قال المرصد العراقي لحقوق الإنسان (٢٢ آذار ٢٠٢٣) إن المياه في العراق ملوثة بشكل كبير، والنفط ومياه الصرف الصحي والمخلفات الطبية، ترمى جميعها في الأنهر.
يشرب العراقيون منذ سنوات طويلة مياه ملوثة بالبراز والنفط ومياه الصرف الصحي، وفشلت جميع الحكومات في إيجاد معالجة لمشكلة تلوث المياه التي باتت مصدراً أساسياً لأمراض عدد كبير من العراقيين، رغم الموازنات المالية الانفجارية التي أقرها مجلس النواب العراقي على مدى عقدين ماضيين.
ترتفع نسبة تلوث المياه في العراق كل عام، مع ازدياد النسمة السكانية وتراجع خدمة شبكات تصفية المياه وازدياد المخلفات النفطية والطبية التي ترمى في الأنهر بشكل مستمر.
قال طبيب عراقي يعمل في إحدى المستشفيات الحكومية خلال شهادة للمرصد العراقي لحقوق الإنسان إن "مياه نهري دجلة والفرات غير صالحة للشرب، وسبباً رئيسياً لمرض السرطان، خاصة في محافظة البصرة".
وأضاف الطبيب الذي يخشى ذكر اسمه من تعرضه لعقوبات وظيفية: "اطلعت على عدد كبير من حالات مرضى السرطان، ووجدت أن المياه سبباً أساسياً في ذلك. مياهنا ملوثة بنسبة كبيرة".
تبدأ مشكلة تلوث المياه في العراق وفقاً لخبير الاستراتيجيات والسياسات المائية رمضان حمزة خلال شهادته للمرصد العراقي لحقوق الإنسان من كون المياه الداخلة إلى العراق من دولتي المنبع، تركيا وإيران "ملوّثة بالأساس".
وقال حمزة إن "المياه الواردة إلى العراق من هاتين الدولتين قليلة وتحمل مخرجات الصرف الصحي وكذلك الأسمدة الكيميائية المستخدمة بمشاريع الزراعة والري في المدن التركية والإيرانية، وعندما تدخل العراق تكون غير صالحة للشرب".
وقال مدير عام الدائرة الفنية في وزارة البيئة عيسى الفياض، في تصريح للتلفزيون الرسمي العراقي، إن "السبب الرئيس وراء تلوث المياه هو أن معظم مياه الصرف الصحي تصرف في الأنهر من دون معالجة. طاقة محطات الصرف الصحي في بغداد مصممة لثلاثة ملايين نسمة فقط، لكن هناك ٨ ملايين نسمة في العاصمة الآن".
ويلاحظ المارة من مواطنين ومسؤولين حكوميين ورقابيين، ما يحدث لنهر دجلة في العاصمة بغداد، وهو يتحول إلى مكان لمكب نفايات مستشفيات ومراكز طبية بالإضافة إلى محطات طاقة ومصافٍ نفطية.
سجاد الأسدي (٢٨ عاماً) يشتري مرةً في الأسبوع شاحنة مياه حوضية من معامل تنقية خاصة لملء خزان منزل العائلة. يسكن الأسدي في حي المهندسين في محافظة البصرة أقصى جنوبي العراق، ويتسع خزان منزله لطن من المياه يساوي ألف لتر، يشتريه بمبلغ يصل إلى ١٠ آلاف دينار عراقي (٧ دولار أميركي تقريباً).
تستهلك عائلة الأسدي المكونة من خمسة أفراد في البصرة، طناً من المياه كل ستة أو سبعة أيام، فالمياه الواصلة إليهم من شبكات الإسالة ملوّثة منذ سنوات ويتسمّم آلاف الأشخاص كل عام من جراء شربها أو استخدامها في الطبخ.
ونتيجة لذلك فإن السكان في البصرة لا يجرؤون على استخدام هذه المياه إلاّ للغسيل والسقي وغيرها من الاستخدامات غير البشرية، وعندما يريد الأسدي الاستحمام، فإن الخطوة الأولى التي يقوم بها، هي شمّ المياه وتذوقها قبل كل شي.
"أجدها أحياناً مالحة أو تنبعث منها رائحة كريهة فأتركها"، قال الأسدي خلال شهادته للمرصد العراقي لحقوق الإنسان.
تحدث لنا الأسدي عن نتائج فحص مختبري لمياه إسالة أخذت من الحي السكني الذي يعيش فيه وقال إنه "اطلع عليها، وأثبتت نسبة تلوّث عالية. قبل أيام قليلة حصلت المئات من حالات التسمّم بفعل المياه الملوّثة وامتلأت المستشفيات بالمرضى".
في عام ٢٠١٨، شهدت البصرة احتجاجات شعبية إثر حالات تسمم جماعي شاع على نطاق واسع حينها أن سببها المياه، نقل على إثرها ١١٨ ألف شخص إلى المستشفيات المتهالكة في المدينة. ولا تزال مثل هذه الحالات تسجّل بشكل فردي أو جماعي، كما يخبرنا الأسدي.
قال حسن صباح وهو ناشط بارز في البصرة إن "المشكلة تتركّز في مناطق وسط وجنوب وشرق المحافظة. لا تصلح مياه الإسالة في هذه الأحياء للاستخدام البشري أو الحيواني ولا للزراعة ولا حتى لغسيل الملابس".
وأضاف خلال شهادته للمرصد العراقي لحقوق الإنسان إن "الأمراض الناجمة عن تلوث المياه في البصرة متعددة وأكثرها شيوعاً هي الأمراض الجلدية".
وبحسب بحث أكاديمي أعدته الأستاذة في قسم الجغرافيا في جامعة البصرة إيمان كريم عباس بعنوان (مياه الصرف الصحي وأثرها على تلوث الأنهر الداخلية لمدينة البصرة).
وحددت عباس مجموعة أمراض ناجمة عن هذه المشكلة، وهي:
| |||||||||
درست عباس الواقع البيئي لمياه الصرف الصحي المطروحة في أنهار البصرة لعامي 2016 – 2017، واعتمدت على بيانات رسمية غير منشورة.
ومع أن الدراسة هذه تعود لسنوات سابقة، بيد أن سجاد الأسدي وحسن صباح من البصرة أكدا أن الأمراض ذاتها لا تزال تظهر على السكان حتى الآن.
تعود مشكلة تلوث المياه لسنوات عديدة ماضية ولا تقتصر على البصرة وحدها، كما أن الطبيعة، من قبيل الجفاف واللسان الملحي، ليست المتسبب الوحيد بتلوّث المياه، بل هناك أشخاص ودوائر ومنشآت حكومية بما فيها مستشفيات ومصافٍ للنفط تسهم فيها
يراقب خبير الاستراتيجيات والسياسات المائية رمضان حمزة مشكلة تلوّث المياه عن كثب منذ سنوات طويلة.
شغل حمزة وظائف بينها إدارة معهد استراتيجيات المياه والطاقة في إقليم كردستان، وسكرتارية الرابطة الدولية لجيولوجيا المياه. ويصنّف مشكلة التلوث المائي في العراق "كخرق خطير جداً لأمن المياه لما تسببه من أمراض قاتلة بينها السرطان بأنواعه".
تسير هذه المياه ببطء في مجرى الأنهر من دهوك وصولاً إلى البصرة وتتوزع في روافد ومنعرجات عديدة، وعلى امتداد هذه المسافة الشاسعة "ترمى الفضلات والقاذورات في مجرى، وبما أن المياه قليلة ولا تقدر على دفع الملوّثات هذه لشط العرب، فإن الفضلات تبقى وتتفاعل مع التربة وتنتج بيئة ملوّثة تترسب فيها المعادن الثقيلة وتؤثر على الأسماك والأشجار" وفقاً لحمزة.
أضاف حمزة أن "الثمر المزروع في العراق والأسماك والجواميس تحتوي، مع ما تنتجه من لحوم وألبان، على جزء من هذه الملوّثات، ولذلك تجد البنية الجسدية (لكثير من العراقيين) ضعيفة وهزيلة".
وتابع حمزة أن "٨٥٪ من الأمراض التي تصيب الأطفال سببها المياه وهي أمراض تصيب الكبار أيضاً".
خلال عمله في إقليم كردستان العراق، اطلع حمزة كما يخبرنا، على وفيات سببها تلوّث المياه، وهي أقل منها في الجنوب.
"تتفاقم المشكلة في البصرة لأنها ملتقى نهري دجلة والفرات اللذان يشكلان معاً شط العرب. تتجمع المياه الملوّثة في المدن الأخرى وتدخل البصرة مثل كرة الثلج"، يقول حمزة.
غير بعيد عن دهوك، تقع محافظة كركوك الغنية بالنفط. في هذه المحافظة يوجد وادٍ مملوء بالنفط يخرج من شركة نفط الشمال، التي تدار الحقول النفطية فيها، ويمتد لمسافات طويلة بمحاذاة أراضٍ زراعية.
بحسب مدير دائرة الزراعة في كركوك، زهير علي، فإن "٨٠ – ألف دونم زراعي تضررت جراء هذا النهر الأسود المعروف باسم (وادي النفط)".
قال علي خلال شهادته للمرصد العراقي لحقوق الإنسان إن "الأراضي الواقعة على كتفي وأطراف الوادي تكون ميتة، وتقدر خسائر المزارعين من مالكيها بنحو ٤٥٠ مليون دينار عراقي سنوياً (١٠٠ ألف دولار أميركي)".
وليست الخسارة مادية فحسب، فهناك أمراض ناجمة عنه أيضاً. فالعديد من المزارعين في القرى يعتمدون على المياه المخلوطة بمخلفات عمليات تصريف النفط، لإرواء المزروعات "التي يأكلها السكان لاحقاً".
الأضرار الواضحة والمباشرة لتلوّث المياه أقل حدة من التي ستظهر على المدى البعيد والمتوسط، وفقاً للخبير المائي رمضان حمزة. "ستكون مؤثرة جداً"، يحذر.
في ديالى المجاورة لكركوك، يعاني السكان أيضاً من مشكلة تلوّث المياه. تمتلك ديالى نهراً يحمل اسمها، لكن هذا النهر تحول إلى منطقة تصريف صحي بسبب الجفاف وانخفاض مناسيب المياه.
ليس حال سكان ديالى أفضل من حال سكان البصرة أو بقية المدن العراقية التي تعاني من التلوث، فالمحافظة المحاذية لإيران والتي تشكو دائماً قطع الحكومة الإيرانية الإمدادات المائية عن أنهرها وروافدها، تعاني من مشكلة التلوث وانخفاض مناسيب المياه.
دفع الجفاف مزارعي ديالى إلى الاستعانة بمياه المجاري، في خطوة زادت من التلوث الذي يعد سبباً أساسياً في الأمراض التي تضرب العراقيين.
قال عبد الله الشمري، الذي تولى مسؤوليات حكومية في قطاع البيئة، منها مدير بيئة ديالى، خلال شهادته للمرصد العراقي لحقوق الإنسان، إن "التلوّث في أنهر ديالى أدى لتقلص الثروة السمكية بنسبة ٥٠٪. تقلل الأمطار من نسب التلوّث عادة، لكن أسبابه مستمرة".
وأضاف أن "كميات كبيرة من المياه الآسنة تصرف نحو الأنهر إضافة لرمي النفايات فيها".
ووفقاً للشمري، فهناك ٣٠ دعوى قضائية في المحاكم ضدّ دوائر وجهات، بعضها حكومية، تتسبب بتلوّث المياه في محافظة ديالى.
يشق نهر دجلة العاصمة بغداد، ويبدو تلوّثه واضحاً للعيان خاصةً عندما تقل مناسيبه.
عند شارع أبي نؤاس، على ضفة النهر المقابلة للمنطقة الخضراء الحكومية، تُشمّ في بعض الليالي رائحة كريهة، والسبب هو تصريف مياه الصرف الصحي من منطقة الكرادة في النهر.
قال الناطق باسم وزارة الموارد المائية، علي راضي في تصريحات صحافية إن "سبب تلوث المياه هو رمي المخلفات داخل الأنهر وعدم تصفية المياه العائدة إليها من قبل أمانة بغداد ودوائر البلدية بسبب تهالك محطات معالجة مياه المجاري".
في هذا الفيديو يجري طبيب عراقي اسمه محسن لاجي، فحصاً مختبرياً لمياه الإسالة الرئيسية في بغداد، تحديداً من مشروع ماء الرصافة، ويظهر النسبة الكبيرة للتلوث في المياه، والتي لا تصلح للاستهلاك البشري أبداً.
في عام ٢٠٢٠، قالت جمعية حماة دجلة المعنية بالبيئة (غير حكومية)، إن "مدينة الطب (مجمع طبي حكومي) الواقعة على ضفاف دجلة وسط بغداد تسرّب مخلفات ١٠٠٠ مريض يومياً إلى النهر".
وأضافت أن "من أبرز المواد المتسربة عن نشاط المستشفيات قرب النهر هي: (الفورمالدهايد، كيمياويات تحليل وإظهار الصور، المذيبات الميثانول والأسيتون، الزئبق، والهرمون الانثوي، الاستروجين) بالإضافة لكميات كبيرة من المضادات الحيوية والأدوية المستعملة لعلاج الأورام السرطانية".
هذه الأسباب يضاف إليها استخدام السموم والمبيدات الكيميائية لصيد الأسماك، جعلت مياه نهري دجلة والفرات "مستنقعاً لكل ما هو ضار"، على حد وصف أحمد حمدان الجشعمي وهو ناشط في الدفاع عن البيئة.
قال الجشعمي خلال شهادته للمرصد العراقي لحقوق الإنسان إن "هذه المشكلة تلقي بظلالها على سكان المدن المتاخمة للأنهار، بشكل أساسي. زادت الأمراض السرطانية والبلهارزيا والملاريا وجدري الماء والأمراض الجلدية والهضمية، ما أدى لأرقام وفيات قياسية خاصة".
لم يعد العراقيون يعتمدون على مياه الإسالة للشرب، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال انتشار معامل التعبئة وتنقية المياه في عموم البلاد.
واللافت، أن هذه المعامل تعمل بشكل عشوائي ولا تخضع لرقابة حكومية يعتد بها دون أن يتطلب فتحها تخصص مهني للعاملين فيها أو لمؤسسيها.
"لا تحتاج سوى إلى ماء إسالة ومواد تعقيم رخيصة، ومساحة تصرّف بها زوائد عملية التنقية"، أخبرنا فاضل محمد، الذي تدير عائلته معامل من هذا النوع في محافظة بابل.
اتصل المرصد العراقي لحقوق الإنسان بوزارة الصحة للحصول على تعليق، لكن متحدثاً باسمها رفض الحديث وقال إن الموضوع يخص وزارة البيئة.
ولم نتمكن من الحصول على تعليق من وزارة البيئة أيضاً.
من الناحية القانونية، يمكن للمتضررين إقامة دعاوى ضدّ الدوائر الحكومية التي يثبت تسببها بتلوّث المياه، وكذلك ضد محطات تنقية المياه التي لا تخضع لأية رقابة حكومية.
قال الخبير القانوني علي التميمي في حديث للمرصد العراقي لحقوق الإنسان: "يمكن إقامة مثل هذه الدعاوى أمام محكمة البداءة وقولها الفصل في الموضوع إما بالحكم بالتعويض أو رد الدعوى".
سألنا الخبراء الذين تحدثنا إليهم عن المقترحات الممكنة للتخفيف من حدة تلوّث المياه في العراق.
قال خبير السياسات والاستراتيجيات المائية رمضان حمزة، إن "الخطوة الأولى تبدأ من تخصيص الحكومة ميزانية مالية لمعالجة المشكلة مع نشر الوعي البيئي".
وشدد على ضرورة أن "تتوقف المنشآت الصحية وغيرها عن تصريف المياه التي تستخدمها في عملها نحو الأنهر مباشرة والقيام بتدويرها ومعالجتها قبل ذلك".
ولابد أيضاً، كما قال، من تفعيل قانون تغريم الأشخاص والجهات التي تسهم في تلوث المياه، لأن ما تتكبده ميزانية الدولة من أموال تصرف لشراء أدوية تعالج الأمراض الناجمة عن هذه الظاهرة، كبير جداً.
أما أحمد حمدان الجشعمي، وهو ناشط في الدفاع عن البيئة، فيطالب بتطبيق لوائح قوانين البيئة وأن يفسح المجال أمام المتخصصين كي "تستعيد الأنهار سلامتها أسوة بدول العالم المتحضرة".
وقال إن "هذا ليس صعباً ومستحيلاً، وعلى الحكومة أن تبدي الجدية قبل فوات الأوان".
لا يمكن معالجة تلوث المياه في ديالى، وفق ما يؤكد الخبير البيئي عبد الله الشمري إلّا عبر تعزيز سلطة القانون وتنفيذ برامج توعوية تخلق انطباعاً لدى المجتمع حول الأضرار الصحية لهذه المشكلة وما ينجم عنها من أمراض وأوبئة.
يدعو المرصد العراقي لحقوق الإنسان، السلطات المختصة إلى إبداء جدية أكبر وبذل أقصى ما يمكن من الجهود لحل مشكلة تلوّث المياه في العراق، ويحثها على الاستماع للخبراء والمختصين في هذا المجال واتخاذ إجراءات وخطوات أكثر فاعلية توازي حجم الخطر الذي يتهدد الجميع وخاصة الفقراء والذين لا يمكنهم شراء المياه النقية المعبئة من محطات خاصة.
ويلفت المرصد العراقي لحقوق الإنسان، إلى أن فئات المجتمع كافة معرّضة لهذا الخطر، إن لم يكن من المياه الملوّثة فمن المزروعات المسقية بها.
ويشدد المرصد على ضرورة إيجاد حل بديل لتصريف مياه الصرف الصحي في الأنهر وأن تتأكد السلطات دائماً من توافق آلية تخلّص المعامل والمصانع والمستشفيات من مخلّفات عملها.
ويذكّر بما يقوله الخبراء حول تفاقم المشكلة كلّما طال أمدها دون معالجة علمية فيصبح من الصعب مستقبلاً علاج بيئة نفذ التلوّث إلى أعماقها، فضلاً عن الخسائر البشرية الآخذة بالتزايد.