د.راقية الخزعلي اكاديمية وخبيرة قانونية
لعل من اهم الأسباب التي دفعتني لكتابة هذا المقال، طلب تقدم به أحد المهجرين العراقيين الذين تم تهجيرهم من قبل ازلام النظام البائد، طلب مني الكتابة عن حقوقهم ومعاناتهم التي استمرت لعشرات السنين. استمعت له ولمعاناتهم وطلبت منهم وثائق تدلل على تلك المعاناة، فأجابني بالقول "وهل كان النظام الصدامي آنذاك يزود ضحاياه بأوراق او وثائق تدلل على جرائمه؟". توقفت عند رده وقررت ان ابحث بنفسي عن الحقيقة الكاملة.. قرات واطلعت وشاهدت الأفلام الوثائقية حتى اكتملت لدي الصورة عن مدى المعاناة والظلم الذي عاشه هؤلاء في ظل نظام مجرم ينتهك ابسط حقوقهم في العيش الكريم.
لا اعلم كيف ابدا ؟، ومن اين ابدا.. ؟ فالمصيبة كبيرة والجرائم عظيمة. توقفت برهة ثم ساقني عقلي وقلبي الى كتاب الله، ومن هنا ابدأ مقالي هذا بأية من القراّن الحكيم.
قال تعالى: ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)).
بدأ النظام البائد باتباع سياسة الترحيل لسكان العراق منذ عام 1963، مع اول انقلاب لحزب البعث، ومن اجل السيطرة على بلد تتكون غالبيته العظمى من الشيعة والاكراد، اتبع النظام البائد واعوانه أسلوب القمع الرهيب، فقد خططت ونفذت بانتظام سياسة تهجير السكان في ظل التجاهل وعدم المبالاة فكان التهجير للجماعات السكانية والأقليات قد تمت بصورة بشعة لم يشهد التاريخ الحديث ابشع من هذه السياسة حيث شهدت مصادرة لحقوقهم وانكار لهويتهم وسحب جنسيتهم العراقية.
ان هؤلاء المواطنين العراقيين الذين هم جزء من نصف مليون عراقي جردهم صدام حسين من عراقيتهم واقتلعهم من بيوتهم وهجرهم قسرا الى ايران قبل ما يزيد على عقدين من الزمن بتهمة تبعيتهم او اصولهم الإيرانية، حشرهم رجالا ونساءا واطفالا، في شاحنات كما تحشر الخراف، ورمى بهم على الحدود العراقية الإيرانية، بانتظار مصير المنفى المؤلم.
لقد كان مشهد هؤلاء العراقيين المهجرين واللاجئين، الهاربين من بطش النظام الى إيران، يبعث الألم في نفس كل عراقي ابي شهد ترحيلهم وطردهم من وطنهم لم يكتف النظام بذلك بل استولى على بيوتهم وممتلكاتهم في كل ارجاء العراق وقام بتمليكها الى اعوانه ومرتزقته، من دون وازع أخلاقي او انساني، البعض منهم كانوا في سن الرضاعة يوم جرى تهجير عوائلهم.
وبالرجوع الى التقارير الصادرة عن ((هيومن رايتس)) الامريكية يتبين ان غالبية من تم تحويلهم الى إيران هم من الاكراد الفيلية حيث تم ترحيل ما يقارب 350 الف شخص منهم، مع اختفاء وتغيب اكثر من 10 الاف اخرين في السجون والمعتقلات العراقية.
كلنا يعلم ان النظام البائد لم يكن يحترم القوانين الدولية ولا حتى قوانينه الوطنية انما يفعل ما يحلو له بالسكان العراقيين، اذ غيب المواطن العراقي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا واشتد التغيب في زمن النظام البائد وتمت مصادرة حرية الراي والفكر وتم ممارسة شتى أنواع الاضطهاد بسبب الانتماء القومي والسياسي والفكري والديني والمذهبي وانتهكت حقوق المرأة والطفل بشكل واسع... وبعد سقوط النظام فوجئ العالم بضخامة الجرائم التي تمثلت بكشف المقابر الجماعية المرعبة والانفاق والسجون والمعتقلات المنتشرة في كل انحاء البلاد وجرائم استخدام النظام للأسلحة الكيمياوية والمحرمة دوليا ضد أبناء شعبنا العراقي، وأثبتت الوثائق بعد سقوط ذلك النظام انه نفذ حملة اعدامات جماعية شملت شريحة كبيرة من أبناء الشعب العراقي، وهذا ابشع سجل اجرامي لأعتى نظام عرفه تاريخ البشرية.
والواقع من الامر ان اخوتنا من الكرد الفيليين هم من اصابهم الضرر الأكبر والأسوأ من سائر مكونات المجتمع العراقي في السياسة التي اتبعها النظام البائد، حيث تحملوا من جرائها الكثير من المعاناة والالام وعلى رأسها جريمة إبادة جماعية عندما تم تهجيرهم قسرا من العراق والقائهم خارج الحدود بأقسى الأساليب، من دون أي ذنب سوى انتمائهم القومي والوطني.
لذا نتساءل، من المسؤول عن هذا التهميش والاقصاء المتعمد للكرد الفيليين في عهد النظام الجديد لإزالة تبعات سياسات النظام السابق، وعدم انصافهم برد الاعتبار إليهم، بعد ما حل بهم من كوارث وجرائم في عهد نظام البعث؟؟ ولماذا لا يتعامل العراق الجديد مع اّلام الكرد الفيليين ولم يضمن لهم حقوقهم المشروعة؟ بما تؤكد جميع الوثائق والحقائق التاريخية بأنهم عراقيين اصلاء.
من كل ما تقدم، نطالب الحكومة العراقية النظر باهتمام كبير الى مأساة المهجرين من قبل النظام البائد والعمل على حل مشاكلهم بشكل جدي وليس بالخطب والتصريحات الرنانة ، والعمل على ارجاع حقوقهم المسلوبة فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ونختم مقالنا هذا بقوله تعالى:
((وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون)) سورة الانفال