سلسلة أبنية تراثية بغدادية ١٨
د. صلاح عبد الرزاق
١٠ تشرين الثاني ٢٠٢٣
بائع الكتب كينيث مكنزي
ولد كينيث مكنزي Kenneth Mackenzie عام ١٨٧٩ لعائلة فلاحية اسكتلندية في قرية غيرلوش Gairloch مقاطعة ويستر روس Wester Ross في شمال غرب سكوتلندا. ربته والدته آبيغيل مكنزي Abigail Mackenzie التي ترملت في وقت مبكر. فتربى كينيث مع شقيقتيه ، ومع يتيمين آخرين تبنتهما والدته. اضطر العائلة لمغادرة أسكوتلندا بعد تعرض مزرعتهم إلى فيضان فظيع.
انتقل مكنزي إلى لندن واستقر في منطقة كامبيرويل Camber well ، وتلقى تعليماً جيداً في مدرسة هايلاند Highland Schools . وكانت لديه طموحات كثيرة لرسم مستقبله. فقد تطوع في العمل في الجيش ، ووضع أقدامه في طريق العمل والخبرة. فقد بدأ العمل في قسم الكتب والذي سرعان ما أوجد لديه الرغبة في بيع الكتب وكيفية تقديم الخدمة العالية للزبائن. يقول صديق قديم له بأنه رآه في المكتبة وهو ينضد الكتب ويرتبها ويقدم خدمة منظمة ومتقنة ، وخبرة عالية مع مزاج منسجم مع عمله.
محل بيع الكتب في لندن
في عام ١٩١١ كان مكنزي يقيم في شارع بيربر Berber Road في واندس وورث Wandsworth
مع شقيقتيه وابن عمه، وكان عمره ٣٢ عاماً ويرأس عائلة. في ذلك الوقت أسس عمله الجديد في محل بيع الكتب، ملاذ عاشق الكتاب في منطقة كنسنغستون The Book Lover's Resort in Kensington . وكانت تساعده ابنة عمه إيفانجيلين أديلايدا مكنزي Evangeline Adelaide Mackenzie في محله، وقيل أنه تزوجها فيما بعد. وبفضل براعته في عمله تمكن من تحقيق نجاح تجاري واضح.
كان مكنزي واحداً من جماعة ناشطة من الاسكوتلنديين المقيمين في لندن ، يعيشون معاً سواء في الجانب الاجتماعي أو الثقافي. وكان مكنزي معروفاً بسخائه وكرمه.
مع بدء الحرب العالمية الأولى في ١١ تشرين الثاني عام ١٩١٤ تطوع مكنزي في البحرية البريطانية. خدم في فرنسا وحاز على وسام النصر للمملكة المتحدة ، ووسام الحرب البريطاني ، ونجمة ١٩١٤-١٩١٥ . وجرح مكنزي ونُقل إلى المستشفى للعلاج فمكث عدة أشهر.
محل بيع الكتب في بغداد
عام ١٩١٨ توجه مكنزي إلى بغداد بصحبة صديق له يدعى هيمفري بومان الذي كان يبحث في لندن عن كتبي للعمل في العراق . وكانت مديرية المعارف قد قررت افتتاح مكتبة حكومية ، فقامت بتعيين مكنزي مسؤولاً عنها. وخصصت له دكاناً في سوق السراي الشهير ببيع الكتب منذ العهد العباسي. كان نجاح وشهرة بيع الكتب قد حاز إعجاب الجميع. وقد وصلت شهرته المبكرة إلى سراي الحكومة حتى أن صحيفة بغداد تايمس Baghdad Times كتبت تقول:
(كان هناك ازدحاماً خلال النهار بمحبي الكتاب العراقيين والبريطانيين، لشراء عشرات الآلاف من المجلدات المكتوبة بعدة لغات تضم مجالات متنوعة كثيرة. كان مكنزي يدير الأمر بشكل عبقري ، يقدم نصائحه لهذا الزبون وذاك. وكان يقدم لهم آخر الأعمال المطبوعة لطلاب العربية والتركية والكردية والفارسية والهندوسية واللغات الأوربية ، للإدارات المدنية الباحثة عن الخبرات الإدارية. العراقيون يرغبون بمطالعة الأدب الأوربي بأقصر وقت ، وخاصة قراء الروايات الأجنبية). (1)
ولـم تـكـن مـكـتـبـة مـكـنـزي الـوحـيـدة في بـغـداد الّـتي تـبـيـع الـكـتـب الإنـكـلـيـزيـة في تـلـك الـفـتـرة، فـقـد بـدأت عـدّة مـكـتـبـات يـمـتـلـكـهـا يـهـود بـجـلـب كـتـب إنـكـلـيـزيـة، ولـكـن مـكـتـبـة مـكـنـزي كـانـت الـوحـيـدة الـمـتـخـصـصـة بـهـا، والّـتي كـانـت تـتـوجـه في بـدايـتـهـا لـلـبـريـطـانـيـيـن الّـذيـن ازدادت أعـدادهـم فـيـهـا بـعـد احـتـلال قـوّاتـهـم لـهـا في 11 آذار 1917.
لقد صارت المكتبة مؤسسة الأكثر كفاءة من بين المؤسسات الحكومية في العراق الجديد. وانتشرت سمعة مكنزي في أنحاء البلاد والشرق الأوسط. وسرعان ما أصبحت مكتبة مكنزي أشهر مكتبة في شرق السويس. لم تقتصر عبقرية مكنزي على حماسته للكتب بل صار رائداً في توزيع الكتب مستفيداً من شاحنات النقل البري عبر الصحراء و البريد الجوي مؤكداً على أن عناوين كتبه الجديدة في مكتبته ستمنحه تلك الفرصة الثمينة. وكان من زبائنه الأطباء والصيادلة والمهندسون والقضاة والأكاديميون والباحثون وطلاب الجامعات والمؤسسات التعليمية والمدارس العراقية. كان مكنزي يوفر الكتب الدراسية من دور نشر عربية وعالمية.
كانت المكتبة تفتح أبوابها يومياً من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الثانية عشر ظهراً في أيام الصيف ومن التاسعة وحتى الواحدة بعد الظهر في أيام الشتاء، وفي أيام الأثنين والأربعاء والجمعة من كل اسبوع تفتح في المساء أيضاً من الخامسة وحتى السابعة والنصف في الصيف، ومن الرابعة وحتى السادسة والنصف في الشتاء.
تزوج كينيث مكنزي من فتاة اسكتلندية من عائلة مكنزي جاء بها إلى بغداد ، ربما هي ابنة عمه إيفانجيلين أديلايدا مكنزي Evangeline Adelaide التي كانت مساعدته في أول مكتبة افتتحها في لندن عام ١٩١١.
ثم جاء إلى بغداد أخوها دونالد مكنزي عام ١٩٢٥ الذي بدأ يعمل في المكتبة أيضاً ، وصار يديرها بعد وفاة كينيث عام ١٩٢٨.
وذكـرت الأمـريـكـيـة إيـدا سـتـاوت Ida Staudt الّـتي وصـلـت إلى بـغـداد مـع زوجـهـا في عـام 1924 : (ومـا يـثـبـت الاهتمام الّـذي يـولـيـه أهـل بـغـداد لـطـرق الـتّـفـكـيـر الـحـديـثـة ارتـيـادهـم لـمـكـتـبـة لا تـبـيـع إلّا كـتـبـاً إنـكـلـيـزيـة. وكـانـت هـذه الـمـكـتـبـة الـمـهـمّـة قـد فـتـحـت قـبـل وصـولـنـا إلى بـغـداد. ويـقـال إنّ مـكـتـبـة مـكـنـزي هـذه أضـخـم دار بـيـع كـتـب إنـكـلـيـزيـة في كـلّ أرجـاء الـعـالـم الّـتي تـقـع شـرق بـرلـيـن. ونـجـد عـلى رفـوفـهـا أفـضـل الـكـتـب في الـتّـاريـخ والآداب والـعـلـوم والاقتصاد والـفـلـسـفـة والأديـان. ولـم تـكـن تـحـتـوي لـمـدة طـويـلـة عـلى أي كـتـاب سـردي حـديـث) (2)
في عام ١٩٢٦ قررت الحكومة العراقية التوقف عن منافسة بقية المكتبات وباعة الكتب في بغداد ، وإنهاء ارتباط مكتبة مكنزي بالحكومة. ولذلك قررت وضع المكتبة في مزاد علني. فلم يكن المستفيد سوى كينيث مكنزي الذي سارع بنقل المكتبة من سوق السراي إلى شارع الرشيد قرب السنك وجامع السيد سلطان علي. وقام برفع كلمة الحكومة Government من لوحة اسم المكتبة، وأضاف إليها (لأصحابها مكنزي ومكنزي) فأصبحت ( The Bookshop Mackenzie & Mackenzie Proprietors ). وبعد سنوات انتقلت إلى بناية بيت لينج Lynch التي بقيت فيها لعقود قادمة.
لقد قام مكنزي بتطوير المكتبة لا ينفسه فيه بقية بائعي الكتب فقد أضاف قضية تأسيس دار نشر تقوم بطباعة ما يخص المدن العراقية القديمة مثل كتاب المدن القديمة في العراق Ancient Cities Of Iraq للكاتبة دوروثي ماكاي Dorothy Mackay الذي نشره عام ١٩٢٦. وكان ذلك الكتاب بالإنكليزية يقدم معلومات وافية للسياح الانكليز الذين يزورون المواقع الآثارية في العراق. أما الكتاب الثاني فهو القانون الدستوري في العراق من تأليف المستشرق الفرنسي تشارلز هوبر (١٨٤٧-١٨٨٤) Charles Huber الذي صدر عام ١٩٢٨ من قبل مكنزي.
كما نشرت مكتبة مكنزي كتب الرحلات النادرة في القرن التاسع عشر مثل كتاب الرحالة الإنكليزي روبرت كير بورتر (١٧٧٧- ١٨٤٢) Robert Ker Porter التي قام بها عام ١٨٢١-١٨٢٢ بعنوان (رحلات في جورجيا، فارس ، أرمينيا ، وبابل القديمة) (Travels in Georgia, Persia, Armenia, ancient Babylonia ) وكتاب (رحلة إلى العراق) للرحالة الإنكليزي جيمس سلك باكنغهام (١٧٨٦-١٨٥٥) James Silk Buckingham عام ١٨١٦ ، والذي صدرت ترجمته عام ١٩٦٨ من قبل سليم طه التكريتي. وكتاب المستشرق الإنكليزي جورج برسي بادجر (١٨١٥- ١٨٨٨) George Percy Badger.
كما تولى مكنزي طباعة كتاب للمس بيل (١٨٦٨- ١٩٢٦) عن العراق نشرته عام ١٩١١. ففي إحدى رسائلها الى زوجة أبيها في سنة 1923 ذكرت المس بيل أنها زارت المكتبة ، وأن مكنزي طلب منها إعادة طباعة كتابها عن العراق (مراد الى مراد) المطبوع في لندن سنة 1911 وفيه وصف لمدينة بغداد عند زيارتها لها سنة 1909. قال لها هناك طلبات عديدة على هذا الكتاب النافذ وإنه مستعد لشراء 200 نسخة من الكتاب. وبالفعل صدر الكتاب بطبعته الثانية سنة 1924.
وكان مكنزي يزور لندن ويتفق مع دور النشر هناك لاستيراد الكتب التي يحتاجها زبائنه في بغداد. ولا يقتصر اهتمامه على الكتب والمراجع والقواميس، بل توسع إلى الدوريات والنشريات. كما اهتم بتوفير الكتب المختصة بالعالم العربي والإسلامي وكتب الرحلات القديمة. كما كان يرسل طروداً بريدية تحمل الكتب إلى زبائنه خارج بغداد أو خارج العراق حتى وصلت أمريكا واليابان وإيران. وفي إعلان للمكتبة نشر في الدليل التجاري المطبوع في بغداد سنة ١٩٢٤، يقول الإعلان إن المكتبة مستعدة للبحث وتوفير أي كتاب أو مصدر من جميع أنحاء العالم، وموضحاً إن المكتبة تستلم شحنات من الكتب أسبوعيا من دور النشر في بريطانيا والولايات المتحدة (3)
المكتبة ونشر الفكر الاشتراكي
يذكر طارق إسماعيل في كتابه (تاريخ الحزب الشيوعي في العراق) أن دونالد مكنزي كانا يدعمان نشر الفكر الاشتراكي فيقول: (وقـد خـفـض مـكـنـزي أسـعـار عـدد مـن الـكـتـب الأجـنـبـيـة، وخـاصـة تـلـك الّـتي تـعـرض الأفـكـار الاشتراكية لـيـبـيـعـهـا لـشـبـاب الاشتراكيين الـعـراقـيـيـن بـسـعـر الـكـلـفـة بـيـنـمـا كـان يـبـيـعـهـا بـأسـعـار أغـلى لـلـبـريـطـانـيـيـن ولـلـعـراقـيـيـن الـمـيـسـوري الـحـال .ويـتـكـلّـم عـن زوجـة دونـالـد مـكـنـزي (الّـتي لـعـبـت دوراً مـهـمّـاً في نـشـر الأفـكـار الاشتراكية في أوسـاط الـجـمـعـيـات الـنّـسـائـيـة. ويـبـدو أنّـهـا اتّـصـلـت بـهـذه الـجـمـعـيـات خـلال انـعـقـاد مـؤتـمـر الـنّـسـائي الـشّـرقي الأوّل في دمـشـق في تـمّـوز 1930. وقـد ألـقـت زوجـة مـكـنـزي مـحـاضـرات مـع أمـريـكـيـة تـدعى Miss Kerr في الـنّـوادي الـنّـسـائـيـة وفي مـدارس الـبـنـات الّـتي كـانـت قـد ازدهـرت فـيـهـا الـمـبـادئ الاشتراكية). (4)
وفاة مكنزي
في مساء السبت ٢١ كانون الثاني ١٩٢٨ حدثت لمكنزي وعكة صحية. تم نقله فاقد الوعي إلى المستشفى لكنه لم يعد لوعه إطلاقاً. لقد مات بهدوء بعد ساعتين بسبب سكتة دماغية. تمت مراسم الدفن في اليوم التالي حيث حضرها جمهور كبير من المعزّين رغم سرعة إجراء المراسم والاعلان عنها. حض الحاكم السياسي البريطاني إضافة إلى ممثلي كل الوزارات الحكومية. قام الجوق الموسيقي بقيادة G. H. Collier التابع للقوة الجوية الملكية في العراق. كما حضر أصدقاء مكنزي. وكان حاملو النعش من جمعية كاليدونيا في بغداد. وتم دفنه في مقبرة المسيحيين في الباب الشرقي. ونعته الصحف اليومية والجماعة الماسونية حيث كان عضواً في المحفل الماسوني ببغداد. (5)
المكتبة بعد وفاة مكنزي
بعد وفاة كينيث مكنزي استلمها شقيق زوجته دونالد مكنزي الذي واصل العمل في المكتبة لمدة ثمانية عشر عاماً حتى عام ١٩٤٦. ثم ورثها العراقي كريم الذي كان يعمل مع كينيث حتى وفاته ثم مع دونالد حتى رحيله. واستمر بالعمل في المكتبة حتى توفي في السبعينيات ، ثم تسلمها معاونه إسكندر. وتولى التاجر الأرمني العراقي يرفانت نيرسيس بيدروسيان إدارة المكتبة ، وهو تاجر كتب له باع فيها. وبعد وفاته انتقلت المكتبة إلى السيدة أليس انتساريان بيدروسيان Alice Anteryasian Bedrosian ،
واستمرت المكتبة بالعمل بجهود ابنتيهما ليرنك يرفانت بيدروسيان Lernik Yervant Bedrosian و أختها أربيك يرفانت بيدروسيان Arpik Yervant Bedrosian. إذ حافظتا على إبقاء المكتبة صرحاً ثقافياً ومنارة حضارية في بغداد. (6)
وقد حدثني بعض أصحاب المحلات المجاورة لمكتبة مكنزي أن المكتبة كانت في فترة من الفترات تُدار من قبل فتاتين مسيحيتين، ويقصد بهما ليرنك وأربيك ابنتي يرفانت بيدروسيان.
المكتبة في مذكرات جبرا إبراهيم جبرا
في عام ١٩٤٨ وصل الكاتب الفلسطيني المسيحي جبرا إبراهيم جبرا (١٩١٩- ١٩٩٤) إلى بغداد وعمل مدرساً للأدب الإنكليزي في الكلية التوجيهية. يصف جبرا مكتبة مكنزي في مذكراته فيقول (في يوم من تلك الأيام الأولى لاستقراري في الكلية ، كنت في مكتبة مكنزي أستطلع آخر ما وصل إلى بغداد من كتب إنكليزية، وأتحدث إلى صاحبها عبد الكريم ، وهو عراقي كردي فيلي ، شديد اللطيف ورث المكتبة عن أصحابها الانكليز، لأنه كان يعمل معهم في إدارتها منذ أيام تأسيسها قبل الحرب العالمية الثانية، وغدت له خبرة بما يستجد في عالم الكتب الأجنبية. مضيفاً إلى تعامله مع بعض الكتب العربية التراثية منها والعراقية الحديثة. وقد أضحت مكتبته هذه في شارع الرشيد (الشارع الأهم في بغداد يومئذ) ملتقى للمثقفين من عراقيين وأجانب ، وكلهم على صلة شخصية بصاحبها الذي يتابع اهتماماتهم الفكرية، ويحاول بعناية تلبية ما يطلبون من كتب. وقد أبقى على تسمية المكتبة بـ (مكنزي) لشهرة التسمية وتميّزها ، حتى بات هو نفسه ، تجوّزاً ن يُعرف بكريم مكنزي، وبقيت المكتبة معلماً من معالم المدينة) (7)
المكتبة في رواية لأجاثا كريستي
وتذكر الكاتبة البوليسية أجاثا كريستي مكتبة مكنزي في روايتها (قدموا إلى بغداد They came to Baghdad) التي تدور أحداثها في العراق عام ١٩٥١ فتصف بطلة الرواية فيكتوريا وهي تبحث في بغداد عن مكتب (غصن الزيتون) فتقول:
(ووصـلـت إلى شـارع الـرّشـيـد واسـتـدارت يـمـيـنـاً. وكـانـت بـغـداد عـلى عـكـس مـا كـانـت تـتـصـوره عـنـهـا تـمـامـاً. شـارع رئـيـسي مـزدحـم مـكـتـظ بـالـنّـاس، وسـيـارات تـقـرع مـنـبـهـاتـهـا بـعـنـف، ونـاس يـتـصـايـحـون، وبـضـائـع أوربـيـة في واجـهـات الـمـحـلّات. وكـان الـنّـاس حـولـهـا يـبـصـقـون في كـلّ مـكـان بـعـد أن يـحـكّـوا حـنـاجـرهـم بـنـحـنـحـات مـلـحّـة وعـالـيـة. ولـم تـجـد شـخـصـيـات شـرقـيـة غـريـبـة وغـامـضـة، فـأغـلـبـيـة الـنّـاس يـرتـدون مـلابـس غـربـيـة رخـيـصـة ومـهـتـرئـة، سـتـرات جـيـش وقـوّات جـوّيـة قـديـمـة. وتـبـدو الأشـكـال الـمـتـفـوّطـة والـمـرتـديـة عـبـاءات سـوداء الّـتي نـلـمـحـهـا هـنـا وهـنـاك ضـائـعـة في وسـط هـذا الـخـلـيـط مـن الـمـلابـس الأوربـيـة . ولـم تـجـد أحـداً يـسـتـطـيـع أن يـدلّـهـا عـلى طـريـقـهـا، لا أصـحـاب الـمـحـلّات ولا الـشّـرطـة الّـذيـن رأتـهـم يـحـركـون أذرعـهـم بـعـنـفـوان ويـطـلـقـون صـفـاراتـهـم، ولا صـاحـب الـمـكـتـبـة الّـتي عـرضـت في واجـهـتـهـا بـعـض الـكـتـب الإنـكـلـيـزيـة. ثـمّ أكـمـلـت طـريـقـهـا، وعـنـدهـا هـاجـمـت أذنـيـهـا أصـوات رهـيـبـة لـضـربـات مـطـارق عـنـيـفـة جـاءت مـن زقـاق مـعـتـم، وتـذكـرت مـا أخـبـروهـا بـه مـن إنّ إنّ مـكـتـب “غـصـن الـزّيـتـون” كـان قـرب سـوق الـصّـفـافـيـر) (8)
