21 Apr
21Apr


 كتب : د. ضياء نجم الاسدي

١- التحرر من سطوة التاريخ

Foundations of National Identity

1- Emancipation from the power of History.


قد يجد المؤمنون بالدين  في موضوع هذا البحث بعض الإشكالات الجوهرية، منها ظنهم أن للهوية الوطنية صلة بالتاريخ, وطيدة و عميقة. و أن أحد أهم مظاهرها هو ارتباطها بسلالات الناس و أسرهم٫ و  بعض هذا الاعتقاد مرده لفهم خاص لآيات قرانية و أحاديث ونصوص تدل على تفضيل و اصطفاء الأنبياء و الأوصياء و حتى بقاع الأرض و أصقاعها ، و بعض مشاهدها، ما يجعل صلتها (أي الهوية الوطنية) بالتاريخ صلة عضوية بنيوية لا انفصام لها. و يمكن دفع هذا الإشكال بالأطروحة الآتية: و هي أن الله تعالى في زمن الاصطفاء و التفضيل و الاجتباء لا ينظر الى الانتساب التاريخي أو الانحدار النسبي لمن أو لما يجتبي أو يصطفي في حينها، ، بل من الواضح أنه تعالى كان ينظر الى عزم الأشخاص المصطفين و سيرتهم و عملهم و كمال شخصياتهم. و ليس لمجرد انتسابهم الأسري . 


و كذلك اصطفاء الأماكن و البقاع له صلة وثيقة بخطط إلهية ليس من الضروري أن يدركها الإنسان، وقد لا ترتبط بحكمة معاصرة لحقبة محددة أو زمن محدد، و قد يدركها الفرد أو من يأتي بعده متأخراً, أو ربما لايدركها أساسا.  


فلو كان أمر الاصطفاء و الاجتباء و التفضيل محصوراً و عاماً في سلالات الأنبياء و وذراريهم فكيف بمن انحرف من أسر الانبياء و أقربائهم في الدم و النسب؟ وكيف قام بعض الناس عبر التاريخ ممن لا يتصلون بالأنبياء أو سلالاتهم بأعمال عظيمة تتظافر مع جهود الانبياء و تكمل مشاريعهم على هذه الأرض؟   إذن فالأمر منوط بالتقوى و العمل الصالح أياً كان الفاعل. و التقوى و العمل الصالح هي سمات و أفعال تُطلب و تُنجز في أوانها، وفي زمنها. و ليس ليُشار إليها فيما مضى من الزمان ، و من يأت بها في حياته أولى بالخير ممن يعتاش على ما صنع أسلافه وهو يخالف سيرتهم. ولم نجد أن هناك نصا أو تكليفا يحاسب الناس على ما اقترف أسلافهم من قبلهم و ما اجترحوا من أفعال.  بل نقرأ في كتاب الله ما يخالف ذلك بوضوح،  كالآية: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سورة البقرة- الآية 134


و يكفي أن نورد بعض الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية الدالة على أن قيمة الإنسان و مكانته وقيمة المكان عند الله و منزلته لا ترتبط بالتاريخ و لا بالامتداد النسبي بل بالتقوى و الصلاح و العمل المثمر، و بعبارة أخرى فهي دائما ما ترتبط بالحاضر و الآني و الراهن.


و ثمة شواهد من القرآن الكريم، من قبيل:

 هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم . سورة محمد. الآية (38). 

إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. سورة التوبة. الآية (39).

إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ قَدِيرًا. سورة النساء. الآية (133)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. سورة المائدة. الآية (54)


شواهد من الأحاديث النبوية:

لاَ تَأتُونِي بِأَنْسَابِكُم، وَأْتونِي بِأَعمَالِكُم.

يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ


يتطلب موضوع الهوية الوطنية الكثير من التأني قبل إصدار الأحكام ، و الكثير من التجرد و الكثير من الوعي و لا يحتاج أبدا الى التعصب و الغرور و الانحياز. فالأمر لا يتصل بالوجود المادي للفرد و مكتسباته الاجتماعية فحسب، لكنما يتصل بوعيه الذي يجب أن يكون وعيا صافياً صحيحاً فاعلاً و ليس مشوشاً زائفا مستلبا.  


