته بالحيز الإملائي ومن ثمّ يتبلور كنه الفراغ على مبدأ يوحّد الرؤى المتباينة ، وللفراغ – على الأغلب – وظيفة سلبية يمكن أن نلخصها بقول شاعر لم يثبت اسمه:
لقد هاجَ الفراغُ عليكَ شغلاً
وأسبابُ البلاءِ من الفراغِ
إِنَّ الشَّبَابَ وَالفَرَاغَ وَالجِدَهْ
مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَة
يفتح هذان البيتان دلالة كلية للفراغ ويشيان بوظيفته السلبية التي أشرت إليها ويمكن أن نلخصها بوظيفة (قطع الاتصال) وهذا المسمى يقترب في دلالته من العدم، وفي هذا الصدد رفض أرسطو العدم والفراغ إذ ذهب إلى أنه لا يمكن أن يكون هناك مكان خال([2]) ، ورأيه مخالف للمنطق والواقع على الرغم من تبنيه
[1] - الدر الفريد وبيت القصيد: محمد بن أيدمر المستعصمي (٦٣٩ هـ - ٧١٠ هـ)، المحقق: الدكتور كامل سلمان الجبوري، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان الطبعة: الأولى، ١٤٣٦ هـ - ٢٠١٥ م، ج4:122.)
[2] - العدم :"مقدمة قصيرة جداً": فرانك كلوس، ترجمة: فايقة جرجس حنا، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة ، 2013م ص: 13
_____________________
أصلاً لفكرة المنطق، ولا بد من الإشارة أن هذا التقارب لا يعني التطابق فالعدمية تتَّسم بالعبثية فلا جدوى من الحياة والفراغ لا يشترط العبثية، وقد يكون ذا وظيفة كالفراغ في بعض اللوحات التشكيلية الحامل للجمالية النصية البصرية.
وذهب طاليس إلى خلاف ما ذهب إليه أرسطو فنادى بفكرة (الفراغ الدائم)([1]) ، ومن المؤكد أن هذا الفراغ الدائم تملأه الأسئلة الكبرى وأجوبتها الوجودية أو النفسية أو الاجتماعية، وأعدُّ النسيان مهرباً معقولاً أو مقبولاً من فكرة الفراغ الدائم لما يحمله من تأثيرات نفسية مهمة.
1- الوسيلة اللغوية المستندة إلى قاعدتي الاستقراء والاستنباط، وتنظيم الإملاء تنظيماً مقبولاً.
2- الوسيلة المعرفية ومنح الفارغ دفقاً من المعلومات والمعارف المنطقية المتسلسلة.
3- الوسيلة التواصلية وهي تخصّ المالئ لا المملوء، فالمقتدر تواصلاً يتمكن من نشر رؤاه على وفق القدرة الفاعلة أو الصانعة، وهذه الوسيلة في صورتها الكلية اجتماعية المبنى.
[1] - ينظر المصدر نفسه ، ص: 14
_________________
إنَّ تحليل الفراغ يحتاج إلى إعادة الوسائل السابقة إلى غاباتها ودوافعها البعيدة، وهي غايات غير سليمة الكينونة – على الأغلب - فلم تتجه نحو الإملاء الإيجابي للفراغ، بل إلى الإملاء السلبي للفراغات ومن نتائج الفراغ المتأتي من قطع الاتصال ظهور مرض النرجسية بوصفه صورة من صور الانفصال والنرجسية (تعبر عن بروز ملامح جديدة للفرد في علاقاته مع ذاته ومع جسده ومع الآخر ومع العالم والزمن)) [1]( يكشف هذا النصُّ أنماط الانفصال للمصاب بالنرجسية ويؤكد أن النرجسية صورة من صور الفراغ أو سبب من أسباب نشوئه وهو سبب نفسي في بنيته الرئيسة.
والفاحص لاغلب المشاكل سيجد أن الفراغ له أثر كبير في تأجيجها وخلقها وشيوعها وما هذا المقال إلا مفتاح لدراسات مستقبلية تأحذ على عاتقها تحليل فلسفة الفراغ وتمثلاتها المحتلفة ولتأكيد خطتل تامقال نورد الحكاية الشعبية الآتية: ( وضع فلاح ثورين جائعينِ في حقل ذي عشب ووضع في حقل مثله ثورين غير جائعينِ ، راقب الفلاحُ الحقلين فرأى السكينة قد عمَّت في الحقل الأول ، وعلى عكسه كان الحقل الثاني إذ لم يلتفت الثوران إلى العشب وشغلا وقتهما بالتناطح) وهذا المثال يلخص الفراغ وتأثيراته.
________________ ( هامش )
[1] - -- عصر الفراغ "الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة" : جيل ليبوفتسكي، ترجمة : حافظ أدواخراز، مركز نماء للبحوث والدراسات، ط1 ، بيروت، 2018م، ص: 53.
______________