و(صـاحـب الـمـكـتـبـة الّـتي عـرضـت في واجـهـتـهـا بـعـض الـكـتـب الإنـكـلـيـزيـة) عـام 1951 كـان ولا شـكّ كـريـم الّـذي تـكـلّـم عـنـه جـبـرا إبـراهـيـم جـبـرا في عـام 1948. ولأنّـه لـم يـكـن إنـكـلـيـزيـاً فـقـد اكـتـفـت الـكـاتـبـة بـذكـره ذكـراً عـابـراً ولـم تـتـكـلّـم عـن مـكـتـبـتـه.
المكتبة تواجه صعوبات
بعد وصول حزب البعث إلى السلطة عام ١٩٦٨ وتصاعد المد القومي والعداء لكل ما هو أجنبي ، والتجاه إلى التعريب الاجباري في الثقافة والمناهج الأكاديمية في الجامعات. الأمر الذي أدى إلى تراجع الاهتمام بالثقافات الأجنبية وبالتالي عدم الاهتمام بالكتب والمجلات الأجنبية. ووصل الوضع إلى الاتهام بالمؤامرة وخيانة الوطن لكل من يهتم بالكتاب الأجنبي، فذهبت مكتبة مكنزي هذا العداء السخيف للثقافة والكتاب. إذ عانى صاحب المكتبة من مضايقات في دوائر الاستيراد والتحويلات المالية في المصارف ومن عناصر أجهزة الأمن الأغبياء الذين لا يفقهون شيئاً سوى رصد حركات المواطنين بعين الريبة والغضب. في السبعينيات من القرن الماضي بقيت مكتبة مكنزي لا تبيع إلا ما بقي من كتبها القديمة المستوردة من قبل حيث تم منع استيراد المطبوعات الأجنبية حتى اضطرت إلى إغلاق أبوابها عام ١٩٧٧ . (9)
في ثمانينيات القرن الماضي وبسبب ارتفاع أسعار الكتاب الأجنبي أثناء الحرب العراقية الإيرانية ثم حرب الخليج عام ١٩٩١ والوضع الأمني والاقتصادي المضطرب ، أغلقت المكتبة أبوابها مثل بقية المحلات المهتمة بالتحف والانتيكات. وكان للحصار الذي فُرض على العراق بعد غزو القوات العراقية للكويت أثره في تدهور الوضع المعيشي للعراقيين. وزاد الفقر كثيراً فلم يعد باستطاعة أحد شراء كتاب أجنبي.
زيارتي لمكتبة مكنزي
في السابع من تشرين الثاني ٢٠٢٣ قمت بجولة في شارع الرشيد ، وتوقفت طويلاً أمام موقع مكتبة مكنزي السابق الواقع في ركن عمارة بيت لينج. البناية من طابقين مشيدة بالطابوق . الطابق العلوي متروك عليه آثار علامات الاندثار والتهالك. ولم يبق من الشبابيك المطلة على شارع الرشيد أو الزقاقين المجاورين لجانبيها سوى الهيكل ويعلو الفتحة عقد من الطابوق. ويعلو الجدار العلوي طلاء سابق تقشر بفعل المناخ المتقلب.
أما الطابق السفلي فقد تم ترميمه من الداخل وإشغاله من قبل الدكاكين والمحال التجارية . وبقي جدار البناية الخارجي مهملاً وفيه أضرار واضحة بحاجة إلى ترميمه كلياً. أعمدة البناية تختلف عن بقية أعمدة شارع الرشيد الاسطوانية العالية حيث أن أعمدة البناية ضخمة الحجم ومشيدة من الطابوق تعلوها أقواس من الطابوق أيضاً، وعليها نقوش وزخارف آجرية منجورة بأشكال نجمية متشابكة (أرابيسك). وهي تشابه الزخارف المستخدمة في تزيين المساجد والبيوت والأبنية البغدادية التراثية .
أما مكتبة مكنزي فقد تحولت إلى محل تجاري لبيع الحقائب النسائية. ولا يوجد أي أثر منها ، وحتى الجدران الداخلية للمحل فقد تم ترميمها وصبغها وتغليفها. لقد اكتفيت بتصوير البناية ومحل المكتبة من الخارج. بعد إغلاقها منذ خمسين عاماً تعرضت مكتبة مكنزي لعدة تغييرات ، فصارت محلاً لبيع الأحذية عام ٢٠١٥ ، وبيع الحقائب النسائية عام ٢٠٢٠ ولحد الآن.
الجدير بالذكر أن بناية لينج قد تعرضت لحرق المتظاهرين في عام ٢٠١٩. فقد نشرت صحيفة المدى بتاريخ ٢٤ تشرين الثاني ٢٠١٩ مقالاً بعنوان (مكتبة مكنزي .. احتراق زهرة في شارع الرشيد) للكاتب نعيم عبد مهلهل.
خاتمة
لو كانت مكتبة مكنزي قد بقيت في لندن ولم تنتقل إلى بغداد لبقيت مثل عشرات المكتبات القديمة في لندن التي ما زالت قائمة ويرتادها عشاق الكتب والموسوعات القديمة.
لقد فقدنا معلماً ثقافياً وحضارياً ساهم في رفد المناخ الثقافي والأدبي والعلمي والأكاديمي في العراق منذ قرن من الزمان، بعد انغلاق العراق على العالم قرابة أربعة قرون من العهد العثماني المظلم. ومع تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام ١٩٢١ بدأ التواصل مع العالم الخارجي ، فأخذت الكتب والروايات والمجلات تجد طريقها إلى العراق لتأخذ مكانها في رفوف المكتبات الجامعية والعامة والشخصية.
ونبدي أسفنا على تضييع مكتبة مكنزي وغيرها من المعالم التراثية البغدادية التي في طريقها إلى الاندثار والانهدام خاصة في جانبي شارع الرشيد العتيد. نأمل أن تلتفت وزارة الثقافة والجهات المعنية بتراث بغداد الاهتمام بهذه الأبنية التي تشكل جزءاً من ذاكرة بغداد وتاريخها ورونقها.
الهوامش
1 -https://wikitia.com/wiki/Kenneth_Mackenzie_(Bookseller)
2- صباح الناصري (مكتبة مكنزي في بغداد)
3- علي أبو الطحين (هكذا تأسست مكتبة مكنزي )، ملاحق المدى ، في ١ كانون الأول ٢٠١٩
4- صباح الناصري (مكتبة مكنزي في بغداد)
5- https://wikitia.com/wiki/Kenneth_Mackenzie_(Bookseller)
6- https://iraqiarmenian.church/en/2021/12/22/the-centenary-of-the-founding-of-the-mckinsey-library/
7- جبرا إبراهيم جبرا (شارع الأميرات) ، ص ٧٠
8- صباح الناصري (مكتبة مكنزي في بغداد)
9- عبد الجبار العتابي (مكتبة مكنزي .. تم محو آخر معلم للجمال البغدادي) في موقع إيلاف ، بتاريخ ٩ كانون الأول ٢٠١٥