يُعد موضوع الهوية الوطنية بحسب الفهم الدارج، ضمن المستلزمات الاساسية للشعور بالانتماء لبلدٍ ما، يشكل حدودا جغرافية معينة يعيش ضمنها الفرد و يجتهد في حفظها و الدفاع عنها كما لو أن تلك المقومات كانت سبب وجوده المادي والمعنوي /الاعتباري، و أن محاولات زحزحتها أو التعدي عليها تعني زحزحة الفرد عن انسانيته و مظاهر وجوده الأخرى. و الحق أن اعتناق هوية  ما و الانتماء اليها منشؤه فكري (عقلاني) بالدرجة الأساس، و هو مجرد، و مرتبط بالوعي، لكنه أيضاً سلوكي يحكمه النظام القيمي و الأخلاقي، و عملي تطبيقي مرتبط بالمنتج أو الانجاز الحضاري. وهو بقدر ذلك كله شعور آني لا يمكن ان يتخطى زمانه و ظروفه. بمعنى أن الإنسان قبل ولادته يكون فاقداً لوصف الهوية الوطنية و لا تنطبق عليه بأي شكل كان، و بعد موته يفقد ذلك البعد المسمى بالهوية الوطنية و يضحى إنساناً كونياً إن كان له منجز علمي أو فكري أو إنساني أو حضاري أو أي منجز آخر. و سرعان ما يندرس هو وهويته الوطنية إن مات ولم يكن له منجز يُذكر.  


والحق أن الحديث النبوي: (إذا مات الإنسان إنقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) يوضح بما لا يقبل اللبس أن عمل الإنسان بل جميع شؤونه ستنقطع بعد موته مالم يُدرك واحدة من ثلاث. و من الجلي أيضا أن الصدقة الجارية ( وهي كناية عن العمل الطيب المنتج) و العلمُ الذي ينتفع به هما نمطان أساسيان و نتاجان  و مظهران من مظاهر الانتماء و الهوية الوطنية. أما الولد الصالح ( و البنت الصالحة)  اللذان يدعوان  لآبائهم و أمهاتهم، فلن ينتفع المجتمع الذي يعيشان فيه بشيء من تلك الدعوات بشكل مباشر،  فالمستفيد بالدرجة الأساس هم الأموات ( بحسب مضمون الحديث). لكن قد يسهم الدعاء بشكل غير مباشر في تربية نفوس الأبناء و صقل شخصياتهم فيكونوا فاعلين منتجين في مجتمعهم، بفضل ما قد يترتب على ذلك من تأثير نفسي و ما يضفيه من عوامل الاطمئنان و الاستقرار. 


فأي عمل يقوم به الأبناء بعد موت والديهم تكون ثماره لهم و لمجتمعهم الذي يعيشون فيه، حتى لو كان الأموات هم المقصودون بنية الفعل، فالعلم و العمل الصالح مفهوما و واقعا يختصان بالحاضر و يتفاعلان معه و ينتجان فعلا مؤثرا، حتى و إن  وقعا في الماضي. وهذا دليل واضح على ما قيل آنفاً وهو أن الهوية الوطنية المبتنية على العمل و الانتاج و الابداع ترتكز على الحاضر أساساً و تعتمد عليه في إعلائها و منحها سماتها المميزة. أما ارتباطها بما قد سلف فهو على أهميته لا ينبغي أن يكون محدداً لها و لا يمكن أن يكون مهيمناً على الحاضر بأي شكل من الأشكال.


في الكشف عن بعض أهم الادعاءآت  أو الأوهام المتصلة بالهوية الوطنية لدى الكثيرين و عند تفحص  أسس تلك  الإدعاءات الناتجة عن الوهم التاريخاني نجد مثلا:


