11 Oct
11Oct


    د. محمد القريشي 
منذ تأسيس الدولة الإسلامية، اعتمدت ايران إسلوب (إنهاك الجبهات) كنمط عسكري مستوحى من  ثقافتها الفارسية التي تجمع بين دقة العمل والنفس الطوي (مع استثناء الحرب التي فرضها النظام العراقي السابق عليها).. وفق هذه الاستراتيجية تعاملت إيران مع أعداء وخصوم منتشرين في  بيئتها الجيوسياسية وشكلت قدراتها على الايذاء power of nuisance بواسطة  أذرع وامتدادات شاغلت إسرائيل واميركا لعقود طويلة. 


تعرضت "استراتيجية الإنهاك" الإيرانية لاختبار صعب بعد هجوم 7 أكتوبر، بسببالتحول الجذري الذي أظهرته إسرائيل في تعاملها مع التهديدات الخارجية، بعد ان أعلنت عن استعدادها لخوض معركة طويلة، ونيتها في إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط بناءً على ذلك، ووضع سقف عال للتفاوض حول عودة الرهائن بشكل غير مألوف، الامر الذي يمثل نهجًا جديدًا في تعامل القيادة الإسرائيلية مع العامل البشري في موازين الخسائر والارباح. 

وقد تجلت ملامح هذه الاستراتيجية الجديدة في سعي إسرائيل لإخراج إيران من "إنهاك الجبهات عن طريق الأذرع " وإجبارها على الدخول في "المواجهة المباشرة" عبر شن هجمات  مباشرة على مؤسسات وشخصيات إيرانية. عالم الاجتماع ورئيس اركان الجيش الاسرائيلي السابق ومنظر العقيدة العسكرية آيزنكوت وصف هذه الاستراتيجية بالعبارة التالية:

"عندما تقاتل ضد عدو ضعيف لسنوات عديدة، فإن ذلك يضعفك أيضا".وهي استراتيجية تتيح لاسرائيل القدرة على استغلال تفوقها الاستخباري والتقني وعلاقاتها الدولية، وتعبر في الوقت ذاته عن آخر مراحل تطور الفكر السياسي الإسرائيلي في إدارة الصراع، والذي مر  بمراحل  ثلاثة مفصلية ( ناصر شرارة ) :- 

مرحلة غولدا مائير: حيث كان التركيز خلالها على تغليب العامل البشري على الهدف في الحسابات السياسية والعسكرية.- مرحلة أرييل شارون: التي اتسمت بالموازنة الدقيقة بين الهدف والثمن، وأصبح القرار السياسي والعسكري نتاجًا لموازنة مدروسة بين الهدف المطلوب والثمن البشري المحتمل تقديمه .بمعنى آخر، لا يتم اتخاذ قرار دون دراسة  لإمكانية تحقيق هدف مقابل.- مرحلة بنيامين نتنياهو الحالية: التي تتميز بإعطاء الأولوية القصوى لتحقيق الهدف مهما كانت الخسائر.


وتعكس هذه المراحل تطورًا في الفكر السياسي الإسرائيلي، موازيا للتحولات التي مر بها المجتمع الإسرائيلي منذ عام 1948 , حيث كان التركيز كبيرا في المراحل الأولى من تأسيس الدولة، على تقليل الخسائر البشرية للحفاظ على المستوطنين الأوائل وتثبيتهم في البيئة الجديدة. القبول بمستويات عالية من الخسائر أصبح مبررًا لتحقيق الأهداف في الفترات الأخيرة، نظرًا لولادة أجيال جديدة في هذه البيئة وترسخ وجودها فيها.


ملامح العقيدة العسكرية الإيرانية وتراجع استراتيجية الإنهاكلا توجد عقيدة عسكرية إيرانية مُعلنة رسميًا، لكنها تتشكل باستمرار منذ عام 1979, وتشير التصريحات والمواقف إلى وجود نظرية ردع إيرانية غير واضحة بشكل كامل، ويرجع سبب ذلك إلى تعدد الرؤى العسكرية المتأثرة بعوامل عدة مثل الثقافة المزدوجة (الفارسية والشيعية)، وطبيعة النظام السياسي الديني، وازدواجية النظام المؤسسي الذي يجمع بين الجيش النظامي والحرس الثوري. هذه العوامل تعيق صياغة عقيدة عسكرية ذات ملامح واضحة. 

   في عام 1992، تم وضع مجموعة من المبادئ التي شكلت الأساس لنظام القوات المسلحة الإيرانية، وتركزت هذه المبادئ على رفع تكلفة الهجوم المحتمل،  بالنسبة للعدو وزيادة مخاطره.\

  وتتبنى إيران مفهوم الردع كعملية متعددة الأبعاد، مع إيلاء أهمية كبيرة للعمق الاستراتيجي بجوانبه الجغرافية والسياسية والعسكرية والثقافية. وتعتمد إيران على استراتيجيات مثل الخداع والإنكار لتعزيز قدراتها الرادعة وتنفذ ذلك ميدانيا  ( على سبيل المثال)، من خلال توزيع منشآتها النووية على نطاق جغرافي واسع وتحصينها تحت الأرض لحمايتها من أي هجوم محتمل.  

  وبشكل عام, تسيطر فكرة "الحرب غير المتكافئة" على العقل العسكري الإيراني، وتظهر بوضوح في الأدبيات الاستراتيجية الإيرانية. ويميل المختصون الى اعتبار هذا النهج خيارًا عقائديًا أكثر من كونه مجرد استجابة لنقص القدرات. وقد لخصت مؤسسة البحوث الاستراتيجية الفرنسية إلى نظرة الغرب اتجاه العقيدة العسكرية الإيرانية وفق المفهوم التالي: "تركز القوات المسلحةالإيرانية على تطوير قدرات متخصصة تستغل نقاط قوةإيران مثل مواردها البشرية وعمقها الاستراتيجي، واستعدادها لتحمل الخسائر، بينما تستغل نقاط ضعف خصومها الذين تعتبرهم مصدر التهديد". العقيدة العسكرية الإسرائيلية 


قدم  آيزنكوت في عام ٢٠١٥ عندما كان رئيسا لأركان الجيش، وثيقة رسمية تحت  عنوان "إستراتيجية جيش الدفاع الإسرائيلي"، حدد فيها أربعة اتجاهات رئيسية لمبادئ عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي: (1) الردع، (2) والإنذار المبكر، (3) والنتيجة الحاسمة،(4) والدفاع واتخاذ القرار.وناقش في هذه الوثيقة مفهوم الأمن استنادا إلى مجموعة من الفرضيات؛ تتمثل في الحفاظ على فترات طويلة من الهدوء الأمني لتحقيق تنمية مجتمعية وعلمية واقتصادية، وتحسين الاستعداد لحالات الطوارئ والحروب. 

 وركز إيزنكوت اهتمامه على "الجهود الحركية المستمرة" لإضعاف قدرات العدو بهدف إطالة الوقت بين الحروب وتحسين فرص الفوز بها إذا فرضت في الساحة، وأطلق عليها اسم "الحملة بين الحروب"، وهو مفهوم تم تطبيقه ميدانيا ضد إيران وتحركاتها في سوريا والعراق، ولا يشمل حركة حماس وحزب الله. 


وتدور رؤيته في التعامل مع تهديدات حماس وحزب الله حول تنفيذ سياسة "العقاب الجماعي" بإحداث أضرار في البنية التحتية ضد الحاضنة الشعبية الداعمة لأي حركة مسلحة تعمل على استهداف إسرائيل لتكون عبرة لجميع أنحاء لبنان أو لأي دولةأخرى في أي صراع مستقبلي. 

وقد وضح فكرته على ضوء العمليات الجارية في جنوب لبنان، كما يلي:" ما حدث في ضاحية بيروت عام 2006 سيحدث في كل قرية يُطلَق النار منها على إسرائيل، وسنستخدم قوة غير متناسبة ونسبب أضرارا ودمارا كبيرا فيها… 

من وجهة نظرنا، هذه ليست قرى مدنية، بل هي قواعد عسكرية"
وتستند الفرضية أيضا إلى خلق الردع في البيئة الإقليمية ضد العناصر التي يمكن أن تشكل تهديدا لإسرائيل، بالتركيز تحديدا على "إزالة التهديد بسرعة"، مع تقليل الأضرار التي ستلحق بالدولة. 
كما وضع آيزنكوت سلما للتهديدات الاستراتيجية التي تواجه إسرائيل وفق الترتيب التالي: 

(1) القنبلة النووية الإيرانية المحتملة،

(2)  الجماعات المسلحة وشبه العسكرية  ، ويقصد بذلك حركتي حماس بقطاع غزة وحزب الله في جنوب لبنان،

(3)  الجيوش النظامية في سوريا ومصر

 (4) الحرب السيبرانية والكوارث الطبيعية

(5)"النضال المستمر" من قِبَل الفلسطينيين، معتبرا مواصلة هدا   النضال والانفلات الأمني الذي تحدثه الاحتجاجات الفلسطينية تهديدا وجوديا.

 
المواجهة ورد الفعل:
على الرغم من حالة العداء بين ايران وإسرائيل وحجم الأضرار التي تعرضت لها ايران بسبب الانتقال إلى المواجهة المباشرة، فقد أظهرت ايران صبرا عاليا في ادارة الصراع وتقنينا دقيقا لردود الأفعال والرسائل المرافقة لها، بطريقة تسمح للدبلوماسية بتخفيض مستويات التصعيد وتقليل الاضرار.

وامام الخسائر النوعية التي تحملتها إيران والتحديات التي تنتظرها والتي يمكن ان تمس مشروعها النووي او منشآتها النفطية، يمكننا القول بتقلص المساحة الفعلية لردود أفعال إيرانية مناسبة باستثناء الاعتماد على القوة الصاروخية و الجدل القائم حوّل امكانية الإعلان عن عبورها   "العتبة النووية" إلى "الحيازة النووية"، استنادا إلى تصاعد معدلات تخصيبها لليورانيوم  من 3.7 %    خلال عام 2015   (مرحلة توقيع الاتفاق النووي)  إلى 60 %   خلال الفترة الحالية وهو معدل قريب تقنيا  من "الحيازة النووية". 

ولكن  هذا الإعلان  يمثل بحد ذاته خيارا خطيرا ومصيريا لدولة   إيران ونظامها السياسي،  لكونها  ستتعرض إلى حصار دولي شديد  قد يعرض  جبهتها الداخلية الى التصدع   ( المشهد الداخلي  الإيراني يختلف عن مشهد  كوريا الشمالية).


  إيران أمة عظيمة تعيش مرحلة من التحولات المتعلقة بالبحث عن مكانة لها بين الأمم الكبرى. ما ينقصها في هذه المرحلة هو تحديد "شكل هذه المكانة" وكيفية إدارة التفاعلات الجيوسياسية والمصالح التي تنشأ عنها.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن