27 May
27May

محاضرة  الدكتور فارس حرّام

أسّ المشكلات

اليوم نتحدث عن موضوع تطرّق إليه الزميل العزيز مدير الندوة حيث ذكر أنه أحد أهم المشكلات التي تعترض مسيرة النظام السياسي الآن، أود أنْ اُعلّي من وتيرة هذه العبارة فأقول: بل هي أُسّ المشكلات، ولاسيما الطريقة التي تركّب بها واُنشئ بها النظام السياسي الجديد بعد عام 2003.  فهو نظام اُنشئ  وتركّب على مبدأ تفتيت السيادة، وذلك عبر الأنتقالة المنطقية والعملية من تفتيت السلطة، اذ يعني بعد عام 2003 كان الهم الأول لإزاحة حقبة الدكتاتورية في ذهن الطبقة السياسية الجديدة هي أنها تُفتت السلطة و تحوّل العراق إلى دولة لامركزيه ولكن التطبيق العملي لهذا أصبح فيه انتقالة من السلطة إلى تفتت السيادة نفسها، وأصبح العراق عراقات، من ذلك مثلاً: أنَّ القوى التي مسكت بالسلطة من عام 2003 إلى الآن أخفقت في أنْ تعرف ما هو العراق بالنسبة لها جميعاً، فنحن عندما نشاهد جلسة من جلسات مجلس الوزراء، أو جلسة من جلسات مجلس النواب أو لقاءً تباحثياً بين عدد من القادة السياسيين فأننا نشهد مجموعة عراقات تتكلم وليس عراقاً واحداً، لماذا؟ لأنَّ الأنطلاق هو من نقطة تُعرّف العراق بالنسبة لهذه الكتلة  لأنهم ينطلقون من تعريف للعراق خاص بكل واحد منهم.

فالعراق عند السياسيين السُنَّة يختلف في كثير من التفاصيل عن العراق من وجهة نظر السياسيين الشيعة، والعراق من وجهة نظر السياسيين الكرد أيضاً عراقٌ آخر، فنحن أمام عراقات، وهنالك أيضاً داخل المكون الواحد رؤى مختلفة، وهذا من الناحية التاريخية أمرٌ طبيعي عندما يأتي نظام جديد على خلفية نظام مستبد، أشبه  بانك تفتح القفص عن نمور مسجونة طوال سنوات فتنطلق باتًجاهات مختلفة، ولكننا يجب أنْ نقول: أنَّ الطبقة السياسية الحاكمة أخفقت في ان تتجاوز هذه اللحظة التاريخية حتى الآن، نعم، من الممكن أنْ يكون سقوط نظام صدام حسين واحتلال العراق لحظة مربكة ومنعطف تاريخي، وهنالك تقديم للأولويات عند بعض المكونات، ولكن هذا غير مقبول بعد مرور حوالي ثمانية عشر عاماً منذ تلك اللحظة بل أنَّ الطبقة السياسية سعت  إلى تركيز وتعميق تفتيت السيادة بينها من باب تفتيت السلطة، وهذا الخلط والالتباس هو الذي أدّى إلى هذا النوع من الإرباك في مفهوم السيادة.

سيادات وليس سيادة

 اذن، نحن بعد عام 2003 أصبحنا أمام سيادات عليا وليس أمام سيادة واحدة اذا اتبعنا بعض التعريفات، نظراً لأننا أمام عراقات، والمشكلة الأساسية التي تعيق حركة إنقاذ الاقتصاد، وإنقاذ العملية السياسية، تنمية المجتمع، والتنمية الثقافية للمجتمع، وإصلاح القيم كل هذه تعتمد على إصلاح موضوع السيادة، فموضوع إصلاح السيادة ليس موضوعاً سياسياً فحسب وإنّما هو موضوع يتفرع ويصل إلى مطابخ البيوت لأنه يتعلق حتى في معيشه المواطن البسيط.

العراق الطفل

أعتقد أنَّ المفهوم الأساسي الذي هيمن على ذهنية الطبقة السياسية هو مفهوم  "العراق الطفل" هم تسيطر عليهم رؤية أنَّ العراق بعد عام 2003 عبارة عن طفل يحتاج إلى رعاية، والرعاية يجب أنْ تكون دولية وهنا انتقل إلى الجانب الخارجي المؤثر في قضية السيادة وهذه المشكلة كان من الممكن أنْ تكون أخفُّ وطأةً اذا كان مفهوم (العراق الطفل) يُمكن أنْ تُسوّقه الدول الكبرى والأمم المتحدة والمنظمات الدولية على الطبقة السياسية لكي يعلوا من مستوى أدائهم السياسي وينتقلوا من مرحلة المنعطف التاريخي عام 2003.  هذا من الممكن تفهّمهُ، لكن ما لا يمكن تفهّمهُ هو أنَّ هذه الرؤية تيسطر على الطبقة السياسية نفسها من الداخل فهم حتى هذه اللحظة يشكّون في قدرتهم على إدارة البلد من دون الإتكاء على دولةٍ أخرى، ومفهوم العراق الطفل لايزال مفهوماً مسيطراً ومهيمناً في كل أنماط التفكير عند الطبقة السياسية، وينبغي معالجة هذا الأمر فهو يتعلق بمركبات نفسية ومركبات اجتماعية، فضلاً عن كونه مبنيّ أساساً على عقدة نقص حضارية أزاء الدول التي تمكّنت من النهوض.

الغسيل الثقافي

هنالك بُعد ثالث من مسألة تفتيت السيادة وهو قضية البعد الشعبي.  هنالك سعيٌّ شعبيٌّ لتفتيت السيادة، وذلك لأنَّ كثيراً من المكونات العراقية وقعت تحت طائلة ما أسميه بـ(الغسيل الثقافي) وهو غسيل الأفكار عن العالم وأفكار عن الوطن ومفهوم الإنسان، ومفهوم البلد والدولة كلها قامت الطبقة السياسية عبر هذه المكونات بتمرير مفاهيم عن العراق لهذا البعد الشعبي  وتغذيتها ومن ثم اصبحت تتحصن بها.

فمثلما قلنا أنَّ هنالك عراق خاص عند السياسيين السُنَّة، أيضاً أصبح هنالك عراق خاص عند كثيرٌ من السكان السُنَّة في العراق، وأيضاً هذا الأمر ينطبق على السكان الشيعة والسكان الكرد و باقي المكونات.

فهنالك نوع من التعالق والتناغم بين بعض من الطبقة السياسية وبعض من الأوساط الشعبية أعطت بُعداً شعبياً لتفتيت السيادة، وهذا هو أخطر ما في الموضوع.

أزمة العراق سيادياً

أنا أطلعت على إجابات رؤساء الوزراء في الكتاب القيم الذي صدر عن (أزمة العراق سيادياً)، كلها تُشير إلى نقطة واحدة وهي عدم تمكن أو اخفاق رؤساء الوزراء في الكتاب في تحمّل مسؤولية الفشل، وكل واحد منهم في مداخلته قال أنا فعلت و فعلت و فعلت، و حاولت، ولكن لا يوجد تحليل حقيقي أو إعطاء فكرة عمّن الذي فتت السيادة،  رئيس الوزراء أعلى سلطة تنفيذية  في العراق ثم هو صاحب أكبر نافذة للاطلاع على الخروق التي تتعرض لها  السيادة والسلطة العليا، وهذه نقطة أود أنْ اُشير لها فيما يتعلق بالكتاب.

ما الحل؟ 

هنالك باعتقادي نمطان من الحلول: النمط الأول: العاجل الفوري المرحلي وهو يتعلق بظهور تيار سياسي جديد، وطني يعتمد رؤية جديدة للعراق ويؤسس لعقد سياسي جديد.  وأعتقد أنَّ بوادر هذا التيار موجودة منذ تظاهرات عام 2011 حتى الآن، ولكن لم يتبلور بشكل ناضج حتى هذه اللحظة وأعتقد اذا تبلور هذا التيار وظهرت له قيادات حقيقية على الأرض نستطيع أنْ نرى أنموذجاً جديداً من الرؤية السياسية التي تقدم حلّ إلى مشكلة السيادة. النمط الثاني: هو النمط الاستراتيجي بعيد المدى وهو الذي أنادي به منذ زمن وهو ما أسميه بالحل الثقافي لما يحدث في العراق.

الحل الثقافي

لقد جربت الحكومات بعد عام 2003 حلولاً مختلفة للأزمات التي يعيشها البلد، جرّبت الحل الأمني فى مواجهة الإرهاب، جرّبت الحل الاقتصادي، جرّبت الحل السياسي – وطبعا مع الملاحظات الكثيرة على هذه التجريب هل كان جاداً؟ هل كان حقيقياً؟ هذا موضوع آخر، ولكن تصنيف الحلول التي ظهرت من 2003 إلى الآن تصنف بهذا الشكل بعضها سياسي، واقتصادي، وأمني ولكن لم تُجرّب هذه الحكومات المتتابعة، ولا مجالس النواب المتتابعة أنْ تذهب باتًجاه الحلول العميقة وهي الحل الثقافي. الحل الذي يتجه نحو تغيير القيم أو تسلسل القيم في مجتمعنا وهذا يحتاج إلى إصلاح قطاع التربية، وقطاع التعليم، وقطاع الثقافة.

هذا القطاع بإصلاحه يعني بأننا بحاجة إلى برامج استراتيجية بعيدة المدى تدخل في فهم الفرد العراقي، وتدخل في رؤيته للبلد وهذا التدخل يبدأ بتربية الاطفال، إصلاح النظام التعليمي، وإصلاح النظام التربوي، وإصلاح قطاع الثقافة هذه القطاعات اذا تم إصلاحها مع بيئة تشريعية تعزز هذه المشاريع الاستراتيجية وأيضاً صرف بالاموال عليها نستطيع آنذاك أنْ نخطو خطوة عظيمة باتًجاه توحيد رؤية العراقات المختلفة وتجاوز فكرة العراق الطفل وصولاً إلى بلوغ مفهوم مقبول ومشترك بين المكونات المختلفة للسيادة.

______________

* اقيمت هذه الندوة في حفل و توقيع الكتاب  /  معرض بغداد الدولي للكتاب قاعة القدس - بغداد  11 حزيران 2021

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن