22 Feb
22Feb

 

منذ سنين وأنا أبحث عن طفولات القراءة، تلك اللحظات التي تطارد فيها الحدث وتحاول توقّعه، وتتمتع بلحظاتٍ يأخذك فيها الكاتب إلى حيث يشاء .. 

أخيراً، فقد أنفقت ليلتين في قراءة رواية (معجم الأوجاع) للكاتب ياس السعيدي، والتي فازت بجائزة الطيب صالح في السودان، ومن لم يقرأ موسم الهجرة إلى الشمال، لن يعرف معنى الرواية العربية،  

عشت في الليلتين لذة القراءة ومتابعة الحدث، ومحاولة خلق الشخوص بطريقتي أنا (القاريء)، تلك المَلَكَةُ التي يصنعها الكاتب .. 

تمكَّنَ الروائي فيها من شدِّ حواسي، وكتم أنفاسي، بتقنية سردية للراوي المتعدد، فقد كان راوياً عليماً من خلال مذكراته، ثم راوياً مقنّعاً، من خلال أشرطةِ تسجيل الطبيب النفسي، الذي وضع بين يدي القاريء قطعةً من تاريخ شعبٍ ورقعةٍ جغرافيةٍ، لا أدري، هل حكمت العالم أم حكمَها؟! 

فمن خلال طبيب نفسي، عاد الى البلد ليعيد ترتيب حياته التي كانت عبارةً عن نهرٍ من الخذلان، فضح المؤلف شخصيةَ شاعر سلطةٍ، تعيش داخله شخصيةُ قوّادٍ هو السيد (واو)، ليدرك في النهاية أن القصيدة التي يشتهيها رجال السلطة، تماثل العاهر التي يشتهونها، وإنهما (القصيدة والعاهر)، تحملان المواصفات ذاتها التي يأمل رجال السلطة، أن يختارهما (الشاعر والقواد) على وفق مواصفات تخدمان رجال الحاكم .. 

لقد كانت روايةً بحِبكةٍ ذكيةٍ، فيها من الدِقّةِ البوليسية الكثير، ولكنها منقوعة بالإنسانيةِ التي تمنح الحدث عمقاً يريده الكاتبُ أن يكون شعرياً، حيث تغلب شعرية الحدث على سوداوية السرد، ما يمنح الراوي الضعيف، قوةَ كونه شاهداً وحيداً، قادراً على الوقوف في محكمةِ التاريخِ، مؤهلاً للإدلاء بشهادته، لاغياً كل المؤدلجين الذين برروا الدكتاتورية واحتلال البلدان وشن الحروب والإبادات الجماعية ومطامير القمع .. 

لقد تمكن ياس السعيدي من الغوص في روح الشاعر والخائن والمناضل، من خلال شخصية الطبيب النفسي، الذي ربما كان هو الراوي نفسه، الذي غادر البلد في النهاية، بعد أن سرقوا حصيلة تحليلاته، ليكون جزءا من الإرث المنهوب، 

شكراً لك صديقي ياس السعيدي 

ولا أنسى هنا أن أذكرك بما ذكرت في رسالتي إليك، 

وهو أن الرواية عندي تنتهي في الصفحة ٢١٩، وليس في الصفحة ٢٣٢ كما هي في النشر .. 


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن