16 Jun
16Jun

محاضرة : الاستاذ  إبراهيم العبادي

مشكلة العراق من منظورات السيادة

أود القول من حيث المبدأ حتى نتحدث عن مشكلة العراق من منظورات السيادة،   أقول نحتاج أنْ نمر سريعاً على مفهوم السيادة بشكل إجمالي، اذا أردنا أنْ نُعرف السيادة فأنها: بسط سلطة الدولة وقانونها وتشريعاتها وحقها في احتكار السلاح والعنف المشروع والتصرف بشؤون إقليمها، ورعاياها، وإقامة العلاقات مع الدول الأخرى على قدم المساواة.

هذا تعريف إجرائي لمفهوم السيادة وهو من أركان الدولة المهمة، حيث لا دولة حقيقية بدون سيادة، ولا دولة بدون استقلال، وقدرة سلطات هذه الدولة على ممارسة حقها في بسط قانونها وشرعيتها وبسط سيادتها على إقليمها وعلى شعبها وعلى حدودها في إطار هذا الإقليم .

ينبغي أنْ نذكر أنَّ هذه السيادة هي سلطة عليا ولا ينبغي مزاحمتها بأيّ شكل من الأشكال؛ لأنّـها تمثل الإرادة العامة، وهي (كائن جماعي) كما عبر عنها جان جاك روسو، وهي تعبر عن إرادة الجماعة وحاصل إرادة الجماعة باعتبار أنَّ الجماعة هي التي تنازلت عن حقها وعن سيادتها اذ تنازل الفرد عن حقه وسيادته للجماعة، والجماعة أيضاً تنازلت عندما حاولت أنْ تفرز هيأة عليا تمارس هذه السيادة باسم الجماعة وباسم الفرد، وعليه فأنَّ الفرد والجماعة ينبغي أنْ يُسلمان لهذه السلطة العليا كي تقوم هذه السلطة بأداء واجباتها في رعاية المصلحة العامة، وفي تحقيق المصلحة المشتركة للجماعة.

المصلحة والسلطة 

اذا فسرنا وعرفنا الدولة بوصفها تنظيماً اجتماعياً سياسياً يقوم بالسهر على مصلحة الجماعة ومصلحة الفرد من خلال الجماعة، فأنَّ هذه الدولة لا تستطيع أنْ تحقق مصلحة إلّا اذا كانت مُطاعة، سلطتها مطلقة، لا يمكن أن تتجزأ، لا يمكن أنْ تتنازل عنها بأيّ حال من الأحوال وهذه السلطة تكون نافذة غير متجزأة، سواء كان النظام السياسي للدولة مركزياً أم غير مركزي، إدارياً أم اتحادياً،وما إلى ذلك، وهذه لمحة تمهيدية عن قضية السيادة.

لا سيادة لمصالح متناقضة

كيف لهذه السيادة أنْ تتحقق فعلياً في أي منطقة أو إقليم أو أي دولة من الدول؟ هذه السيادة لا تقبل القسمة، ولا تقبل التجزئة، ولا تقبل التزاحم ونافذة على طول الخط، وعليه يجب أنْ تُدرك الجماعة التي أظهرت السلطة العليا التي تمارس السيادة باسمها أنَّ هذه السيادة لابدَّ أنْ تتحقق كاملة على الإقليم  وعلى الجماعة، وللجماعة مصلحة، فكيف للسيادة أنْ تحقق مصلحة الجماعة؟ لا يمكن للجماعة أنْ تفرز مصالح متناقضة وتطلب من الهيأة السياسية العليا الآمرة المطاعة التي تمثل سيادة هذه الجماعة أنْ تتصرف، لأنَّ عدم التوحد في الرؤية في تعريف المصلحة وفي تعريف السيادة يخلّ بسلطة الهيأة الحاكمة الآمرة المطاعة.

عراق ما بعد 2003

نحن في العراق عانينا من مشكلة حقيقية في أن يكون للجماعة الوطنية العراقية سيادة حقيقية على إقليمها، ولندع الماضي ونبدأ بالتغيير الذي حصل بعد عام 2003، فما الذي هدد سيادة الدولة الوطنية العراقية؟ هل التهديد كان تهديداً خارجياً أم كان داخلياً أم كليهما؟ اعتقد أنَّ السيادة العراقية تعرضت إلى التهديدين (الداخلي والخارجي)، والتهديد الخارجي مفهوم وواضح فهناك جيران للعراق وقوى كبرى متنفذة تستطيع أنْ تفرض إرادتها على الدولة العراقية، والدولة العراقية وبسبب هشاشة البنية والضعف الداخلي وعدم تكامل إمكاناتها، وبسبب الصراع الداخلي، وبسبب التنازع فيما بين أطراف الجماعة الوطنية العراقية تأثرت سيادتها بشكل من الأشكال بإرادات الآخرين، مما يعني أصبحت الإرادة السياسية العراقية الوطنية تعرضت إلى أثار الآخرين وتأثيراتهم ونفوذهم.

عدم وضوح الهوية الوطنية

أمّا التهديدات الداخلية أو التحديات الداخلية، فما الذي يهدد السيادة الوطنية العراقية داخلياً؟ أرى أنَّ هناك عوامل عدّة تهدد السيادة الداخلية العراقية وتهددها أيضاً خارجياً، أول هذه التحديات هي عدم وضوح مفهوم الأمة في العراق، فهل الجماعة السياسية العراقية التي تقطن على هذا الإقليم  تٌعرّف نفسها بأنّها أمة عراقية أم أنّها مكونات أو جماعات بينها تنافسات متنوعة وعــدّة، وتتعدد مصالحها وتتنافس هذه المصالح أو تتقاطع هذه المصالح، وغير قادرة في أحيان كثيرة على تعريف المصلحة الوطنية العراقية.

 اذن فالتحدي الأول هو عدم وضوح الهوية الوطنية العراقية، ويعني هل هوية العراقيين هي هوية العراقي النافذة على الجميع أم أنّها هوية مكونات (هوية الشيعي، هوية السني، هوية الكردي، هوية التركماني، وهوية الأقليات)؟ الهوية الفرعية أم الهوية الوطنية الجامعة؟ اذا لم ننتهِ من هذه الإشكالية فأنَّ السيادة الوطنية العراقية ستبقى مهددة، اذا قلنا إنَّ الشعب العراقي ليس بأمة لديها سيادة كاملة عن طريق الدولة على إقليمها، ومحددة المصالح وتستطيع أنْ تُجدد وتُعرف هذه المصالح باستمرار، اذا فعدم وضوح مفهوم الأمة وما كرسه الدستور عندما يتحدث عن مكونات خلق مشكلة دائمة في المجتمع السياسي العراقي، فأنَّ العراقي المنتمي إلى الفئة الفلانية أو الجهة الفلانية أو الطائفة الفلانية، يقدم مصلحة الفئة أو الطائفة أو القومية على مصالح الجميع أو أنه يُعرّف المصلحة العراقية من خلال مصلحته الخاصة، وهذه إشكالية خطيرة قد ثبتت لدينا في السنوات الـ17 بعد التغيير، ومثال ذلك لدينا مصلحة في أنْ تستعيد الدولة قوتها وأمنها على إقليمها، واستعادة القوة بحاجة إلى أنْ تبني الدولة مؤسسة عسكرية وتُسلّح هذه المؤسسة، وتتذكرون بأنَّـه كان هناك خلاف عراقي حول تسليح الجيش العراقي، وأنا اتذكر أنَّ الأخوة الكرد قد اعترضوا في ذلك الوقت على تسليح الجيش العراقي بطائرات حديثة قادرة أنْ تُجاري التحدي الإرهابي على الأقل أو تُجاري ما عند الجيران من قوة عسكرية، وكانت هذه القضية إشكالية كبيرة ترتب عليها تنافس وصراع داخلي وإختلاف داخلي، وتنابز سياسي داخلي،اذكر أيضاً أنَّـه بسبب هذا الإختلاف بالهوية الوطنية العراقية استقطبت الجماعة السياسية العراقية إلى الخارج،فأصبح هناك مرجعية فكرية ربما وسياسية وعمق استراتيجي إلى سُنّة العراق، ومثله إلى شيعة العراق، وأيضاً إلى كُرد العراق، وإلى تركمان العراق، واذا كانت كلّ جماعة عراقية تجد لها داعم خارجي وأنَّ هناك مؤثراً خارجياً في قراراتها وفي أولوياتها، لا نستطيع أنْ نتحدث عن مصلحة وطنية عراقية جامعة، ولذلك اختلفنا، وهذه القضية يمكن أنْ نلمسها بوضوح، فهل نستطيع أنْ نتحدث إلى الجارة تركيا أو مع الجارة إيران حول قضية المياه أو حول قضية أمن الحدود مثلاً،أم أنَّ هناك من يمنع التحدث بصراحة مع هذه الجيران لأنهم يؤثرون عليه ويطالبونه بالدفاع عن مصالحهم داخل الدولة العراقية؟ الأمر ينطبق على جيران العراق العرب وتتذكرون إختلافنا حول قضية بناء ميناء (مبارك) وتأثيراته على ميناء (الفاو) اختلف العراقيون ما بين الوزارات واختلفوا ما بين المكونات واختلفوا فيما بين القوى السياسية المختلفة، هذا يقدم هذه المصلحة وغيره يقدم المصلحة الفلانية، اذن هذا الاستقطاب السياسي تحدي كبير للسيادة العراقية، من المسؤول عن ذلك؟ لأنَّ العراقيين لم يُعرّفوا أنفسهم بأنَّهم جماعة بهوية وطنية جامعة هي أكبر من الهويات الفرعية، ولا ينبغي لهذه الهويات الفرعية أنْ تتقدم على الهوية الوطنية العراقية الجامعة.