١- أن كثيراً من  العراقيين (على سبيل المثال لا الحصر) يربطون بين تاريخهم المعاصر و تأريخ الحضارات التي نشأت على أرض العراق بدءاً من حضارات بلاد الرافدين و انتهاءً بعصرنا الحاضر متوهمين أن هذا الامتداد التاريخي هو حبل متصل نسبا و سببا و أن سرجون الأكدي و نبوخذ نصر و حمورابي و گلگامش و الملوك و الانبياء و الأئمة و القادة و العلماء الذين درجوا على هذه الأرض جميعهم آباء العراقيين أو اخوالهم أو أعمامهم، و إنهم يشكلون الامتداد الأسري و النسبي و مصدر الإلهام و الفخر لهذا الشعب. و هم الذين  يمنحونهم أهم مظاهر الهوية التي يعتنقونها. وهذا أيضا ينطبق على شعور المصريين أنهم ابناء الفراعنة و أن اتصالهم التأريخي بسلالات الفراعنة لم ينقطع. و ادعاء اليهود أنهم أبناء موسى و الأنبياء و أنهم الشعب المختار تاريخيا. وهذا كما هو واضح تهافت و تشويش و خلل في التفكير لأسباب عديدة أهمها أسباب تتعلق بالفهم الديني: فبحسب حديث كلكم لآدم و آدم من تراب فهؤلاء هم آباء و أقرباء الأسرة البشرية كلها فلا  تمايز بين أحد و أحد آخر بسبب الانتماء  التأريخي. و لا بسبب العيش على أرضٍ ما و ضمن حدود ما و في زمن ما.  وإن الله تعالى يصطفي من يشاء من عباده و ليس لديه شعب مفضل أو قومية مفضلة بسبب تكوينها البيولوجي أو مظاهر  وجودها الأخرى، إنما لديه أشخاص و أقوام يجتبيهم لأسباب تتعلق برسالاته و أهدافه من الخلق.( راجع الآيات القرآنية اعلاه). 


إذن فهناك معياران للتفضيل : الأول هو التفضيل عند الله (بما يفضل الله به عباده)  و أساسه البر و التقوى و العمل الصالح القائم على أساس العدل و الانصاف و الامتناع عن الظلم على سبيل المثال. فمن يفعل ذلك فهو مفضل عند الله و مميز بين عباده. و المعيار الثاني هو التفاضل (و ليس التفضيل) بين البشر على أساس العرق و الدين و القومية و الطائفة نزولا الى القبيلة و النطاق الجغرافي، وغيرها مما يتفاضل فيه الناس بينهم و يستعلي بعضهم على بعض، بحق أو دون حق. ومن الواضح أن معيار التفضيل عند الله هو ليس معيار التفاضل، و أن الجزاء الأوفى هو لمن فضله الله و ليس لمن تفاضل على غيره بميزات خلقية لا يد له فيها كالعرق و القبيلة و الموطن، و التي لا تسهم في شيء في بناء و ترصين الهوية الوطنية و الحضارة الانسانية.          


مما تقدم، و بتعريف بسيط فإن الوطن هو الأرض التي يعيش عليها الفرد و يرتبط بها عرفاً و قانونا. وهو بحسب هذا التعريف يستند الى الجغرافية و ليس الى التاريخ.  و أن الهوية الوطنية الجامعة الشاملة للناس هي الانتماء الأكبر للعائلة الإنسانية. وهذه قد تكون نتيجة مريحة و مرضية للكثيرين الى حدٍ ما، لكنها ليست عملية أو واقعية في وضعنا الراهن. آخذين في الحسبان ما اتفقت عليه الأمم و الحكومات الغالبة من أعراف و اتفاقات و معاهدات أنتجت توصيفات قانونية لما يصطلح عليها بالأوطان و رسمت لها حدودها الفيزيائية أو المادية أو الجغرافية و القانونية و المعنوية و الاعتبارية.


٢- أما لو قبلنا بنظرية التطور و أن الانسان الحالي ( الهومو سابينز ) هو نسخة عليا متطورة في سلسلة النشوء و الارتقاء و التكيف، فقليل من الناس اليوم يستطيعون أن يثبتوا انتسابهم الى أبن أو حفيد محدد لجد أو سلف بعيد، فضلا عن  أن يثبتوا  أنهم احفاد كسرى أو حمورابي أو فرعون فصعودا . لأن وقائع التاريخ تخبرنا أن موجات من الهجرة و النزوح من و الى أرض الرافدين ( على سبيل المثال) كانت ومازالت تحدث منذ فجر الحضارة و أن أقواما من اليمن و الجزيرة العربية و الهند و السند و الرومان و الافرنج و الفرس و المغول و الاتراك  و الأحباش و البرابرة و التتار و كثير من شعوب الارض قد مروا أو جاءوا أو غزوا أو أقاموا أو استوطنوا في  أرض العراق و تزاوجوا و أنجبوا و رحل بعضهم وعاد بعضهم الى دياره و بقي بعضهم هو و نسله من بعده على هذه الارض. و أصبحوا لا يميزهم عن غيرهم مائز لا في اللغة ولا في الطباع و لا في اسلوب العيش. فكيف تُنتزع الهوية و الانتماء من مثل هؤلاء و تلصق بغيرهم من سكان هذه الارض الأصليين الذين قد لا يكون بقي منهم وارث؟ و كيف يمكن ان نحدد ما إذا كان  شخصا ما قد عاش اجداده قبل سبعة آلاف سنة على هذه الأرض، و أنه يمتاز عن غيرة بعمق وطنيته و أصالتها؟ 


لذا، علينا أن نقبل أن الهوية الوطنية الجامعة لا تعتمد على الانتماء التاريخي للعرق أو الارض، ومن الواضح أن الهوية الوطنية تتفكك كلما ارتحلت او تزحزحت جغرافيا. فالعراقي الذي عاش عقدين او ثلاثة من حياته في أوربا  مثلا و أنجب هناك ذرية نشأوا وترعرعوا في ثقافة جديدة و مجتمع غريب عن مسقط رأس ذويهم لايمكن أن نطالبهم بالشعور بالانتماء الى العراق كما يجب أن يشعر من أمضى حياته كلها في العراق. 


ففي حالة المغترب تكون هويته الوطنية مرتبطة واقعاً و قانوناً بالبلد الذي يعيش فيه و يأكل و يشرب من خيراته، أما انتمائه الى العراق فهو ليس سوى انتماء وجداني تستثيره و تحفزه بقايا اللغة و الموروث الاجتماعي و نمط التفكير و الثقافة التي يحملها. و بعض وشائج وصلات القرابة التي يظل محتفظا بها رغم تقادم الزمن. حتى إذا أمتد به الزمن و تناسلت ذريته بعيدا عن أرض آبائه و أجداده تحولت هويتهم و تحول انتماؤهم الى البلد الذي نموا و عاشوا فيه.


 وفي بعض الأحيان تتنازع الهوية الوطنية المكتسبة مع الموروث العالق في الوجدان وقد ترجح كفة أحدهما على الآخر فتصبح الهوية الوطنية قلقة تتطلب حسماً في الاختيار و إلا فإنها ستظل كذلك و يبدأ الفرد بالشعور بالتمزق بين قوى جذب مختلفه قد يخسر فيها سلامه النفسي و استقرار الضمير إن لم يتخذ القرار الذي ترتاح اليه نفسه وضميره. و في بعض الاحيان يسعى الفرد لأسباب مصلحية الى إدارة هذا النزاع حيث تقضي مصلحته فيكون بذلك نفعيا مصلحيا لا تعني له الهوية الوطنية سوى المصلحة أو مجموعة المصالح التي يحققها من خلال ادعائها. و ليس عليه و لا ينبغي له ان يتشدق بها نظريا لأن ذلك سيكون محض خداع و نفاق.


إذن من الواضح أن الهوية الوطنية تنبثق من الجغرافية ومن الأرض أولا. وهي صفة تمنحها الأرض و الواقع  الجغرافي لمن يتمسك بهما. ثم يبدأ تفاعل الفرد و المجتمع مع هذه الجغرافية فتنشأ اللغة و العادات و التقاليد و المعارف و الفنون و الثقافة بكل مكوناتها فتكون جميع تلك المظاهر وغيرها مكونات أساسية في الهوية الوطنية. وقد تكون بعض ملامح و أوجه الهوية الوطنية عوامل مستوردة و دخيلة على الواقع الجغرافي، كما في البلدان التي محق الوافدون اليها الثقافات الأصيلة و رسخوا ثقافاتهم و أنماط حياتهم و حولوا الواقع الجغرافي الجديد الى هوية  أو مجموعة هويات هجينة تعاني من حالات من التحول و التبدل ثم الاستقرار عبر الزمن: وهذا ماحدث في  أميركا و استراليا و كندا و ما جرى لسكانها الأصليين من تحولات في الهوية الوطنية رغم كونهم أبناء الأرض الأصليين و نتاج تفاعل تاريخها و ماضيها مع جغرافيتها حاضرها.  


فعلى الرغم من سعي المحتلين او الوافدين الجدد الى الإبقاء على بعض ملامح تعدد الهوية الثقافية لساكني الأرض الأصليين و الوافدين الآخرين لعكس الثراء الثقافي و التنوع المجتمعي ( مثلا السماح بنشوء أحياء تستوعب الوافدين وثقافاتهم كالحي الصيني، أو اللاتيني أو الهندي أو الافريقي، وغيرها من هويات وطنية وثقافية ثانوية)،  إلا أنهم أخضعوا الأرض المحتلة و سكانها الى تحول قسري هدفه صهر جميع المكونات ضمن هوية جديدة مهيمنة، تستدعي الماضي بوصفه حافزاً معنوياً يضع السكان الاصليين و الأقليات الصغيرة الضعيفة في فقاعات وهمية من الاعتراف و الحماية، و تمكنهم من الشعور بالأمن و الاتصال بالماضي حتى تتلاشى هذه الحاجة تدريجياً و ينتهي ذلك الشعور الى الأبد.  


وهكذا فإن الفرد ( و حتى المجموعات البشرية)  متى ما غادروا الأرض التي يعيشون عليها و تخطوا حدود الجغرافية دخلوا في مدارات أخرى لهويات و ثقافات أخرى. وعادة ما يحصل الآتي:


١- إما أن يستقووا على الهويات الأخرى فيهزموها و يطمسوها و يخضعوها و يعيدوا صياغتها و توجيهها وفقا لمنظورهم و نموذجهم و رؤيتهم للعالم، فينجحوا في ذلك و يعلوا من هويتهم و يرسخوها كما أشرنا آنفاً.

٢- أو أن يحاولوا الاستقواء و الهيمنة لكنهم يفشلوا و ينتكسوا و يخسروا هويتهم لمصلحة الهوية الأخرى الغالبة و عليهم حينئذ أن يرضخوا للتغير السريع أو التدريجي ليتأقلموا مع الهوية الغالبة.

٣- أو أن يتفاوضوا و يتحاوروا مع الهويات الأخرى فيقبلوا ببعضها و يرفضوا الأخرى و يعدلوا من انماطهم تبعاً لما يطرأ على افكارهم وعاداتهم من تغييرات. ( وقد حصل ذلك في مراحل تأريخية عديدة  تقاسم فيها الناس النفوذ في مناطق جغرافية اتفقوا على أن يتعايشوا ضمنها مع الاحتفاظ بخصوصياتهم و ثقافاتهم دون الاضطرار الى تغييرها أو تعديلها.( كما هو موجود اليوم على سبيل المثال في سويسرا، و إسبانيا، و روسيا و  العراق في أحقاب تاريخية مختلفة).

٤- أو أنهم لا يتفاعلوا مع الهويات الأخرى و ينكفئوا على ذواتهم و يتشبثوا بما هم عليه، و يبقوا عرضة للتهديد و التحدي و يرزحوا تحت سطوة الآخرين و هوياتهم السائدة و الغالبة.


مما تقدم فإن الحديث عن الهوية الوطنية و تفحص عمقها و شدتها و قوة ارتباطها يبدأ من الأرض ( أو الوطن في التعريف الراهن) و حدود الجغرافية أولا، ثم يعبر الى ما يرتبط بتلك الجغرافية بشكل عملي كالحدود و القوانين و الاعراف، ثم ما يميز تلك الجغرافية من منجزات حضارية معاصرة يعيشها الفرد المعاصر ( و ليست تلك التي كانت تعيشها الأقوام السالفة التي استوطنت هذه الأرض)، ثم ما يميز هذه الارض ( الوطن) من ثقافة أو ثقافات متعددة و ما تنتجه تلك الثقافات، و ما تسهم فيه من تنوع و ثراء.  


و من سمات الهوية الوطنية و عناصر قوتها هو التمثيل الحقيقي و الانسجام الفاعل و المنتج بين النظام السياسي و مؤسسات الدولة و المجتمع. فكلما كانت العلاقة بين هذه العناصر متكاملة و مترابطة و منتجة، كانت الهوية الوطنية اكثر استقرارا و صفاءً و كان المواطنون اكثر تمسكاً بهويتهم و أكثر استعدادا للمحافظة عليها و الدفاع عنها. 



أما جعل التاريخ و الامتداد التاريخي او الانتماء التأريخي اساسا للهوية الوطنية فهو مدعاة لكثير من الإشكالات و لا حظ له من النجاح نظرياً أو عمليا، بدليل ما سلف من توضيح. و هو كذلك لا ينسجم مع  الدين و نظامه المعرفي و القيمي كما تم اثباته آنفا، و بدليل الواقع الذي أثبت أن التاريخ و الثقافات الفرعية و الانتماء الفردي المستند الى التاريخ، هي مقومات ضئيلة و هشة،  و غالبا ما تكون غير منتجة في بناء نسيج وطني متماسك و صياغة هوية و طنية صلدة، و بناء دولة قابلة للحياة تستطيع أن تجاري التطور السريع و المعقد للدول الحاضرة و النظام العالمي الآخذ بالتطور و التحول.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن