تفكيك وتحليل خطاب الرئيس الأميريكي "جو بايدن" على ضوء علم النفس السياسي
الدكتور عباس مزهر- باحث ومؤلّف في السيكولوجيا السياسيّة
بدا واضحًا أنّ الرئيس الأميريكي كان يتلو بيانًا إسرائيليًّا حول عمليّة طوفان الأقصى، لا خطابًا سياسيًّا أميريكيًّا. فكاتب هذا البيان – أسلوبًا ومضمونًا - يهودي صهيوني متطرّف من متحكّمي قيادة الظلّ في الإدارة الأميريكية، وكان الرئيس الأميريكي يلعب دور الأداء والإلقاء، فجاء مشهدهُ الخطابي رديئًا على مستوى التمثيل والإخراج حتى فقَدَ عنصر الإقناع والتأثير. وفي إطار رصدنا وتحليلنا لخطاب "بايدن"، نستكشف استخدام التقنيّات النفسيّة التالية:
1- الانتصاف: إنه منهج نفسي وذهني حتمي بالضرورة، في إطار الصراع العلائقي بين اليهود والفلسطينيين، لجعل الجلّاد ضحيّة، وتحويل المجني إلى جانٍ. هذا الاتجاه الانتصافي الذي ظهر في كلام "بايدن" يحوّل الفلسطيني صاحب الأرض إلى معتدٍ وإرهابيّ، ويُظهر اليهودي المستوطن على أنّه مسالم، ويجعل اليهودي المحتلّ يحسّ أنه ضحية غبن مفروض عليه بدون ذنب ارتكبه، وبالتالي يشعر أنّه بريء في حالة من إسقاط كل المسؤولية الذاتية والعدوانية الخالصة على الشعب الفلسطيني مما يجعله ضحية الثأر الوجودي لليهود. تلك الأوالية جعلت عدوان الصهاينة يبدو كفعل مبرّر بالنسبة إليهم، كدفاع مشروع عن النفس. فالانتصاف سيؤمّن للصهاينة وظيفة أساسية هي تبرئة الذات من مسؤوليتها ومن عدوانيتها من خلال شرعنة الفعل العدواني الذي يتخذ طابع استرداد الحق وتحرير الأسرى من المقاومة الفلسطينية. وقد تجلّت هذه الآلية في المقطع الثاني من كلام "بايدن"، من (لقد تمّ ذبح أكثر من ألف مدني) وحتى نهاية المقطع (المأساة الإنسانية وهي فظاعة على نطاق مروّع). وبذلك يكون الرئيس الأميريكي قد خصّص ثلث خطابه في استخدام أواليّة الانتصاف.
2- المثلنة: أراد "بايدن" من خلالها رفع مستوى الصهاينة إلى مرتبة مُثلى باعتبارهم الخير النقي في مواجهة الشرّ النقي الفلسطيني، وذلك لإظهار الإسرائيلي أمام العالم على أنّه ممثّل السلام والأمن والمحبة، من خلال وصفه للمستوطنين المحتفلين بالسلام ومحبّي الحياة والأسرة والعائلة. وقد ظهرت في عبارات: (الاحتفال بالسلام، إسرائيل الضامن النهائي لأمن الشعب اليهودي في العالم، دولة إسرائيل الديموقراطية، الدفاع عن نفسها، رعاية مواطنيها، إسرائيل تتصرّف وفقًا لسيادة القانون...).
3- التبخيس: في مقابل مثلنة الصهاينة حمل خطاب "بايدن" آلية التبخيس بحق المقاومين الفلسطينيين، باعتبارهم وحوش شرِهة للدماء، وكائنات تنشر الفوضى والخراب. فالتبخيس هنا هو الحطّ من قيمة المقاومة وتسفيهها ورفض حقها في الحياة، وبالتالي احتقارها وإلغاؤها مما يجعل العدوان والقتل الواقعين عليها مبررًا ومشروعًا. هذا هو بالضبط ما تفعله قوى التسلّط والاستعمار التي تستغلّ الشعوب المستضعفة تحت شعارات وادعاءات تبخيسية (كالعالم الثالث، والدول المتخلّفة، لا تستطيع أن تحكم نفسها بنفسها، شعوب ضعيفة جاهلة...) مما يبيح لقوى الاستكبار إستغلال ثرواتها الوطنية ومصادرة قراراتها والتحكم بمصائرها. وهنا استخدم "بايدن" أوصاف تشويهية لشيطنة المقاومة الفلسطينية من خلال آلية التبخيس: (الشرّ النقي المحض، قتل، ذبح، اغتصاب، قطع رؤوس، وحشيّة حماس، سفك الدماء، استخدام المدنيين كدروع بشرية،...).
4- الأنسنة: وهي منح صفات إنسانية لمظاهر غير إنسانية، حيث ظهر في الخطاب الأميريكي مسارًا يُضفي بُعدًا إنسانيًّا على الوضعيّة الصهيونيّة، ويجعل العدوان الإسرائيلي ذا هدف إنساني يتمثّل بالقضاء على (الشرّ النقيّ المحض) الصادر عن المقاومة الفلسطينية. وقد تجلّت هذه الآلية في توصيف الصهاينة بما يلي: (الآمنين، المدنيين، الآباء، الأمهات، النساء، حماية أطفالهم، تهدئة الأطفال، المأساة الإنسانية،...).
5- التشييء: في مقابل أنسنة الوضعيّة الإسرائيلية ظهرت في خطاب "بايدن" تقنيّة التشييء، وهي نزع الصفة الإنسانية عن القضية الفلسطينية، وإظهارها كشيء لا روح له ولا معنى، شيء شرّير، ظاهرة شيئيّة دمويّة، حالة من الشرّ المحض، وهذا التشييء يُبيح التخلّص من الكائن المشيَّأ وقتله بشكلٍ واجب. فالتشييء عمليّة ترميز الروح الإنسانية بمادة وضيعة، أو مرتبة الشيء، أو الأداة، فتغدوا معها المقاومة أداة قتل، كما في كلامه: (الشر النقي المحض، الفظائع المقزّزة، حماس لا تدافع عن حقّ الشعب الفلسطيني، حماس لا تقدّم شيئًا سوى الإرهاب، الأيدي الدموية لمنظمة حماس الإرهابية، الشرّ العشوائي...).
6- الإختزال: وهو تنزيل القضيّة من وحدة كبرى وعُليا إلى تفصيل صغير وضيق وجزئي. أي هو اختصار الكليّة إلى جزئيّة منها، أو إلى أحد أبعادها. وقد قام "بايدن" فعليًّا باختزال القضيّة الفلسطينية من مستوى كونها قضية إسلامية عربية كبرى إلى مستوى قضيّة فصيل فلسطيني متمثّل ب"حركة حماس". وهذا ما يُفقد فلسطين إطارها الجامع والداعم، ويحصرها في سلوك فصيل إرهابي (بتعبيره) يوافق العالم على محاربته. وقد تجلّت آلية الاختزال في تركيزه على حركة حماس ليختزل بها محور المقاومة والأمّة الإسلامية، وبالتالي يختزل القضية الفلسطينية الكبرى والجامعة إلى مستوى قطاع صغير يعتبره بؤرة للإرهاب.
7- النكوص: برز في خطاب "بايدن" اتجاه تاريخي سحيق، حيث استخدم عبارات: (ذكرى، ذكريات مؤلمة، التاريخ، آلاف السنين، الندوب، ماضي الإبادة الجماعية للشعب اليهودي، ناجين من المحرقة...) وذلك ليعود بالذاكرة الجماعية لليهود والغرب إلى ما قبل الميلاد من تاريخ الاضطهاد الذي تعرّض له اليهود، ليُثير في النفوس اليهودية رغبة الثأر التاريخي، وبالتالي لينال تعاطف الغرب.
8- المسرنة: وهي آلية ربط حدث معاصر بأحداث تاريخية قديمة، عبر مسار زمني مترابط. وقد ربط "بايدن" طوفان غزّة بالذكريات المؤلمة لليهود من آلاف السنين، وبمعاداة السامية في العصور الوسطى، وصولاً إلى الهولوكوست في الحرب العالمية الثانية. وهذا يهدف إلى تكريس نسق مساري يُثبت مظلومية اليهود وحقّهم في الدفاع عن أنفسهم أمام وضعيّة وجودية نُظمية قاهرة. واتضح ذلك في كلامه: (إنّ وحشيّة حماس –وهذا التعطّش للدماء- يُعيد إلى الأذهان أسوأ حالات هيجان داعش، وقد أعاد هذا الهجوم إلى السطح ذكريات مؤلمة خلّفتها آلاف السنين من معاداة السامية والإبادة الجماعية،...).
9- التشريط: تحدّث "بايدن" وكأنّ هجوم "حماس" حصل في الولايات المتحدة الأميريكية، وربطه بأحداث الحادي عشر من أيلول، وهذا يهدف إلى تحقيق ارتباط شرطي بين الحادثتين في العقل الجماعي الأميريكي والغربي، وكذلك في الذهنية الصهيونية والبعض-عربية. ثمّ عزّزها باستخدامه مصطلح الإرهاب في الإشارة إلى تدمير برجَي التجارة العالميّين وإلى طوفان غزّة بالوقت نفسه. هذا التشريط بدا واضحًا في مسار خطابه الذي حرَصَ على أن يُقيم رابطة علائقية شرطية بين أميريكا والكيان الإسرائيلي: (ذبح أكثر من ألف مدني في إسرائيل ومن بينهم 14 مواطنًا أميريكيًّا، نحن نعلم انّ مواطنين أميريكيين هم من بين أولئك الذين تحتجزهم حماس، التشاور مع النظراء الإسرائيليين، الديمقراطيات مثل إسرائيل والولايات المتحدة،...).
10- الشرعنة: وهي آلية تبرير لموقف معيّن من خلال عقلنة فعل لاعقلاني، وقد استخدمها "بايدن" في خطابه كتمهيد تبريري أمام المجتمع الدولي للعدوان الإسرائيلي على غزّة، ولشرعنة المجازر وعقلنة الانتقام الجنوني الذي تمارسه الحكومة الإسرائيلية. (إسرائيل الديمقراطية، القانون الدولي، قوانين الحرب، من حقّها أن تدافع عن نفسها، تحافظ على أمن مواطنيها، الكرامة والمصير،...).
11- التهويل: وهو من أساليب بث الرعب في النفوس، وقد استخدمه "بايدن" في معرِض خطابه عندما تحدّث صراحةً عن دعم أميريكا الكامل للكيان الصهيوني، وكذلك عندما ألمحَ إلى استخدام السلاح النووي، عندما روى خفايا لقائه مع "غولدا مائير" في السبعينات، التي طمأنته إلى أنّ إسرائيل بأمان لأنها تمتلك سلاحًا نوويًّا. (لا تقلق لدينا سلاح سرّي هنا في إسرائيل، ردّنا سيكون سريعًا وحاسمًا وساحقًا، حاملة الطائرات،...).
12- التنميط: هو الوصف الذي يُسقطه طرفٌ على الآخر، ليجعل له صورة نمطية مشوّهة. وقد استخدمها "بايدن" بتنميط المقاومة الفلسطينية (بالإرهاب والنازية، والوحوش المتعطّشة للدماء، والذبّاحين والهمجيين، منظمة إرهابية، الهجمات الإرهابية، الشرّ المحض، يستهدفون المدنيّين ويقتلونهم، الدموية،...).
13- كيّ الوعي: وهو تشكيل صدمة للوعي الجمعي أو وضعه تحت ضغط شديد، مما يجعله يرفض أي وضعية خسارة، وبالتالي يرضخ ويرضى بالواقع الراهن على حاله. وهنا أراد "بايدن" التلويح للفلسطينين والمقاومة بتدمير هائل وإلغاء المجال الحيوي، لكي يُسلّم أهل عزة ويرضون بالواقع الراهن. كما استخدم كيّ الوعي في توجيه كلامه إلى الصهاينة والأوروبيين والأميريكيين: (الإبادة الجماعية، المحرقة، الإرهاب...).
14- الاحتماء الدمجي: لقد فجّرت عملية طوفان الأقصى الذعر الوجودي لدى الصهاينة في حالة من القلق العارم على المصير. فالاحتماء الدمجي هنا هو أن تحتمي جماعة تحت وطأة القلق الوجودي بقوة كبيرة وبشكل اتحادي اندماجي، لذلك جاء الخطاب الأميريكي يحمل نوعًا من الطمأنة الوجودية للإسرائيليين: (سنواصل الوقوف متّحدين، داعمين شعب إسرائيل، شركائنا الإسرائيليين، الولايات المتحدة تدعم إسرائيل، تنسيق استجابتنا الموحّدة، نحن نقف إلى جانب إسرائيل، نحن نقف مع إسرائيل...).
15- الأدلجة: أي إضفاء الإيديولوجيا على موقف معيّن، أو الإسباغ العقائدي على قضيّة ما، وقد تميّز خطاب الرئيس الأميريكي بطابع الأدلجة، من خلال استحضار تاريخ الاضطهاد اليهودي واستخدام مصطلحات مثل: (اليهود، الدولة اليهودية، شعب إسرائيل، قتل الشعب اليهودي، إبادة دولة إسرائيل، حماس هدفها قتل اليهود، داعش، الإرهاب في إشارة إلى الإسلام والإسلاموفوبيا...).
16- الوجدنة: سيطرت على خطاب "بايدن" نزعة وجدانية مستغربة ومستهجنة في الخطابات السياسية الدولية، حيث قدّم سردًا روائيًّا عاطفيًّا "لضحايا طوفان غزّة"، فاستخدم عبارات أدبيّة بنفَس شعري ليصف أطفال المستوطنات وأمهاتهم وجدّاتهم، وذلك بهدف تحقيق "الإيحاء" المطلوب للعصف العاطفي الأممي، وهناك محطّات كثيرة من خطابه استخدم فيها الوجدنة: (استخدام الآباء أجسادهم لحماية أطفالهم، الأجداد على الكراسي المتحرّكة، الغضب، الحزن، الحداد، الألم، عائلات يهودية تنتظر مصير أحبّائها...).