محاضرة الدكتور علي طاهر الحمود
عمدة لندن الهندي
في البداية – وحتى نخرج من الجو الأكاديمي الجاف – هناك رئيس بلدية في لندن من أصل هندي (اسمه صدّيق خان) وكان هناك تنابز بينه وبين الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أسبوعياً اذا لم نقل يومياً، وعندما كانوا يتنابذون الكلمات القوية عبر وسائل الإعلام لم نرَ أحداً في الولايات المتحدة أو في بريطانيا يرى أنَّ هذا يمثل انتهاكاً للسيادة، وهذا أمر ملفت للانتباه، في الحقيقة أنا اعتقد – وهذا ما جرى في هذه الحادثة – أنَّ السيادة هي انعكاس لقوة التضامن الداخلي، والثقة ببناء الدولة ومستويات بناء الدولة، وبناء الأمة في كلّ من البلدين.
بناء الدولة والأمة
عندما يكون مشروع بناء الدولة من جهة، وبناء الأمة من جهة أخرى داخل بلدنا منقوص آنذاك نبحث عن تصريحات لمسؤول من الدرجة الثانية في إيران أو في مكان آخر يتحدث فيه عن العراق بطريقة معينة، هذا لأنَّ السيادة الحقيقية ليست متحققة،وهي قوة التضامن في المستويين.
ولنفصل أكثر، فعلى مستوى بناء الدولة، فالدولة متشكلة من مؤسسات، وينبغي أنْ تكون هذه المؤسسات معبرة عن رغبة الناس – التي نسميها بالأمة العراقية – وهذه المؤسسات ينبغي أنْ يُشارك بها الجميع وأنْ يشعر الأفراد بأنّها مفيدة، وقد أشار الاستاذ إبراهيم أشار أنَّ الولاء ليس للدولة أولاً من قبل البعض (أفراداً أو جماعات)، والسبب في ذلك أنَّ الدولة ليست مُفيدة في الحقيقة، ويعني كيف نُريد ولاء للدولة من قبل المواطنين ومن قبل أفراد الأمة العراقية اذا كانت هذه الدولة عاجزة عن تقديم الخدمات؟ عاجزة عن تقديم الأمن؟ عاجزة عن حماية أبنائها بوجه جماعات وبوجه دول؟ لذلك عندما نتحدث عن مفهوم الدولة، يجب أنْ تكون دولة مُفيدة، دولة كفوءة بمؤسساتها.
التضامن السياسي
أمّا عندما نتحدث عن المستوى الثاني، وهو مستوى الأمة وبناء الأمة، نتحدث عن تضامن أساسه ثلاثي، تضامن أساسه سياسي في الدرجة الأولى، وعندما نتحدث عن التضامن السياسي فأننا نتحدث بأنَّ هناك إرادة وهناك رغبة للبقاء موحدين ضمن إطار الأمة الواحدة، ويعني لا تستطيع أنْ تفرض على أفراد أو جماعات أنْ يكونوا ضمن إطار الأمة العراقية الواحدة اذا لم يكن لديهم رغبة أو لم يكن لديهم إرادة، وهذه الإرادة مثل ما يقول عنها المفكر الفرنسي (أرنيست رينان) استفتاء يومي للبقاء ضمن الأمة الواحدة والإنتماء للأمة الواحدة.
الأمة مفهوم سياسي
بمعنى آخر لا يمكن أنْ يكون لدينا أمّة عراقية من دون وجود رابطة سياسية بالدرجة الأولى، لأنَّ الأمة مفهوم سياسي وهي ليست مفهوماً عقائدياً كي يبحث البعض عن رابطة إسلامية مثلاً، وليست مفهوماً قومياً مثل الأمة العربية، الأمة العراقية إرادة لأفراد أو جماعات أو كلاهما معاً للبقاء موحدين ضمن الرابطة السياسية، وهذا شكل التضامن الأول.
التضامن الاقتصادي
الشكل الثاني للتضامن داخل الأمة الواحدة، هو التضامن الاقتصادي، بمعنى أنْ يشعر الأفراد بأنَّ هناك عدالة ما بتوزيع الثروة، وأنْ يشعر الأفراد والجماعات بأنَّهم مُفيدون ضمن إطار الدولة وموزعة الفرص الاقتصادية عليهم بتساوٍ معقول وبعدالة معقولة، والترابط الاقتصادي يستند على التساند الاقتصادي، فلا يمكن خلق كانتونات داخل الدولة الواحدة في المناطق الجغرافيّة ضمن إطار الدولة،وتفصلهم بعضهم عن بعض بإمكانياتهم الاقتصادية ثم يتم الطلب منهم بأنْ يكونوا موحدين ضمن إطار الأمة الواحدة، التساند الاقتصادي هو أن يكون معمل ما في محافظةٍ ما، يعتمد على مواد أولية في محافظة أخرى، وشبكة الطرق وسكك الحديد من الأمور المهمة، وهذا شكل التضامن الثاني.
التضامن الثقافي
الشكل الثالث للتضامن ضمن إطار الأمة الواحدة، وهنا نتحدث عن الأمة العراقية، وهو أنْ يشعر الأفراد بأنَّهم مساهمون بالسردية التاريخية، وبالسردية الرمزية للأمة، بمعنى أنَّهم من الناحية الثقافية مشاركون فيها، لذلك فشل مشروع الأمة العربية فشل ببساطة في العراق، فليس فيه عرب فقط، وسردية الأمة الإسلامية ستفشل اذ لا يمكن أنْ نُجبر الناس على سردية تاريخية ورمزية واحدة،فهم ليس بالضرورة أن يكونوا راغبين بها، كتابة مناهج التاريخ، النصب التذكارية، الأيام الوطنية، الأعياد، الرموز المختلفة هذه جميعها تصنع التضامن الثقافي الذي نطلبه في إطار الأمة العراقية الواحدة.
فعندما نتحدث عن مشروع بناء الأمة، فأننا نتحدث عن مشروع يتضمن التضامن السياسي المستمر اليومي (الاستفتاء اليومي)، يعتمد التساند الاقتصادي، ويعتمد المساهمة من قبل الجميع ضمن إطار بناء السردية التاريخية والرمزية الثقافية.
دولة المواطنة
تناول كثير من الباحثين سؤالاً قديماً يتعلق بدولة المواطنة، الدولة والأمة بمفهومها الأكاديمي ربما بشكل أو آخر قائمة على الفرد عندما تكون هذه الدولة أو هذه الأمة عندما يكون تعريفها تعريفاً غربياً أو تعريفاً ليبرالياً، وما حصل في التسعينات وما بعدها، وبعد تيار العولمة وشبكات التواصل الاجتماعي وما إلى ذلك، تحدت هذه التيارات هذه النظرية (نظرية دولة المواطنة)، لذلك أصبحت الدول الغربية تجرب نظريات أخرى، نظريات تتحدث عن التعددية الثقافية، لأنَّ دولة المواطنة في النهاية فيها شكل من أشكال الحقوق للجماعات ينبغي أنْ يتم مراعاتها، وهذه الحقوق قد تكون متعارضة ومتضاربة مع دولة المواطنة،ودولة القانون التي يسري فيها القانون على الجميع وبالتساوي، كالبريطانيين الذين من أصل الهنود (السيخ) يرتدون (العمامة الكبيرة) بالنسبة لهم هذه العمامة واجبة،ولا يمكن أنْ يتخلوا عنها، وفي الوقت نفسه هناك قانون يُلزم راكب الدراجة النارية أنْ يرتدي (الخوذة) للحماية وهذا يتضارب مع الهنود فهل يخلعون العمامة ويرتدون الخوذة أم العكس، فصار هناك حوار على هذا المستوى بمعنى : مَنْ الأولى؟ القانون أو حقوق الجماعة؟ فقد وصلت الدولة ذات التعددية الثقافية – ونماذجها في بريطانيا وكندا بدأت تطبيقها – والبريطانيون من أصل الهنود السيخ اليوم غير مُلزمين بارتداء الخوذة، اذ قامت الدولة بتغيير قوانين لصالح جماعة معينة، والدولة الناجحة والدولة المفيدة بالنهاية تعرف كيف تُدير الإختلاف الثقافي بطريقة كفوءة وبطريقة لا ينتج عنها صِدام.
إدارة الإختلافات
من جملة ما ندعو إليه الآن بالنسبة للأمة العراقية هي دولة حاضنة للتنوع، تُدير اختلافات أبنائها بالمستويات الثقافية إدارة حكيمة وإدارة منطقية، وعلى المستوى السياسي تحفظ حقوق الجماعة مثلما تحفظ حقوق الأفراد بوصفهم مواطنين.
_________________________
* هذه الندوة .. تحمل عنوان: (التنوع المجتمعي ) .. هي استكمال للندوة السابقة .. ضمن سلسلة ندوات مترابطة ومتكاملة ومتواصلة.. جرت و كل منها تعتمد على مخرجات الندوة التي سبقتها.. وتتكامل معها.. وصولاً إلى الإجابة على التساؤلات التي أثارها كتاب (أزمة العراق سيادياً ). الندوة ــ بسبب الأوضاع الصحية وجائحة كوروناـ تجري عبر الانترنت من خلال برنامج زووم، وقد بثّت فالندوة مباشرة على صفحات ملتقى بحر العلوم للحوار وصفحة معهد العلمين للدراسات العليا على الفيس البوك..بتاريخ 30 اذار 2021