كتب : د. محمد ونان
استهلَّ الشاعر قصيدته بوسيلة التواصل مع المكان وبيان أثره في العاطفة والشعور، فكانت دمشق جنة الشاعر المحسوس بها والفاعل الحقيقي في وجوده، وبدا المكان سمة حتمية في توجيه انفعالات الشاعر بجوار المجفز الجمالي لفتيات دمشسق اللائي تجاوزن عند الشاعر حدّين حدّ الوجود وحدّ التقديس، بل اشتغلن معطلات للضرورات الدينية المعتاد عليها، والمكان عند الوائلي تكوّن من بنيتين :
بنية الوجود الجغرافي مثَّلتها دمشق ونهر بردى بالاستناد إلى فكرة (ذكر الجزء على نية إيراد الكل)، فأورد دمشق ونهرها للتعبير عن سورية في جنبتها الكلية، والبنية الثانية هي بنية الوجود الشخصي مثَّلتها القتيات الدمشقيات وكلا البنيتين اتسمتا عند الشاعر بالجمال المتأتّى من التكامل لا من الاجتزاء، وركَّز في قصيدته على محاور الجمال الحسِّي المرئي، وهو في هذا البناء أدرك أن وصف الجمال المحسوس أكثر مقبولية من الرمز أو الإشارة المرتبطة بالجمال المعنوي أو الجمال الذهني، وأرى ان لغة القصيدة المهتمة بالجمال الحسّي أكثر قرباً من الشعرية لو قارناها مع وظيفة اللغة المهتمة بالجمال الذهمي .
لقد لجأ الوائلي إلى إعادة صياغة الجمال أو تأهيله بوساطة الالتزام بالجسد الأنثوي وتأثيراته في جمهور المتلقين المشار إليهم بثيمة (الاشتهاء) فالاشتهاء هو صيرورة نهائية للجسد الموصوف من الشاعر ولاسيما في الصورة الفنية التمبنية على التشبيه في قول الشاعر:
وتلك النهود بتلك الصدو ر فيالق هادرة بالحداء
تشيل لأعلى ككفّي سقيمٍ ألحَّ على ربّه بالدعاء
فنجد في هذين البيتين أن الشاعر قد منح النهود قوة الفيالق وصوتاً هادراً وحركةً مرتجفة شبهها بكفّي السقيم وهذا تشبيه معكوس؛ لأن ركن التشبيه الأول هو (النهود) وركن التشبيه الثاني هو (السقيم وحركة كفّية المرتجفتين)، فجمع إيجابية النهود مع سلبية السُّقم، وهذان الركنان المشتغلان في حيزين متناقضين رسما صورة فنية منحت البيتين جمالاً وظيفياً عضّدة – بطبيعة الحال – بحر المتقارب وموسيقاه، فضلاً عن ذلك نلحظ أن الشاعر قد توصّل إلى حقيقة شعور الآخرين في خلال الذات وكان هذا الأمر واضحاً في البيت الشعري الآتي:
ومدَّ ذوو الفسق والصالحو ن عيوناً فهم في التملِّي سواء
ومن مباني المتن الشعر التي ضمَّتها القصيدة مبنى (التعطيل) الذي ظهر بجلاء في قول الشاعر:
وتيَّمت الكاتبين الكرا م فلم يكتبوا ما عليه جزاء
فالكاتبون الكرام لم يسجلوا الذنوب والحسنات ؛ لأنهم كانوا مشغولين بجمال الفتاة الدمشقية التي أبهرتهم وعطّلت وظيفتهم، وفي هذا البيت مبالغة موضوعية مسوّرة باشتراطات الجمال الحسّي ولغته المُعبّرة عن كفاية الشاعر الخيالية، وفي هذا المقام لا بدّ من الإشارة إلى أن مخيال الوائلي لم يخل من الأثر الديني الذي يمكن أن نرصده في خلال الآتي: (حق السماء- الدعاء – إبداع الله – الصالحون – الحور العين – القسم) ؛ لذا فالقراءة لهذه القصيدة توحي لنا بأن الشاعر جعل من اللغة لاحقة للأثر النفسي الذي حفّز الجمال ظهوره، وبدت -كذلك –بنية التبيؤ الشعري حاضرة في أببيات القصيدة إذ حاول الشاعر الجمع بين جسد القتاة الدمشقية بوصفه أيقونة جميلة ومرتكزات البيئة في جانبها الجمالي ليخلق بيئة متكاملة من الجمال، وإيجاز يمكننا أن نقول إن قصيدة دمشق هي قصيدة بيئية البناء والمضمون وفيها انزياح عن الممنوع الديني وهي قصيدة نفسية ذاتية في حقيقتها احتفت ذاتية الشاعر خلف الوصف وذكر المجموع وهذا الاختفاء يُعدّ جزءاً فاعلاً منتمياً إلى النصّية أو الشعرية في حيز التمكين الشعري .