27 May
27May

تتصاعد معدلات التشوّهات الخلقية للمواليد في عموم مدن العراق، بعدما كانت تنحصر سابقاً في مدن تعرضت لتلوّث وقصف كثيف باستخدام مواد محرمة دولياً، مثل "الفسفور الأبيض" و"النابالم"، خصوصاً خلال فترة الاحتلال الأميركي للبلاد منذ عام 2003. وبين هذه المدن الفلوجة والبصرة التي تكثر فيها الملوّثات والغاز النفطي إلى جانب الألغام التي لم تفكك منذ نحو أربعة عقود. 

وما زالت مدينة الفلوجة وضواحيها تسجل النسبة الأعلى لعدد المواليد المصابين بتشوّهات خلقية في العراق، وتليها الرمادي وتلعفر ثم بغداد. كما ظهر تأثير هذه الأسلحة على البصرة من خلال ارتفاع معدلات أمراض السرطان في مناطقها.  

وأخيراً باتت مدن جديدة تحتضن حالات التشوّهات الخلقية، بسبب التأثيرات المناخية والتلوّث الناتج من الجفاف والعواصف والتصحر. 

وشهدت محافظة ذي قار (جنوب)، ولادة غريبة لطفل بعين واحدة، في حالة حدثت للمرة الأولى في المدينة. وتوفي هذا الطفل المشوّه بعد ساعات من ولادته، ثم تداول نشطاء وخبراء صوراً للطفل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتحدثوا عن مخاطر التلوّث مطالبين الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بالتدخل. ورغم استمرار الحملة الإعلامية ثلاثة أيام لم تحرك الحكومة العراقية والسلطات الصحية والبيئية ساكناً، ولم يصدر أي تصريح من مسؤوليها. 

يقول الأخصائي في طب الأطفال بالعاصمة بغداد، أحمد العامري، لـ"العربي الجديد": "يولد حوالي خمسة في المائة من أطفال العراق بتشوّهات خلقية وأمراض قاسية، ويتوفى بعضهم بعد يوم أو يومين، وأحياناً بعد ساعات من ولادتهم. حالات العيوب الخلقية تتمثل في أشكال مختلفة، منها الولادة بشفاه غير سليمة، واختلاف أحجام الرأس وبقية أجزاء الجسم، وتضخم الأطراف وانكماشها. وأخيراً ولد طفل بعين واحدة في منتصف الوجه. كما ظهرت حالات محيّرة وغريبة ونادرة لمواليد يعانون من مشاكل في العظام والقفص الصدري، إضافة إلى أمراض في القلب، ويملكون أعضاء بأحجام متفاوتة وغير طبيعية، وانتفاخات في أجهزة التنفس، وكل ذلك بسبب الجو الملوّث في البلاد، سواء مما خلفته الحروب أو الملوّثات الجديدة التي أثّرت في بيئة العراق بسبب الغازات والنفط والمعامل التي تتخلص من مخلفاتها في الأنهر، وغيرها". 

ويؤكد العامري أن "مدناً جديدة في العراق دخلت في دوامة التشوّهات الخلقية، بعدما كانت تخلو منها في الماضي، وبينها محافظة بابل التي سجلت أخيراً حالة تشوّه لطفل حديث الولادة عانى قبل وفاته من تجمع لسوائل غير معروفة علمياً في دماغه". 

ويذكر مسؤول في دائرة صحة بغداد لـ"العربي الجديد"، أن "أسباباً كثيرة تقف وراء زيادة حالات التشوّهات، بينها زواج الأقارب، لكن هذا السبب لا يعتبر رئيسياً في ولادة أطفال مصابين بأمراض غريبة، وأشكال نادرة وغير طبيعية، وتعود غالبية التشوّهات الخلقية للأطفال في بغداد إلى زيادة التعرض للتلوّث المعدني والرصاص، إضافة إلى تلوّث المياه والهواء بسبب المعامل الخاصة والحكومية، وهناك مصادر تلوّث من مصافي النفط، وثبت ولادة أطفال بتشوّهات خلقية أدت إلى وفاتهم في حي الدورة ببغداد الذي يعتبر أحد الأحياء الأكثر تلوثاً في العاصمة بسبب مصفى النفط الموجود فيه". 

وتوقعت وزارة البيئة، أخيراً، تصاعداً خطراً في نسب التلوّث والملوحة في المحافظات الجنوبية بسبب أزمة المياه التي يعاني منها البلد منذ سنوات، في حين لا تتوفر أساليب علاج مهمة لهذا الأمر. 

ويقول وزير البيئة، نزار آميدي، إنه "مع قدوم فصل الصيف، وقلة الإمدادات التي تصل من دول توفر موارد مائية للعراق، والتي تؤثر على كميات المياه الموجودة، ستزداد نسب الملوحة والتلوّث خصوصاً في محافظات البصرة والمثنى وذي قار وأخرى في المحافظات الجنوبية. ومن أولويات البرنامج الحكومي الحالي معالجة الملف البيئي والمناخي، ورصد مخصصات مالية عاجلة لمعالجة المشاكل البيئية التي يعاني منها البلد، ومواجهة مشاكل التغيّرات المناخية التي تأثر بها العراق". 

بدوره، يؤكد وكيل وزارة البيئة العراقي، جاسم الفلاحي، لـ"العربي الجديد"، أن "التلوث يؤدي إلى الكثير من الأمراض وينشر الأوبئة، كما يحدث تشوّهات خلقية لدى المواليد، ومصادر التلوّث في الأصل هي أنشطة حكومية، منها صناعية وخدماتية، وأخرى تتعلق بمعامل ومنشآت ومجار. هذه الأنشطة تستخدم النفط الأسود، وتخلّف كميات من انبعاثات الكربون المضرّة التي تلوّث الهواء والماء والتربة، في حين هناك نقص في التقنيات الحديثة الخاصة بمعالجة التلوّث".  

يضيف الفلاحي: "تعمل وزارة البيئة مع بقية الوزارات لتشييد منشآت حديثة لمعالجة مياه الصرف الصحي ومخلفات المعامل والبلدية، والحفاظ على جودة ونوعية المياه التي تعتبر شحيحة أيضاً، كما تتعاون مع وزارة النفط في تنفيذ مشاريع لمعالجة تلوّث الهواء، وتفادي حرق الغاز المصاحب. والبصرة هي أكثر المدن تلوّثاً في العراق، ثم ميسان ومحافظة ذي قار. والتلوّث الذي تخلفه الأنشطة الصناعية والخدماتية المختلفة والحروب التي شهدها العراق تدمر الإنسان وبيئته". 

وذكرت اختصاصية الأطفال في مدينة الفلوجة، سميرة العاني، أن "أغلب الإحصائيات المتوفرة تعود لسنوات سابقة، نظراً لعدم تمكن الفرق الطبية من إجراء مسح جديد"، لافتة إلى أن "دراسة أعدت في عام 2011، تشير إلى أنه مقابل كل ألف مولود جديد هناك نحو 147 يولدون بتشوهات خلقية، وأن نسبة تشوهات الأطفال في الفلوجة تزيد 14 مرة عن مثيلتها في مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين". 

وأضافت العاني: "وجد الباحثون زيادة بنسبة 38 ضعفاً في أعداد الإصابة بسرطان الدم بين سكان مدينة الفلوجة، مقابل زيادة بلغت 17 مرة بين سكان هيروشيما اليابانية. في حين ارتفعت إصابات سرطان الثدي لدى الإناث عشرة أضعاف، كما سجلت زيادات كبيرة في أورام الدماغ لدى البالغين".
ومن البصرة، تؤكد المتخصصة بأبحاث الأورام السرطانية، عروبة البصري، أن "كارثة التلوث الإشعاعي في البصرة تفتك بالمواطنين. يصل إلينا يومياً عدد غير قليل من الحالات المصابة بمختلف الأورام السرطانية، وخصوصاً النساء المصابات بأورام في الثدي والرحم، ومعظم المصابين من مختلف الفئات العمرية ينتهي بهم المطاف إلى الوفاة بسبب قلة الإمكانات اللازمة للعلاج". 

وذكرت البصري لـ"العربي الجديد"، أن "سبب تلك الأورام هو الإشعاع، وأغلب الضحايا هم ممن يسكنون قرب مصادرها، ولا زالت آلاف الأطنان من المخلفات الحربية الملوثة في المدينة تفتك بالأهالي، وتنشر السموم الإشعاعية في التربة والهواء والماء. هذه كارثة بيئية لا بد من التصدي لها، لأن أهالي البصرة يموتون جميعاً ببطء" على حد قولها. 

وفي وقت سابق، قال عضو مجلس البصرة (الحكومة المحلية)، مجيب الحساني، إن "نسبة التلوث الإشعاعي في المدينة ارتفعت بدرجة خطيرة، وسببت انتشار الأورام السرطانية والتشوهات الخلقية مع تواجد كميات كبيرة من مخلفات الحروب. بعد فحص قطع الحديد والسكراب المنتشرة في المدينة بين آلاف الأطنان من مخلفات الحرب، تبين أن نسبة التلوث فاقت 130 في المائة، في حين يقول المتخصصون بالإشعاعات إن هذه النسبة يجب ألا تتجاوز 0.3 في المائة". 

وبيّن الحساني أن "نسبة التلوث هي الأعلى في قضاء الزبير، وظهرت حالات سرطانية خطيرة وتشوهات ولادة في المناطق السكنية القريبة، وقرب المدينة الكرفانية". 

يذكر أن كميات اليورانيوم التي استخدمت في حرب العراق بلغت نحو 350 طناً، فضلاَ عن القنابل التي تحتوي على إشعاع نووي، وأظهرت إحصاءات رسمية سابقة وجود 300 موقع ملوّث، وأنها تحتاج إلى مليارات الدولارات وعشرات السنين لتطهيرها، إضافة إلى 63 موقعاً عسكرياً ملوّثاً نتيجة العمليات العسكرية، كما تنتشر ملوّثات إشعاعية في مدن عدة، ويؤكد خبراء أن نسبة التلوّث البيئي تضاعفت 11 مرة منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي، ويحذرون من غياب الاهتمام، وقلة المخصصات المالية لملف البيئة في ظل انتشار الفساد المالي والتخبط الإداري.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن