08 Apr
08Apr

كتب : حسين عجيل الساعدي  

(الشعر لا يتألف إلا من تفاصيل جميلة)             الفيلسوف الفرنسي فولتير 

___

مدخل//

تتأرجح نصوص ديوان الشاعر "فاضل عباس" (أتكون من جديد) الصادر عن دار المثقف للطباعة والنشر/ بغداد سنة 2022، في ثلاثة أقسام، القسم الأول (نصوص التكوين) ضم (42) نصاً، والقسم الثاني (نصوص نثرية) ضم (16) نصاً، اما القسم الثالث (ومضات) أحتوى (77) ومضة. لقد جمع الشاعر أجناساً متعددة في الديوان، محملة برؤى تعبيرية، ليصهرها في بوتقة واحدة، شكلت تنوعاً ومزيجاً شعرياً بين نصوص سردية ونثرية وومضات. 

القراءة//

أشتمل الديوان على أستهلال وضعه الشاعر في مقدمة الديوان كإهداء، جاء بوصفه عتبة نصية أصطبغت به نصوص الديوان، المفعمة بصدق العاطفة وتوهجها، ولغة تمحورت حولها ذات الشاعر. 

(إلى التي قالت:  

اطمئن وأن انقطعت كل وسائل التوصل

فأحساسي وروحي وقلبي...

وأشياء أخرى تُحاورك بحديثٍ دون انقطاع أو كلل

إليك بعض فيض من مكنون الروح التي تُناجيكِ).

أما إذا تأملنا العنوان (أتكون من جديد)، فأنه يأتي بالكثير من المعاني التي يمكن الكشف عنها من خلال البعد الدلالي، فهو عتبة أنطلاق أولية، ومفتاح لفهم معالم الديوان وقراءة ما بين دفتيه، من دلالات وإيحاءات فنية ورمزية متعددة، تلخص رؤى الشاعر، على مستوى الرؤية والبنية الشعرية، التي تمكن القارئ من الولوج إلى أعماق الديوان والنفاذ الى أنكسارات ذات الشاعر فيه، الذي يعيش مخاض مؤلم، يتوق إلى الأنبعاث من جديد. 

أما العناوين الفرعية فوردت أغلبها بصيغة (أسمية) وبلفظ واحد (40) مرة، وكل لفظ له رمزيته وأنزياحه، أما البعض الآخر من العناوين (شبه جملة)،(15) مرة، و(جملة فعلية)،(5) مرات، والمتأمل في ألفاظ العناوين، يدرك أنها ذات طبيعة توصيفية، وسمات لغوية ودلالية وأسلوبية، لا يمكن أختزالها إلا في بؤرة تأويلية تكون موازية لقراءة نقدية للنص.  

عنوان الديوان يضعنا أمام تساؤل، ماذا يريد الشاعر به أن يقول لنا؟ وهل الذي يريد أن يقوله أنبعاثاً من جديد؟.
التكوين هو ولادة ونشوء، وهو عند المتكلمين (إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود)، ولكن عند الشاعر يعد تكوين نفسي، يكاد أن يكون الأمل بعد اليأس، والقدرة على (البدء من جديد)، فالعنوان أنزياحي دلالي لا يحمل في الواقع بعداً دينياً بقدر ما يحمل بعداً فلسفياً وروحياً ووجودياً، لأنه يضم بين جوانبه سؤالاً فلسفياً، جاء صادراً عن وعي نقدي وفكري. 

ماذا بعد العنوان؟. 

الشعر صدى صوت الشاعر الداخلي، المعبر عن هواجسه، وتجربته الذاتية، ورؤياه العميقة، المليئة بالإشارات والإيحاءات، فهو فضاء غير محدود، أداته اللغة التي هي (لغة الشعر ولغة الذات)، كذلك ينماز الشعر بنزعته الجمالية، فيصور ما لا نستطيع وصفه، من صور فنية نابضة بالحياة. ومن هذه الدروب سنسلك عالم الديوان بحثاً عن مكامن الجمال الشعري فيه، والكشف عن طبيعة الرؤى الشعرية للشاعر. 

إن من يقرأ نصوص الديوان قراءة المتمعن، يجد أنها تمتاز بصدق العاطفة، والنزعة الرومانسية الحالمة، الزاخرة بالمعاني العميقة، والصور الشعرية المكثفة، لا يكاد يجد فيه -الديوان- نصاً واحداً، إلا وتظهر أنكسارات ذات الشاعر، مغترباً بها عن الزمان والمكان، فقد أستطاع التعبير عما يختلج بأعماقه بواسطة الصور الشعرية المشحونة بالعواطف والأنفعالات، القائمة على مزج العاطفة بالإدراك الجمالي، والتفاعل مع القارئ على أساس وعيه ومعرفته. 

في الديوان ظاهرة تسترعي أهتمام المتلقي ألا وهي شيوع نبرة الحزن والأسى، والعاطفة المتأججة التي تخرج عبر الصور المصحوبة بالخيال الشعري، فيستشفها المتلقي، كطابع غالب على ملامح تجربة ومزاج الشاعر، يتجلى فيه النزوع الرومانسي، المتراكم المعاني والدلالات والصياغات الشعرية، والإحساس بجمالية هذا النزوع، المليء بمعالم الجمال المتغلغل في أعماق النفس، يقول المؤرخ الفرنسي "غايتان بيكون" الذي يصف الرومانسية: (هي مجموعة أذواق متزامنة، وحريات خالقة، وأنها  فنٌ شعارُه كلُّ شيء مسموحٌ به).  

إن الحديث عن (النزعة الرومانسية) في ديوان الشاعر "فاضل عباس" (أتكون من جديد) ليس حديثاً عن نزعة ذاتية محض، بقدر ما هي ادراكاً للآخر، وأشتغالاً شعرياً على كينونة (المرأة) التي أختزلت وجود الشاعر، وولاؤه وأنتماؤه. وبقدر هذا الحب كان أثر الجرح كبيراً في نفسه حين فقدها، والتي لازالت تسكن جوارحه، هذه الرؤية (يمكن أن تتيح لنا التمييز بين وجود الشعر من اجل ذات الإنسان كفرد وبين وجوده من أجل ذات الآخر)، من خلال لغة رقيقة وعبارة أنيقة، ذات عاطفة متدفقة من شلال وجداني، أحاطت بالتركيب اللغوي، والصياغات الشعرية، دون اللجوء إلى التعقيد، الذي يذهب بأجمل ما في الشعر وهو الإحساس. هذة العلامة الفارقة تدعو القارئ لا يبذل جهداً في أكتشافها، فتحمله ليعيش مع الشاعر حالة الحزن العميق وإن لم يصرح بها علناً فقد فضحتها مشاعره، التي أسرف فيها حتى أصبح في كثير من الأحيان يهيم في ذلة لواعج الشوق وصرخاته حيناً، وكبريائه في أحياناً كثيرة، لإن (اللغة الشخصية للشاعر تطبع إلى حد بعيد لغته الشعرية)، فالقارئ يجد نفسه أمام نصوص شعرية تأخذه أثناء قراءتها إلى عوالم من الهدوء والسكينة والجمال.  

إن صورة (المرأة) في نصوص الديوان تحمل أبعاداً ودلالات متنوعة يمكن أن تكون رمزاً توظيفاً وأستعارياً لإبداعه الشعري، تجسد فيه كل شيء، وتعني كل شيء، نجده كثيراً ما يتوجه إليها بالخطاب معبراً بذلك عن حبه لها وتودده إليها، ومحاولاً أستعطافها والتقرب إليها، في الحضور بين يديه، والدوران في فلكها بدافع الحب. 

يتحدث عن امرأة هزت كيانه، يتمناها وطناً بوصفه ملاذاً شرعياً، يسكنه ويلجأ إليه. فهو يرسم صورة حية لها تتسامى لتستحوذ على كيانه، فيستوقفها مشتكياً ما أصابه من الهموم والألم. 

نصوص الديوان مليئة بالذوق الفني والحس الجمالي، وسهلة الوصول إلى المتلقي بما يمتلكه الشاعر من مفردات عذبة وشفافة، لا يمكن أن يكون شاعراً مبدعاً بدونها. 

الرؤية الشعرية العامة للديوان، تعبر عن تجربة الشاعر الإنسانية، التي أكسبت شعره طابع البساطة، والتوق لكل ما هو جميل، حين يصبح ما في داخله مرئياً. فالشاعر "فاضل عباس" أنشغل بالتعبير عن ذاته وعواطفه ووجدانه بحيث كان الديوان تعبيراً عن تجربة شعورية وأحاسيس ذاتية. فجاءت نصوصه معبرة عن حالة نفسية مكتنزة بمشاعر الحزن والأسى والمناجاة والعذاب والشجن والشوق، وكأن قدر الشاعر ألا يشعر بالسعادة إلا لحظات، معبراً عن موقف أنفعالي يعيشه ومتنفس له. 

إن التمركز حول الذات يصاحبه الكثير من الحزن والشعور بالأسى، لا يفارق البنية العامة للديوان التي تنتهي إلى رؤية خاصة بالجذر الرومانسي الذي يحيط بالذات ويعود بها إلى الإحساس الذاتي، على مستوى الشعور بالألم والحزن والأسى وغير ذلك من المشاعر الإنسانية، التي تكون مصدر إلهام شعري، معتمداً على تقنية (فلاش باك flash back)، حين يستعرض شريطاً من الذكريات مخزوناً في اللاوعي. 

الشاعر يسقط في النبرة الخطابية، المسكونة بالآخر، التي تحضر بقوة في ثنايا نصوصه شكلاً ومضموناً، وهي صفة بارزة في شعره تعكس التكوين النفسي والعاطفي له، وإذا دققنا النظر في النصوص، سنجد أن هناك أكثر من علامة لغوية وأسلوبية تدل على هذه النزعة، المتصلة بضمير المخاطبة (الكاف) الذي حضر حضوراً لافتاً، فتكرر على ما يزيد عن (150) مرة، متماهياً ومتصلاً في أغلب الأحيان بالاسم وبالفعل مرة وبالحرف مرة أخرى، وبهذا الكم الكبير يخرج من نطاق الجملة النحوية، إلى نموذج جمالي يتعلق بالأحساس والمشاعر، الذي يعطي في كل مرة دلالة جديدة، لأنه يأتي في سياق لغوي أسلوبي في بناء النص الشعري، وأداة فنية شغلت مساحة واسعة وعلى أمتداد الديوان، فكان ظاهرة أسلوبية وظفها الشاعر لتحقيق أغراض فنية وتعبيرية، تحفز القارئ لمعرفة ما يستبطنه الشاعر. 

لابد من الإشارة إلى أن النصوص الشعرية في الديوان غاية في الكثافة الدلالية، التي تتطلب نبرة رقيقة في مخاطبة المرأة، والشاعر  يمتلك المهارة في خلق العبارة الشعرية الدالة على بساطة التعبير ورمزية اللغة الشعرية ورؤيته ومذهبه الشعري.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن