06 Mar
06Mar

كانَ شرطيُ الحدود البرية يُقلب في صفحات ِجَواز سَفري بتمعنِ ودهشة شَديدة دونَ أن يعيدهُ الي، طابورٌ طويلٌ للعابرينِ الى العمقِ  وقد أخذوا بالتململِ والضجرِ لتلكَ الدقائق المبالغُ فيها للتدقيقِ في صورتي الشخصيةِ الملصقةُ على أولى الصفحاتِ التي لا تُشبهني من وجهةِ نظر ِالشرطي ،كنتُ أُخفي اشفاقاً  سري  لِبلادةِ هذا  الشرطيُ وحِيرتهُ وحَينَ أعياهُ القرار بالسماحِ  لي العبور ام عدمه اقتربَ مني قائلاً:

ــ سيدتي أرجو أن تقفي جانباً لحين حضورالضابط  وحدهُ من يمتلك صلاحية عبوركِ الحدود.

تَنتهي الطوابيرُ وتتناسل أخرى وأنا مَركونةٌ كَحقيبتي الكالحة .. في زاويةِ منفذ العبور في صَباح ِمنفيٌ.

 رَفعتُ رَأسي من فوقِ وِسَادتي أنظرُ الى المنبهِ الصغير على المنضدة  الصغيرة بقربِ السريرحين لَمحتُ خَطينِ عميقين تحت عيني في صورتي التي قربتها لا تفرس أكثر في ملامحي وتاريخُ الصورة كُنا نقضي لَيلتنا الاولى معا في فندق كبيرٍ كلُ شيء خلفنا بَراقاً الجدرانُ المرايا وجوهنا فَرحتنا ارتدي فُستاناً أزرق بلونِ نهر دجلةَ،عاشقان مُحلقان في سماءِ الحب بلا هموم ...لم أكترث لتلك الخطوط التي طوقت عيني كأنها تشققات في تربةِ قاحلة ..تركتُ الصورة منكفئة طيلة النهار ...

غادرتُ غرفتي الى عملي القيت التحية على الزملاء لكني لمحت في العيون حالة من الذهول لا أعرف مبررا له ..

طفت في الشوارع والاسواق ابدد ساعات النهار المتبقية لاعود  الى غرفتي منهكة استسلم لنوم عميق حالما ادخل فراشي البارد منذ سنوات نسيت عددها لكنها بعيدة جدا

مددت يدي الى الصورة التي لاتزال على حالتها منذ تركتها في الصباح  أطارها الذهبي يلتمع في شحوب ضوء الغرفة وابتسامة رائعة ترتسم على وجهه ونظرة عائمة في نقطة مجهولة يراها وحده فقط وانا بفستاني الازرق كأني ألملم سماء مرصعة بالنجوم تنحسر وتضيق على تضاريس جسدي الفتي ...

 ارتعدت وعدت  الى الوراء ،الخطوط تزايدت عما كانت في الصباح صارت أعمق واشد قسوة ترتفع الى جبيني وتمتد الى  وجنتي …

 أنظر في المرآة  لا أجد  أثرا لتلك الاخاديد اللعينة التي تسربت الى ملامحي في الصورة ..

 تتسع عيناه الضاحكة وتبدو على وجنتيه تلكما الغمازتين الآسرتين حين  يزداد التصاقا بي ..

 في الصباح التالي كان البياض قد غزا خصلات شعري الطويل بقسوة ولون ثوبي أصبح رمادي كسماء مدلهمة ببقع السحب السود التي تتحرك بسرعة …تحسست كفي كانتا مازالتا نضرتين بلا عروق مثلما بدتا في الصورة قبل أن تشيخ داخل الاطار.. رفعتهما الى وجهي كان طريا ناعما كبشرة رضيع …

 بدأ الهلع ينفذ الى نفسي هل أنا في حلم كان صوته  عبر الهاتف يؤكد  أني لست في حلم حين تواعدنا أن نلتقي في مقهى المعهد البريطاني في الوزيرية ..

 هل هذه هلوسات تنتابني كل صباح  ام اصابني مس من الجنون توقف الزمن عن الدوران ..مازالت كما انا يا الهي لم تشيخ صورتي وانا في ذروة شبابي مامعنى ان يمر الزمن عبر الصور ونبقى كما نحن ننتظر في نقطة معينة لا نغادرها.

 لن اذهب اليوم الى عملي سابقى حبيسة غرفتي وبعد الظهر سأرتدي اجمل ثيابي واستقل سيارة تاكسي من هنا الى الوزيرية ولن ابالي بارتفاع الاجرة اليوم أول الشهر  ومحفظتي عامرة بالدنانير …

 كان ينتظرني في حديقة المعهد وقد احتفل وجهه بابتسامة راقصة على الغمازتين .. تلاشت  حين رأني مقبلة عليه اتهادى على بلاطات الممر بكعب حذائي المدبب والعالي جدا ،واطراف تنورتي العريضة ذات النقوش الزهرية تهفف مع نسمات تشرينية خفيفة ..

 وما ان وصلت لادفن كفي بين كفيه تبخر من امامي بسرعة خاطفة كأن قوة خفية وسحرية جذبته الى الفراغ وبقيت عائمة بالسكون المطبق .. هناك انكماشات في جلد رقبتي تتجعد كلما رفعت رأسي لابحث عنه في اللاشيء .. تتوالد التجاعيد على عنقي المشرئب واعدو .. كان الطريق مقفرا في قلب بغداد،  بحثت طويلا عن سيارة اجرة تعيدني الى اطار الصورة …

الشوارع خالية من المارة والسيارات والمحلات أغلقت فنارات أبوابها على عجل وتركت بلا أقفال…كنت وحيدة، أدور في متاهات الشوارع التي تقذفني في دائرة مغلقة ارفع بصري الى البنايات كانت نوافذها مغلقة لكني المح أشباحا تتحرك خلفها .. كانوا ينظرون الي من خلف زجاج النوافذ ويشيرون بأيديهم مذعورين أن أعود .. وأنا أجهل طريق عودتي ..

 صرخت في لجة فراغ المدينة تردد صوتا  ليس صوتي وكلمات ليست كلماتي ..

كان حظر التجوال يخيم على المدينة المكفهرة بالغبار الاصفر الذي طوقها .. تتلبد الرؤيا بالضباب الترابي ،اسير في شوارع لا اعرفها شحذت ذاكرتي وحددت وجهتي نحو الشطر الثاني من المدينة عبرت الجسر كان منظر البنايات العالية قد أعاد الهدوء الى نفسي حين تذكرت النهر والبيوت القديمة الرابضة خلف العمارات الشاهقة والحديثة ..

 كان النهر ضحلا  جفت المياه فيه والزوارق الملونة جاثية على الضفاف في سكون المكان، لمحت اشلاء بشرية تطفو على صفحة النهر الجاف من بين اكوام الغرين تبدو وجوههم بلا ملامح .. كلما ازداد جفاف النهر طفت اعدادا هائلة من الجثث حتى غطته تماما ..

 كان الوصول الى بيتنا القابع في أطراف المدينة عسيرا عبثا .. ابحث عن سيارة اجرة تقلني.

 لاصوت سوى صفير الريح التي تتساقط معها اوراق الاشجار على الطرقات، حبات الغبار حجبت عن عيني الرؤيا .. وها انا اتخبط في وحشة العتمة، افتش عن صوتك وسط هذا الخراب، لكني لا اسمع سوى اصداء النحيب القادم من البيوت المتداعية في عمق الازقة الضيقة اسير واسير اصل الى محطة الحافلات الكبيرة التي تتوسط المدينة .. فجأة  سمعت صوتا ينبعث من الجامع المقابل بدد سكون الفضاء دبت السكينة الى قلبي ..

أفقت كان اللون الاخضر يغمر المكان على ارتفاع الجبل الذي يلف المدينة ببيوتها ذات القمم الهرمية والنهر الشاسع قد استفاق الآن يحمل على صدره تلك السفن الكبيرة التي توقظ غفوة مياهه الفضية ..

كانت صورتنا في مكانها مددت يدي المعروقة لامعن النظر  من جديد بتلك الغمازتين وانا في ثوبي الازرق تشع عيني بفرحة شبابنا ..

كان مستغرقا في غفوته على الجانب الآخر من السرير الذي ضمنا أعواما  طويلة ..

فرك عينيه قائلا:

ـ الم اقل لك اتركي متابعة نشرة الاخبار قبل النوم ها قد عاودتك الكوابيس القديمة من جديد.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن