كتبت :سناء عبد العزيز
تشير العناوين الستة المدرجة في قائمة البوكر الدولية القصيرة والتي أعلن عنها قبل أيام، إلى مدى مراعاة لجنة التحكيم للتنوّع والحسّ الصارم في تحقيق التوازن على المستويات كافة، فهي لمؤلفين من ست دول: بلغاريا، كوت ديفوار، فرنسا، المكسيك، كوريا الجنوبية، وإسبانيا، موزعة بين الجنسين بالتساوي؛ ثلاثة مقابل ثلاثة، كما هي الحال بالنسبة لقيمة الجائزة التي تبلغ 50 ألف جنيه إسترليني وتقسم مناصفة بين الكاتب ومترجمه، فضلًا عن صدور تلك الأعمال عن ست دور نشر مختلفة، غير أن شعورًا بعدم الراحة عادة ما تجلبه مثل هذه الأرقام المنضبطة للغاية.
حظيت الجائزة هذا العام أيضًا بترشيح كتابين لأول مرة من البلغارية والكتالونية، وهو ما فتح نافذة واسعة على العالم، سيما وأن العناوين الستة تعكس بوضوح صورة المجتمعات التي أفرزتها، منها التغييرات التي مرت بها كوريا في انتقالها السريع من مجتمع ما قبل الحداثة إلى مجتمع ما بعد الحداثة، والموروثات الاستعمارية الفرنسية والنزعة الاستهلاكية في العصر الحديث، وكذلك تأثير الاستعمار في منطقة البحر الكاريبي، وصعود الحركات الشعبوية في جميع أنحاء العالم. من هنا انطبق وصف الروائية ليلى سليماني، رئيسة لجنة التحكيم لهذا العام، بأنها "قائمة متنوعة بشكل ملحوظ" و"رائعة جدًا ومثيرة للغاية".
تمنح جائزة البوكر كل عام لعمل مترجم إلى الإنكليزية من أي لغة ونشر في المملكة المتحدة أو أيرلندا، وهو ما يجعل حظ الكاتب من الترجمة شرطا أساسيا للفوز بها.
لغات للمرة الأولى
قسم كبير من الأراضي الإسبانية يتحدث الكتالونية الأصلية، اللغة التي دوّنت بها الشاعرة إيفا بالتاسار روايتها "بولدر" وترجمتها جوليا سانشيز إلى الإنكليزية، وهي قصة عن الحب والأمومة تضج بالمشاعر الحسية وكل أنواع الشهوات ولكن في قالب شعري فوار يرسم خريطة لجسد الأنثى باعتبارها عاشقة أولًا وما يعتري هذا الكيان الهش من تغيرات في أثناء فترة الحمل والولادة، ومشاعر الغيرة الغامضة وربما الرهبة من قبل النساء الأخريات. تصف سليماني قائمة هذا العام بأنها جريئة وغير متوقعة: "هناك شيء ما مخادع في كل منها". و"أشعر أيضًا أنها حساسة للغاية تهتم بالجسد، كيف تعيش باعتبارك جسدًا، وكيف تكتب عن تجربة الجسد".
"بولدر" واحدة من ثلاث روايات عن الأمومة أدرجت في القائمة الطويلة، واستطاعت مع الرواية الرابعة للكاتبة المكسيكية غوادالوبي نيتل "ما زلت ألد" التي ترجمتها من الإسبانية روزاليند هارفي، التأهل للقائمة القصيرة، بينما خرجت "هل ماتت الأم" للكاتبة النرويجية الأكثر مبيعا فيجديس هورث من مضمار السباق.
في "مأوى الزمن" يفترض جورجي جوسبودينوف علاجًا ناجعًا للزهايمر في "عيادة الماضي" الغرائبية، حيث يستنسخ كل طابق من مشفاه عقدًا فائتًا من زمن جميل يحفز الأذهان التي أربكتها الحداثة على إعادة ترتيب أدراجها المستلبة. ومع نجاح التقنية الفعالة، تصبح العيادة ملجأ للجميع وتستقطب دولًا بأكملها بصرف النظر عن الإصابة بالزهايمر، من عدمه. يصف أدريان ناثان ويست، في صحيفة "نيويورك تايمز"، ما طرأ على ذهنه بعد قراءة "مأوى الزمن": "كان من المستحيل عدم استرجاع المشاعر الغامضة عقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي". إنها رواية معقدة كتبها جوسبودينوف على مراحل وقامت أنجيلا روديل بترجمتها على الفور من البلغارية على أجزاء وقبل أن تقرأ النص كاملًا، بمجرد أن ينتهي الكاتب من مسودته، على عكس رواية "الحوت" التي نُشرت لأول مرة في كوريا الجنوبية عام 2004 قبل عام من إنشاء جائزة البوكر الدولية وترجمتها تشي يونغ كيم بعد أن أصبحت من الكلاسيكيات الحديثة في كوريا الجنوبية، وهو ما جعل كاتبتها تشون ميونغ كوان تصرح: "لقد مر وقت طويل، ما يقرب من 20 عامًا، منذ كتابتها، لدرجة أنني كدت أنسى الأمر". غير أن رواية تشون ميونغ كوان الأولى وجدها الحكام مثيرة للرهبة: "إنه كتاب تبتلعه وتعيش فيه لفترة من الوقت... لقد شيدت المؤلفة ’قصة معقولة من مواقف غير معقولة’".
"الحوت" واحدة من عملين أدرجا في قائمة البوكر القصيرة هما باكورة نتاج أصحابهما، والعمل الثاني هو مجموعة المقالات المجزأة بعنوان "الوقوف بتثاقل" لكاتب من كوت ديفوار (ساحل العاج) يتخذ من الاسم المستعار "جوز / GauZ" لقبا له، ترجمها فرانك وين من الفرنسية، وتتناول حياة المهاجرين غير الشرعيين في فرنسا الذين يعملون كحراس أمن. تقول لوسي بوبيسكو في مراجعة لصحيفة "فايننشال تايمز"، إن الهجاء "يسلي بقدر ما يعلم". بينما تلخصها لجنة التحكيم: "إنها قصة عن الاستعمار والاستهلاك، ومعايير القوة، وتضاؤل الأمل في الستينيات مع تحول المجتمع إلى السخرية والفساد".
العمل الأخير لأكبر كاتبة في تاريخ الجائزة
تستكشف أعمال الكاتبة الغوادلوبية ماريز كوندي الشتات الأفريقي الذي نتج عن العبودية والاستعمار في منطقة البحر الكاريبي. هذه الأعمال التي تجاوزت الأربعين هي رصيد كوندي من رحلة ربت عن 75 سنة، نظرًا لأنها بدأت الكتابة قبل أن تبلغ من العمر 12 عامًا وهي الآن على مشارف الـ 90، تعاني من اضطراب عصبي تنكسي تسبب في عدم الرؤية وصعوبة الكلام، وإن لم يتمكن من النيل بعد من قدرتها على الإبداع. حصلت كوندي على العديد من الجوائز من أهمها جائزة نوبل للآداب البديلة 2018 في العام الذي أجلت الهيئة السويدية منح جائزتها المرموقة إثر فضيحة التحرش الشهيرة. دخلت كوندي هذا العام بروايتها "الإنجيل وفقًا للعالم الجديد" إلى جانب زوجها المترجم لمعظم أعمالها ريتشارد فيلكوكس وهو من تلقى هذا النص شفاهة كلمة كلمة بقدر ما يستطيع الجسد المتعب تحمل الخيال الخصب.
تبدأ رواية كوندي بصبية تعاني آلام المخاض في سقيفة معششة بأكياس الأسمدة وعبوات مبيدات الحشائش وأدوات الحراثة، على جزيرة بعيدة عن موطنها. وما إن يرفع المولود قبضتيه الصغيرتين إلى فمه ويتكور بين حوافر الحمار طلبًا للدفء، تغتسل الأم قدر استطاعتها وتتسلل هاربة ودموعها تبلل وجنتيها، تاركة لنا الطفل على أكوام القش، بينما يضيء في الخارج نجم لامع يراه العالم بأسره. وكما يتوقع القارئ، تحاكي كوندي الأحداث التي وقعت لعيسى ابن مريم كما رواها الكتاب المقدس، كخيانة يهوذا والعشاء الأخير وغيرهما من الأحداث. وصفها النقاد بأنها قصة ممتعة ولكنها تتقدم سريعا للأمام دون أن تعد حقًا بالوصول إلى أي مكان. حتى أن دخولها القائمة القصيرة لم يكن مرجحًا من قبل البعض، بينما وصفتها لجنة التحكيم بأنها رواية مرحة مفعمة بالآمال، كما أنها "بسيطة مخادعة مليئة بالحكمة وكرم الروح وعطف الكاتبة الملموس تجاه العالم وتجاه فنها".
هل يمر العالم بإحدى فتراته المظلمة لدرجة أنه أصبح بحاجة ماسة إلى مخلص جديد؟ إن كوندي تستغل بطلها المذعور من تفشي الظلم ومعاملة السكان المحليين للمهاجرين، لفحص الجوانب المظلمة في مجتمعها، في آخر كتاب لها حسبما صرحت لموقع الجائزة: "الفوز سيكون وسيلة للاحتفال بروايتي الأخيرة".
فازت بالجائزة في العام السابق الكاتبة جيتانجالي شري عن روايتها "ضريح من رمال" وكانت أول رواية مترجمة من الهندية تفوز بالجائزة. ترى هل تسجل البلغارية أو الكتالونية أول سبق لها في البوكر هذا العام؟ ولعل وعسى أن تتوّج مسيرة كوندي بروايتها الأخيرة!
المصدر : ضفة ثالثة