كتب : محمد عبد الجبار الشبوط
يتحمل القضاء السويدي مسؤولية مباشرة عن حادثة احراق القران الكريم من قبل لاجيء عراقي مسيحي يدعي الالحاد، لانه اجاز القيام بذلك. لكن وبسبب الفصل بين السلطات بوصفه من اسس النظام الديمقراطي، فان مسؤولية الحكومة السويدية عن هذا الحدث قد تكون موضع شك. ومن هذه الزاوية يمكن النظر الى بيان الحكومة السويدية التي اكدت "رفضها الشديد للأعمال المعادية للإسلام". لكن المسألة اكبر من الحكومة السويدية وحدها، لانها تخص المجتمع الدولي كله المؤلف من مجموعات بشرية كبيرة او صغيرة تؤمن بمعتقدات شتى ومقدسات مختلفة، وهذا ما يتعين على البشرية الان حسم موقفها منه، لجهة الاقرار بالاحترام المتبادل لهذه المقدسات والمعتقدات كشرط من شروط التعايش السلمي بين هذه المجموعات.
وهذا ما اكده الامام السيستاني الذي اكد في بيانه يوم (٢٩ /٦ /٢٠٢٣) "ان المرجعية الدينية العليا .. تبدي إدانتها واستنكارها" للحادث، حيث عمل على استثمار ذلك للارتفاع بالتفكير السياسي الى افق دولي اممي، وذلك ما تجلّى واضحا في رسالته الى انطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم، وليس الحكومة السويدية اولا، ومطالبته "الأمم المتحدة باتخاذ خطوات فاعلة بمنع تكرار" مثل هذا الحادث ثانيا، ودعوته الى "تثبيت قيم التعايش السلمي بين أتباع مختلف الأديان والمناهج الفكرية مبنياً على رعاية الحقوق والاحترام المتبادل بين الجميع" ثالثا.
وواضح من بيان المرجعية الدينية انها تقبل التعامل مع ثلاث نقاط مهمة وهي: المجتمع الدولي، التعايش السلمي، التشريعات الدولية. وهذه بمجموعها اسس النظام الدولي الحديث.
اولا، يشير مصطلح "المجتمع الدولي" إلى العلاقات والتفاعلات بين الدول والمنظمات والكيانات الدولية المختلفة. يشمل المجتمع الدولي جميع الدول المعترف بها دوليًا، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، والمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والمنظمات غير الحكومية والشركات الدولية والمؤسسات الأكاديمية وغيرها.
يتمحور المجتمع الدولي حول قوانين ومبادئ القانون الدولي التي تحكم العلاقات بين الدول وتنظم سلوكها. الأمور التي يشترك فيها المجتمع الدولي تشمل السياسة والأمن والاقتصاد وحقوق الإنسان والتنمية والأزمات الإنسانية والبيئة ومكافحة الإرهاب وغيرها. يتم التفاعل واتخاذ القرارات في المجتمع الدولي من خلال الدبلوماسية والمفاوضات والمنتديات الدولية والمؤتمرات والاتفاقيات.
الهدف الرئيسي للمجتمع الدولي هو تعزيز السلام والأمن والاستقرار في العالم، وتعاون الدول في مواجهة التحديات والمشاكل العالمية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة.
ثانيا، اما مفهوم "التعايش السلمي في المجتمع الدولي" فهو يشير إلى رؤية أن الدول يجب أن تعيش وتتعايش معًا بسلمية وبتفاهم مشترك، وأنه يجب عليها حل الخلافات والنزاعات عن طريق الحوار والتفاوض بدلاً من العنف والحرب.
في هذا المفهوم، تعتبر السلمية والتفاهم العنصرين الأساسيين في بناء علاقات طويلة الأمد بين الدول، وترتكز العلاقات بشكل عام على مبادئ العدالة والمساواة واحترام السيادة الوطنية وحقوق الإنسان. يعتبر التعايش السلمي في المجتمع الدولي أحد أهداف النظام الدولي الذي يسعى للحفاظ على السلام والأمان العالمي وتعزيز التعاون الدولي في مختلف المجالات.
تشكل المؤسسات والمنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة، إطاراً لتعزيز التعايش السلمي في المجتمع الدولي من خلال تسهيل الحوار والتفاوض بين الدول، ووضع القوانين الدولية وتنفيذها، وحماية حقوق الإنسان ومعالجة القضايا العالمية المشتركة مثل التغير المناخي والإرهاب والفقر وغيرها.
ومن المفترض أن يكون التعايش السلمي في المجتمع الدولي طريقة لتحقيق المصالح المشتركة والازدهار المشترك، وتعزيز التنمية المستدامة والعدل الاجتماعي وتحقيق السلام العالمي.
احترام مقدسات الآخرين للتعايش السلمي في المجتمع الدولي هي جزء أساسي من مشروع تحقيق التعايش السلمي والتفاهم بين الدول. تحترم الدول الأخرى ومقدساتها تعبيرًا عن احترام الثقافات والتقاليد والقيم المختلفة.
الاحترام المتبادل لمقدسات الآخرين يعني أنه يجب أن تتجنب الدول الإساءة أو التجاوز على ما يعتبر مقدساً في ديانة أو ثقافة أخرى. يجب أن يكون هناك التزام تام بحق التعبير عن الأفكار والمعتقدات الشخصية، ولكن يتعين أن يتم ذلك بطريقة مسؤولة ومتسامحة ودون إثارة العنف أو التعدي على حقوق الآخرين.
يعمل الحوار والتفاهم المتبادل على إزالة الفهم الخاطئ والتحيزات والانحيازات التي قد تثير الاحتقان وتفتح بابًا للنزاعات. قد تساهم الحملات التثقيفية والتوعوية في تعزيز الوعي والفهم المتبادل للمقدسات الدينية والثقافية بين الدول.
الاحترام المتبادل لمقدسات الآخرين ليس فقط ضروريًا للتعايش السلمي، ولكنه أيضًا أساسي لبناء علاقات طويلة الأمد ومستدامة بين الدول المختلفة في المجتمع الدولي.
الامام السيستاني كان سباقا الى استخدام مصطلح "التعايش السلمي" في بحوثه الدينية حيث نجد ذلك في بحث قاعدة الالزام (سنة ١٤٠٩ هجرية)، حيث طرح فكرة قانون الاحترام المتبادل ومفادها انه "اذا كان بناء المجتمع المتشكّل من الاديان والمذاهب المختلفة على التعايش السلمي فان ذلك يستدعي احترام كل من الاطراف قانون الطرف الاخر". "وذلك لان عدم الاحترام ينافي التعايش السلمي المشترك الذي هو اساس الذمة والهدنة والتعاون". ( كتاب "قاعدة الالزام"، تقرير السيد محمد علي الرباني، المطبوع سنة ١٤٣٦، ص ٧٢-٧٣). واليوم نلاحظ ان السيستاني يعمل على نقل المفهوم من الاطار الوطني او المحلي الى النطاق العالمي.
ثالثا، اما الشريعة الدولية فهي مجموعة من القواعد والمبادئ التي تنظم العلاقات بين الدول وتحكم سلوكها في المجتمع الدولي. وتعتبر الشريعة الدولية أحد فروع القانون الدولي، وهي مصدرها الرئيسي العادات والتقاليد الدولية المتعارف عليها والمتبعة على مر الزمان.
الشريعة الدولية تهدف إلى تنظيم العلاقات الدولية وتحقيق السلام والأمن الدولي، وتحدد الحقوق والواجبات لدى الدول، وتحدد المبادئ التي يجب أن تتبعها الدول في التعامل مع بعضها البعض. وتشمل القوانين الدولية مجموعة واسعة من المواضيع مثل حقوق الإنسان، والحقوق الإنسانية في النزاعات المسلحة، والنزاعات الحدودية، والتعاون الاقتصادي والتجاري، والقانون البحري، والبيئة وحقوق البيئة، وحقوق اللاجئين، وغيرها من المواضيع ذات الصلة.
على الرغم من وجود الشريعة الدولية، إلا أنها ليس لديها هيكل مركزي أو قضاء دولي موحد لفرض هذه القوانين. ولكن، هناك منظمات دولية مثل الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية ومحاكم ومحاكم التحكيم الدولية التي تعمل على تطبيق وتفسير القوانين الدولية وحل النزاعات بين الدول.
في النهاية، الشريعة الدولية هي أداة رئيسية لتعزيز التعايش السلمي بين الدول وضمان العدل والمساواة في المجتمع الدولي.
والواضح من كلام المرجعية الدينية انها تضغط باتجاه ان يكون احترام مقدسات الاخرين من ضمن الشريعة الدولية من خلال "تثبيت قيم التعايش السلمي بين أتباع مختلف الأديان والمناهج الفكرية مبنياً على رعاية الحقوق والاحترام المتبادل بين الجميع"، وهذا لا يتم الا من خلال اصدار المواثيق الدولية التي تؤكد ذلك. وهذا امر تقوم به الامم المتحدة تحديدا. وبهذا تنتقل المرجعية الدينية من مجرد سلطة دينية عليا على الصعيد الشيعي الخاص او الاسلامي العام الى فاعل دولي ذي رأي فيما يتعلق بالشريعة العالمية.
يضع هذا المطلب الدول والشعوب الاسلامية على الطريق الصحيح المؤدي الى فرض احترام المقدسات الاسلامية على المجتمع الدولي. ويمكن ان يحصل هذا على مستوى المنظمات الاقليمية (كالاتحاد الاوروبي الذي رفض "بشدة حرق المصحف الشريف" واعتبره عملا "استفزازيا غير مقبول، ومهينا" وغيره من المنظمات المشابهة مثل منظمة الوحدة الافريقية)، كما يمكن ان يحصل على مستوى المنظمات الدولية الام كالامم المتحدة. قد تؤدي التظاهرات الاحتجاجية او استدعاء السفراء .. الخ الى ايصال رسالة الشعوب الاسلامية المستنكرة لانتهاك مقدساتها، لكن العمل الدؤوب من اجل دفع الامم المتحدة الى اصدار وثائق دولية تدين حرق القران الكريم وغيره من الكتب المقدسة، مثل لائحة حقوق الانسان، يغلق الباب امام الدول وهيئاتها القضائية بالسماح لاعمال مستنكرة مثل حرق القران الكريم.
مرة اخرى يثبت الامام السيستاني انه يملك رؤية ثاقبة للمسائل المطروحة الاحرى بالشعوب الاسلامية اتباعها والعمل بموجبها.