كتب : احمد الصائح
انشغلَ الكثيرُ من أسلافِنا بمحاولاتهم التوصّل إلى حقائقَ العديدِ من الظواهر؛ سواءٌ حقيقة الخلق أم الوجود أم الكون أم المصير، وغيرها، إلّا أنّ أيَّ حقيقةٍ كانوا ينشدونها لم يكتمل وجهُها الصّريح لديهم؛ وظلّت الحقائقُ متناثرةً بين كمِّ من الآراء و النظريات سواءٌ الفلسفية ( التي ترى في الحقيقة تطابقا بين الموضوع والفكر الذي يعبّر عنه) أم النظريات الدينية ( التي ترى الحقيقة ككشف للحجاب لن يظهرَ إلّا يومَ الميعاد) .
وعلى الرغم من أنّ تلك النّظريات والآراء قد أدّت خدماتٍ جليلةً للإنسانية، إلّا أنّ الجنس البشري اكتوى بلهيب آثارهما على فكره وجسده، و استمرَّ وريثو أولئك الأسلاف يدورون في فلك الأسئلة ذاتِها، حيث كان استمرار ذلك التساؤل لديهم نتيجةً لعدم الاقتناع بتفسيرات الفلاسفة من قبل فئةٍ، ولجوء فئة أخرى إلى التفسيرات الغيبيّة .
إلّا أنّ الطموح نحو المعرفة والحقيقة تدانتْ مستوياتُه عن تساؤلات الأسلاف؛ ليتّجه نحو مستوياتٍ أدنى، عبرَ التساؤل عن حقيقة الأديان والمذاهب، والأفكار، نزولا نحو جزئيّات كل ذلك، لتتفرّع تساؤلات من نوعٍ آخر عن مصطلحات مجرّدة من نوعٍ آخر، كالتقاليد والعادات والعدالة وعن حقيقة الأخلاق أهي فطرية عامّة مطلقة ( كما رآها الفارابي وكانط من قبل) أم تشوبها النسبية؛ كما نراهُ اليوم في ظل حضارة التكنولوجيا والتقنيات؛ حيث تندفع بسرعة غير مسبوقة نحو هاوية اللاعقل، وحلّ محلّه العقل التكنولوجي (ذو الطبيعة السلطوية بحياتنا الاجتماعية)، حيث استفرد ذلك العقل التكنولوجي بحياتنا الاجتماعية، عن طريق عدم نظرته إلى الأشياء والأفراد إلا من خلال الضبط والتحكم والتقنن. ممّأ أدّى بجعل الأخلاق والقيم السابقة تَئِنُّ تحت تأثير وسائل الدعاية وغيرها .
يرى هابرماس ( أحد رواد الفلسفة النقدية التواصلية، وصاحب نظرية أخلاقيات النقاش ) : بأنّه" ليس من حق الفرد أنْ يدّعي أنّ آراءه وحقائقة أهم وأبلغ من الآخرين، لذا يجب نبذ أي رؤية تزعم امتلاك حقائق أزليّة للإنسان أو الكون، فالحقيقة كانت ضالة الإنسانية منذ القدم، والطريق الصحيح إليها لا بدَّ أنْ يمرَّ بتعرّف الرأي والرأي المخالف، ولا يكون بطمس آراء الآخرين أو تسفيهها أو الهروب من مواجهتها؛ جهلا أو تجاهلا لها بالاستعلاء عليها، فلا سبيل للحقيقة إلا عبر الحقائق المتفاهم بشأنها.
وهنا يبشّر هابرماس بفلسفة جديدة قوامها التواصل حيث تقوم على ما يسمّيه (التذاوت) أي: (أناوأنت)؛ عمادُها اللغة والتّفاعل، أي من خلال الحديث والخطاب والتواصل مع المقابل القائم على البرهان والمحاججة، أي أنّ الحقيقة ليس ما أدعيه أنا أو أنت من حقائق، بل ما نستطيع الوصول إليه معا ونتفق بشأنها.
طبقا لذلك يتغيّر مفهوم الحقيقة كليّا ما دام أنّ لا (الذات المفردة) كما هي في رؤية الرأسمالية والليبرالية، ولا (الجماعة) كما هي في رؤية الماركسية ، بمقدورهما بلورة الحقيقة الكاملة، وهذا ما يفسّر جاذبية المعنى الجديد (الجذر الجديد) لمفهوم الحقيقة وصعوبته في آنٍ واحد.
وتبرز الصعوبة في النقد الموجّه لهذه الفلسفة، وهو: إذا كان مستساغا أنْ لايستطيع أيُّ فردٍ بلورة حقيقة نهائية، ما هو السبيل إلى الوصول إلى حقيقة مشتركة على الرغم من وجود أفكار متعددة وآراء مختلفة بين الأفراد؟
يأتي الجواب على ذلك للوصول إلى الحقيقة التي تحظى بقبول الجميع، والتي تشكّل منطلقا مقبولا بين النّاس لتأسيس ما يرونه كفيلا بتنظيم حياتهم، حيث ترى هذه النظرية بأنّ الوصول للحقيقة مشروطٌ بالحوار والنقاش والتواصل، ووحده التوافق السليم يسمحُ بتواصل الجماعة الإنسانية وتعزيز لحمة المجتمع.