محمد عبد الجبار الشبوط
في البداية نشأت دول -مدن كثيرة. لكن "الاتجاه التاريخي" كان يقضي بتوحدها بدولة واحدة، فنشأت الامبراطوريات تعبيرا عن هذا "الاتجاه التاريخي".
يقول طه باقر في كتابه "مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة" (ط١ سنة ١٩٥١):
"ويمكن القول ان فتوح لوگال زاگيزي ومن بعده سرجون الاكدي كانت تمثل اتجاها تاريخيا كان قد ظهر اثره في عصر فجر السلالات وتغلب على يد هذين الفاتحين على اتجاه اخر معاكس لهما. ونعني بالاتجاه الاول فرض نظام دولة القطر او المملكة الواحدة على الاتجاه الثاني المتمثل بنظام دولة المدينة وهو النظام الذي ستد في عصر فجر السلالات الذي اطلقنا عليه بناء على ذلك عصر دول المدن، وان ما انجزه لوگال زاگيري في تحقيق الاتجاه الاول كان من العوامل الرئيسة التي مهدت الطريق امام سرجون الاكدي في اقامة دولة القطر الموحدة" (ص ٣٥٩-٣٦٠ من ط ٢٠١٢)
حكم لوگال زاكيزي Lugalzagesi في الفترة من ٢٣٧٥ الى الفترة ٢٣٥٠ ق م، وحكم سرجون الاكدي Sargon في الفترة من عام ٢٣٣٤ حتى ٢٢٧٩ ق.م. (الموسوعة البريطانية). وهذا يعطينا اكثر من خمسة الاف سنة من استقراء التطور التاريخي لظاهرة الدولة منذ ظهورها باشكالها الاولى في بلاد ما بين الرافدين الى اليوم. وهي ظاهرة متصلة ومتنقلة بين القارات وصولا الى الدولة الحضارية الحديثة في عصرنا الراهن.
وتبدأ هذه الرحلة التاريخية الطويلة منذ تأسيس المجتمعات البدائية بعد اكتشاف الزراعة، ثم ظهور السلطة الديمقراطية في هذه المجتمعات، ثم ظهور دول المدن وهكذا.
ونضيف هنا ان الديمقراطية اختراع عراقي قديم يضاف الى قائمة المخترعات الاولى المنسوبة عن حق الى الحضارة السومرية أولى الحضارات البشرية بعد الطوفان الذي حصل في العراق في عهد النبي نوح عليه السلام. ولعل الباحث الاميركي ثوركيلد جاكوبسون، وفي حدود اطلاعي المتواضع، هو اول من اشار الى الجذور العراقية للديمقراطية، ما ينفي نسبتها الشائعة في الكتب المدرسية الى اثينا. وهذا ما يستحق ان نفخر به كون بلدنا مهد الحضارة الانسانية في مختلف جوانبها. فقد نشر جاكوبسون بحثا قيما في العدد ٣ المجلد ١١ من مجلة دراسات الشرق الادنى الصادر في ١٩٤٣، اي قبل حوالي ٨٠ سنة، حول ما سماه "الديمقراطية البدائية في وادي الرافدين". ولنا ان نتحفظ كثيرا على المصطلح، فقد كان الاجدر فيه ان يكون بدايات الديمقراطية في العراق. والفرق كبير بين مصطلحي "الديمقراطية البدائية" و "بدايات الديمقراطية" حيث لا نعرف بداية للديمقراطية في العالم غير ما نعرفه عنها في العراق. يقول جاكوبسون: توجد مؤشرات توضح ان العراق القديم في عصر ما قبل التاريخ كان منظما من الناحية السياسية وفقا للقواعد الديمقراطية، على عكس ما ال اليه الحال في المراحل التالية حيث كان الحكم فيها اوتوقراطيا. وذكر ان الادلة الموجودة توضح ان الشؤون العامة كانت تدار من قبل مجلس الكبار لكن السيادة العليا كانت تتمثل في مجلس عام مؤلف من الذكور البالغين الاحرار. يقوم هذا المجلس بحل النزاعات التي تحصل في المجتمع، ويتخذ القرارات في الامور المهمة مثل الحرب والسلام، وكان بمقدوره اذا تطلب الامر ان يفوض احد اعضائه السلطة العليا.
وتمثل هذه الفترة الزمنية التي نتحدث عنها جزءاً مهماً في فهم تطور الدولة خلال العصور وصولا الى الدولة الحضارية الحديثة، مرورا بدول المدن، ثم الدول القطرية (مثل العراق ومصر الفرعونية)، وغير ذلك.
السيد الصدر استخدم مصطلح "الاتجاه التاريخي" لتسمية النوع الثالث من السنن التاريخية. بعد مصطلحي السنن الحتمية والسنن الشرطية. وذكر نوعين لسنن الاتجاه التاريخي هما: الدين بمعناه الثاني، والزوجية. وهذا احد مفردات تفسير حركة التاريخ.
وانا اضيف نوعا ثالثا وهو: الدولة الحضارية الحديثة. فهذا اتجاه تاريخي عام.
فمن خلال تطور الدولة خلال الخمسة الاف سنة الماضية يتضح ان صيغة الدولة تتطور باتجاه نموذج الدولة الحضارية الحديثة.
واليوم بلغ هذا النموذج درجة عالية من التطور في مجتمعات كثيرة.
من معالم الدولة الحضارية الحديثة: المواطنة، الديمقراطية، سيادة القانون، المؤسسات، العلم الحديث، الخدمات بما فيها الخدمات الصحية والتربوية، تبسيط الاجراءات، الخ.
دعوتي الى اقامة الدولة الحضارية الحديثة في العراق هي في حقيقة الامر دعوة الى الالتحاق في قطار هذا الاتجاه التاريخي العام وعدم التخلف عنه.
وهي دعوة من الممكنات وليست من المستحيلات بكل المعاني المعروفة للكلمة ( عقليا ومنطقيا وعلميا وواقعيا)