17 Feb
17Feb

محمد عبد الجبار الشبوط


يركز الفهم الحضاري للقرآن على القيم العليا الضرورية لتفاعل مكونات المركب الحضاري بطريقة إنتاجية. هذا الفهم متجذر في الاعتقاد بأن القرآن يحمل ليس فقط الإرشاد الروحي او الديني ولكنه يقدم  أيضًا مخططًا شاملًا لمجتمع عادل ومزدهر. 

يتداول المسلمون النص القائل بان الاسلام دين ودولة، لكن يمكن في سياق اوسع ان نقول ان القران مشروع حضارة، ايضا. 

بداية نقول ان الفهم الحضاري للقرآن هو نهج يسعى إلى فهم النص القرآني ضمن سياق أوسع للحضارة الإنسانية. 

يتضمن استخلاص المبادئ والقيم الدائمة من القرآن وتطبيقها على القضايا المجتمعية المعاصرة. 

تحقيق هذا الفهم يتطلب فهما عميقا للقرآن، مع مراعاة السياق التاريخي والثقافي والاجتماعي الذي  أُنزلت فيه اياته، مع استيعاب لحضارة العصر وثقافته وخاصة في المجال العلمي والعلوم الانسانية المختلفة.

وهذا يختلف عن الفهم التقليدي للقرآن الذي قد يركز فقط على الجوانب الدينية والعبادية والقانونية واللغوية والجمالية للنص، متجاهلاً ابعاده الاجتماعية والحضارية الأوسع. 

لذا، يسعى الفهم الحضاري للقرآن  الى   استخلاص القيم والمبادئ الأساسية اللازمة لبناء حضارة عادلة ومزدهرة وانتشال المجتمعات، وخاصة المجتمعات الاسلامية، من براثن التخلف الذي تعاني منه. 

ونشير هنا الى ان التخلف هو خلل حاد في منظومة القيم الحافة بعناصر المركب الحضاري، وهو الامر الذي يعالجه الفهم الحضاري للقران.يتكون المركب الحضاري من خمسة عناصر أساسية هي: البشر، الأرض، الزمن، العلم، والعمل. هذه العناصر هي القواعد الأساسية لأي حضارة، وتفاعلها يشكل أساس التنمية الاجتماعية.

 يقدم القرآن الاسس اللازمة لتحقيق  تفاعل هذه العناصر بطريقة إنتاجية ومتناغمة لقيام حضارة متوازنة ومستدامة.

التفاعل الإنتاجي لهذه العناصر يشمل استخدام الأرض ومواردها بطريقة مستدامة، واستخدام الوقت بفعالية لتحقيق التنمية الشخصية والاجتماعية، واكتساب ونشر المعرفة لصالح الإنسانية، والمشاركة في العمل الأخلاقي والإنتاجي للمساهمة في تحسين المجتمع. يتوقف التفاعل بشكل اساسي على نمط نشاط الانسان وعمله بطريقة ايجابية وعلمية مدروسة.

تعد القيم القرآنية العليا إطارًا لتنسيق وتوازن هذه العناصر، لضمان أنها تعمل معًا بطريقة متماسكة ومكملة.الفهم الحضاري للقرآن يؤثر بشكل كبير على تفاعل مكونات المركب الحضاري بطريقة إنتاجية. 

من خلال التأكيد على القيم الشاملة مثل العدالة والرحمة والتسامح والمسؤولية الاجتماعية والتعايش السلمي والتعاون والعمل الصالح، يحقق القرآن تفاعلًا متناغمًا بين البشر، والأرض، والزمن، والمعرفة، والعمل. 

تعتبر هذه القيم المبادئ الإرشادية للأفراد والمجتمعات ضرورية لتنظيم شؤونهم بطريقة تعود بالنفع على جميع أفراد المجتمع.على سبيل المثال، يعزز القرآن مفهوم "الأمانة"، الذي يشمل المسؤولية الأخلاقية للعمل كأوصياء على الأرض ومواردها.

 "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا".  (الاحزاب 72)تشجع هذه القيمة على التنمية المستدامة والتوزيع العادل للموارد، مما يعزز التفاعل الإنتاجي بين البشر والأرض. بالمثل، يؤكد القرآن على أهمية اكتساب المعرفة واستخدامها لصالح الإنسانية، "وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا." (طه 114) مما يعزز التفاعل الإنتاجي بين المعرفة والعمل.في الختام، يوفر الفهم الحضاري للقرآن إطارًا شاملاً لتعزيز التفاعل الإنتاجي بين مكونات المركب الحضاري.

 من خلال التأكيد على القيم والمبادئ الشاملة، يوجه القرآن الأفراد والمجتمعات نحو بناء حضارة عادلة ورحيمة ومستدامة. من الضروري بالنسبة للمسلمين المعاصرين أن يسعوا نحو فهم رسالة القرآن الحضارية وتطبيق مبادئه لمواجهة التحديات المعقدة التي تواجه البشرية اليوم. وهذا لا يتعارض مع الاستفادة الواعية من اخر منجزات البشرية العلمية والتكنولوجية والقانونية.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن