كتب : د. محمد القريشي
في فلم "العراب" الذي يجسد واقع المافيا خلال النصف الثاني من القرن الماضي، يصل الدون مايكل كورليوني 'آل باتشينو' ( شيخ المافيا )، إلى مشارف الستين من عمره وهو مثقل بعقد الذنب بسبب أعماله الوحشية، خصوصا قتله لأخيه الأكبر (فريدو)، فيميل إلى الحكمة، ومساعدة الفقراء، وخلال الأحداث ، يرحل مع عائلته في سفرة قصيرة من أميركا موطن إقامته وهجرته، إلى "جزيرة صقلية"، موطن أهله وأجداده.. وهناك، في تلك المنطقة الجبلية الجميلة، النائمة في أحضان البحر المتوسط، والمتزينة بأشجار الزيتون والطيور الملونة وأنواع الورود المسكونة بمجاميع النحل، يخرج كورليوني (شيخ المافيا ) في جولة، برفقة ولده الذي يرى الجزيرة لأول مره ... لحظات صمت ودهشة وانبهار وسعادة يمر بها الابن، ويقطعها فجأة، موجها السؤال إلى والده : "إنها بلاد جميلة ياوالدي ، وألها طيبون... ما الذي يبرر هذا الكم الكبير من العنف لديهم والدماء التي تسيل على أرضهم؟ "... ودون تردد وباختزال كبير، يجيب الوالد : إنه التاريخ يا ولدي ... إنه التاريخ !
نعم ... إنها صقلية، بلد الثروات و القبائل والأعراف والديانة المسيحية، التي عرفت الغزاة بأنواعهم المختلفة، عرباً و إغريقيين وفرنسيين وغيرهم، وعاش الناس فيها، حائرين بين سحر الأرض، وتهديدات الوجود عليها، فسهل عليهم التنقل من الهدوء إلى العاصفة، ومن السلام إلى الحرب، ومن الوداعة إلى التوحش في لمحة بصر ... هي السهولة نفسها التي تحول كورليوني ، شيخ المافيا، من حكيم، وديع إلى قاتل شرير..
انه التاريخ المتعالي على الذاكرة، الذي جعل صقلية تلد المافيا وتسمم فيها بيئات العالم .. وكذلك ..هو التاريخ نفسه، الذي جعل العراق، بلد الثروات والقبائل والأعراف والأديان.. بلد، عرف الغزاة بأنواعهم ، فرسا ومغول وأتراك وبريطانيين وأميركيين وغيرهم، وعاش أهله حائرين بين بداوتهم وحداثتهم، مترددين، يقض مضاجعهم الماضي ويقلقهم الحاضر
فيهيمون على وجوههم، متحابين فيما بينهم تارة حد الذوبان، ومتخاصمين، تارة أخرى حد الهلاك ..
إنه التاريخ الذي وضع الحجاج في طريقهم ، وأخرج صدام وأبو بكر البغدادي من بينهم ، وجعل مجتمعهم رحما ولود لداعش، وسمم فيها بيئات العالم ..
إنه التاريخ المتعالي على الذاكرة والمتخاصم مع العقلانية .. إنه التاريخ يا ولدي !