مدرستان في العراق

عندما نتحدث أكثر عن هذا الموضوع سنجد أنَّ هناك مشكلة كبيرة وهي الولاءات في الدولة العراقية وأصبحت عدّة ، اذ لا يأتي الولاء للدولة العراقية أولاً لأنَّ هناك مدارس فكرية ومدارس أيديولوجية لا تُقدم المصلحة الوطنية على مصلحة الأمة الإسلامية أو على مصلحة الأمة العربية أو حتى على مصلحة الأممية الاشتراكية، وهذه قضية الولاءات أيضاً لم تُحسم حتى الآن وهي مثار جدل في الاجتماع السياسي العراقي، وهذه القضية تُعرّف نفسها بأنَّها نوع من الاستقطاب الفكري والإيديولوجي بمعنى أنَّ هناك مدرستين تتصارعان في العراق، مدرسة ترى أنَّ السيادة العراقية ينبغي أنْ تتحقق بتغليب رؤية فكرية وأيديولوجية على كلّ المجتمع العراقي، يقابلها مدرسة أخرى تقول لا ينبغي أنْ نُخضِع المصلحة الوطنية العراقية لإيديولوجيات أو أمميات لا نجد مصلحة العراق فيها، وهذا التناقض ما بين التعريفين وما بين المصلحتين تبلور واضحاً الآن في الصراع القائم في الموقف من الوجود العسكري الأجنبي في العراق، هناك قوى سياسية عراقية تعتقد أنَّ مصلحة العراق في خروج القوات الأجنبية وبالتحديد القوات الأمريكية من العراق وتقول لا مصلحة ولا حاجة للعراقيين بهذه القوات الأجنبية في العراق، وهذه القوى تُعبّر عن نفسها بأكثرية برلمانية، فيما أنَّ هناك قوى برلمانية وقوى سياسية ولديها خطابها الإعلامي وناطقيها الإعلاميين لا تلتقي مع القوى الداعية إلى انسحاب القوات الأجنبية.

اذن فالتهديدات التي تتعرض لها المصلحة الوطنية العراقية التي هي تعبير حقيقي للسيادة العراقية أو السيادة العراقية هي تعبير عن المصلحة الوطنية لا تجد تعبيرات حقيقية لها في الاجتماع السياسي العراقي لأنَّ الاجتماع السياسي العراقي لم يبلور ولاءً واحداً للوطن العراقي، ولم يعرف مصلحة عليا للوطن العراقي على مصالح الآخرين، ولم يبلور مصلحة جامعة للعراقيين على حساب مصالح أخرى هي مصالح فئات أو مكونات أو طوائف أو مذاهب،فهذه التهديدات والتحديات ستبقى الدولة العراقية تعاني منها ؛ لأنّنا لم نُنجز حلولاً للاشكاليات الكبرى التي واجهت تأسيس الدولة الوطنية العراقية منذ عام 1921 حتى الآن.

التحديات الكبرى

من نحن؟ وما هي هويتنا؟ ما هي مصلحتنا؟ كيف نُعرّف أنفسنا؟ كيف نحدد المصلحة الوطنية؟ ما هي عوامل تحديد هذه المصلحة الوطنية؟ اعتقد أنَّ امامنا شوطاً قد يطول في أنْ ننتهي من الاتفاق حول هذه التحديات الكبرى التي هي تحديات حقيقية للسيادة العراقية، وقد فوتت علينا مصالح كبرى في قضايا المياه، وقضايا الربط السككي، وفي قضايا مكافحة الإرهاب، وقضايا الاستقرار الأمني، والنمو الاقتصادي، هذه كلها أثرت علينا بسبب التنازع فيما بين أطراف الجماعة الوطنية العراقية في تعريف المصالح وتقديم هذه المصالح، وفي الربط ما بين مصلحة الفئة أو القومية أو المذهب مع المصلحة الوطنية، لدينا جدال سياسي وسيستمر هذا الجدال السياسي للأسف.

_________________

**  هذه الندوة  .. تحمل عنوان: (التنوع المجتمعي ) ..  وكانت الندوة الافتراضية الخامسة  . ضمن سلسلة ندوات مترابطة ومتكاملة ومتواصلة.. جرت و كل منها تعتمد على مخرجات الندوة التي سبقتها.. وتتكامل معها.. وصولاً إلى الإجابة على التساؤلات التي أثارها كتاب (أزمة العراق سيادياً ). الندوة ــ بسبب الأوضاع الصحية وجائحة كوروناـ تجري عبر الانترنت من خلال برنامج زووم، وقد بثّت الندوة  مباشرة على صفحات ملتقى بحر العلوم للحوار وصفحة معهد العلمين للدراسات العليا على الفيس البوك..بتاريخ  30 اذار 2021     

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن