29 Jul
29Jul


كتب : "حسين العادلي"


   هُناك.. في"كربلاء" روضة الأكفَان، حيث تُنحر الأفكار والأبدان، وحيث يتحد الشهيق والدُخان.. 


   هُناك.. وسط رائحة المجازر.. حيث مَلأت تلك الوحوش الخافقين، لِتستقطِر سماء حِقدها سموماً ولِتحلب ناقة مجونِها فتكاً..

   

  هُناك.. بعدما ترشٌّح من أغوارِ الرّعاع ترسبات الأقذار لتقتل كل البراعم والأزهار.. 


  هُناك.. بعدما أُحكِمت دائرة الموت، وأُكملَ نطاق الإستئصَال لموكب النور..

هُناك... هُناك... 

وقف الحُسين وحيداً يُرسل أنواره كما تُرسل الشمس الغاربة آخر أنوارها إلى الأرض... 


   وقف الحُسين وحيداً ووقف الزمن كلّه معه لولادةٍ جديدة، فالشمس حُبلى بالنهار... 

   وقف يرمق يوماً جديداً ولكن لا كسابق الأيام.. يومٌ في السماء ويومٌ في الأرض.. يومٌ تتزين فيه السماء لوافِدها الجديد، فإنَّ مَنْ يمت يولد لعهدٍ جديد،.. ويومٌ على الأرض.. فستُضخ في عروق زمن الأرض الآت دماء جديدة تحول دون الخنوع، وستكتسي الأرض غداً بوشاح العِزّة لا الخضوع، وسيُحدد طريق الدم هذا سُبُل السالكين لمنازل العلياء...

... 

   هُناك.. وقف الحُسين وحيداً كسراجٍ وسط بحر الليل، وقد أقرض الله والجموع روحه.. فبعد رحيل الكُل، شحذ الحُسين إرادة القوة الكامنة في مِشكاة التضحية، فلا صِدق للإرادة إن لم تُتوج بالتضحية، فالإرادة البائسة المتسترة بالسلامة ليست سوى خرقة بالية تتهرأ عند أول عاصفة ابتلاء... 

   هكذا يفعل الخالدون، عندما يسحقون آخر عُزلة لهم المسمّاة بالسلامة، ليُحرروا طاقة مشكاة التضحية، وليشع زمنهم بأنوار التاريخ.. فما لمشاعل التاريخ سوى زيت الصبر والدم، ومَنْ يطلب الخلود عليه أن يهب الإرادة بأكملها للفداء...

... 

   وقف الحُسين وحيداً، وقد حان زمن الرحيل واقترب الغسق.. 

   وتَقدمَ.. تَقدم... لتأخذ الأقزام أقرب طريقٍ إلى الفرار.. 

أخذت فرائِص القوم ترتعد.. فيا للهول.. فهؤلاء الغوغاء ليس لهم سوى حفنة الآمال.. وهذا القادم من رَحَم الفِداء هبَّ عليهم كالرياح اللوافح ليقتلع العفن ويحصد المجون،.. 

فأخذت فرائصهم بالإرتعاد، وجوارحهم بالإرتعاش، وإرادتهم بالخَوار.. 

والقادم من ذُرى الشموخ، المشتعل بغرام التضحية يتَقدم.. يتَقدم.. والجمع يُهزَم...

وليس لهم سوى مقارع الطبول وحناجر الصائحين، وجنون الخوف يلذعهم... 

...

 وتَقَدم.. تَقدم.. والجَمعُ يُهزَم...

   ...

   ومن عمق الإندحار، من غور الهزيمة،.. أدرك الأوغاد إعتلال الميزان، فليس للعباب من مرسى، وليس للخائف من سكون.. 

وأدركوا الإنهيار وتساقط العزيمة، فاختاروا المواجهة بالحجارة والنَبلِ والسِهام!! فما لخورِهم من شهيقٍ قبال عاصفات التضحية، فإنَّ العزيمة التي تُقاتل، ومَنْ عَهِدَ الباطل فلا حظ له بالقوة... 


  والفاتح لعهد الفجر يتَقدم.. والجمع يُهزم.. 

يتَقدم.... يتَقدم...

وأوسمة الجراح بدأت تشق الأخاديد على جسده... 

...

   آهٍ آه... 

...

   ها قد بدأ معراج الروح  ياحسين.. ها قد أزِفت الساعة أيها المشتعل بغرام الكرامة،.. وها قد سال دمُك ياحُسين ليطرد الأقذار المتراكمة من نَتن الطغيان وسوس الخنوع...

   ...

  وتسابقت السهام في اختيار المواضع من جسد الحسين، والروح تدفع بزفرات الإرتياح لا بأنين الألم.. 

   ها قد بدأت الروح تتحرر من سجن الجسد،.. 

وآهٍ آه من مأزق الجسد!! فكما الكلمة مقبرة للمعنى فالجسد مقبرة للروح.. وكلما كانت الروح عظيمة ضاق بها الجسد،.. وما أشد مأزق أجساد العظماء وأشقاها بأرواحهم!!

... 

   ها قد بدأ معراج الروح يا حسين.. ها قد بدأت الروح تشق طريقها إلى المصدر، حيث "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين".. حيث مركز الملكوت.. 

... 

آه يا روح الشهادة ما أروعكِ!!.. فقد صيّركِ الدم نبراسا.. 

وآه يا دمّ الفداء ما أبهاكَ وقد منحتكَ الروح المعنى لتلد الخلود!! فأنتِ يا روح مأذنة الآفاق، وأنتِ يا شهادة منار العز،.. والإنتهاء معكَ يا دمّ ابتداء... 

   ...

   وتكاثرت أوسمة الجراح على الجسد، لتغمر الحُسين الدماء كما تغمر أنوار الشموس قِمم الشاهقات.. 

... 

   عندها.. وبعد أن كسته ثياب الدم كالأكفان،.. وقف الحُسين يحنو على جروحه ويُعالج جداول الدم كالطوفان.. 


   عندها.. 

   عندها.. تقدمت كتلة الرعاع كما تتقدم العقارب التي تقطر سماً وصديداً، وانسلّت تلك الأفاعي من شعاب الخوف والظلام.. وتعالى الصراخ بين أكوام الأقذار مُزمجراً صاخباً مُفتشاً عما يتسلح به من انتقام... 


   وفجأة.. اختلس أحدهم الزمان والمكان ليضرب الحُسين على رأسه، فامتلأت القلنسوة دماً، فدعا بخرقةٍ وشدَّ بها رأسه،.. ليهبَّ بعدها كالرياح تقتلع الراسيات رغم الوهن،.. وهم يتطايرون بين يديه كالذباب لا يجيد سوى الطنين...

... 

   واندفعوا إليه بعد أن هدّهُ العطش ونال من ساعده الضَعف،.. بالسيوف والسهام والرماح!!.... جراحٌ وجراح،.. جراحٌ وجراح... 

جراحٌ وجراح...

يا ربّ الحُسين لقد أُثقل جسد الحُسين بزخم الجراح...!!! 

سهمٌ في الجبهةِ، سهمٌ في العينِ، سهمٌ في الصَّدرِ، وسهمٌ في القلبِ مُشعّب.. 

وسهمٌ في القلبِ مُشعّب..!!! 

ليخر الجسد أخيراً،.. فقد أدّى حق الزحف....!!!! 

   ...

   وقفت حِمم البركان أخيراً، ولامس الجسد الأرض!!.. 


لقد آنت الولادة ياحُسين ليومٍ في السماء مؤبّد ويومٍ في الأرض مُخلّد... 

... 

   وتقدمت الأقزام تدنو ببطء، فلعل المارد يُبعث!!.. وتقدمت.. وأيقنت أنَّ جسد الحُسين سجين الجراح!!.. الجسد أسير الجراح...!!!

فبالسيف قطع الأول كفّه، والثاني عاتقه، والثالث بالرمح فصرعه، والرابع والخامس والسادس...!!! وهو يتوهج.. مع الألم وبالجُروحِ يتوهج..

فها هي لحظات الولادة تدنو، ليومٍ بالعزِ مُجلل....

   ...

   عندها، وعند مسرح آخر اللحظات في دوحة التسليم لبقايا الروح.. ينبعث شمر الأشقى، مسخ الإنس، لنحر هذا الوهج.. إثنتا عشرة ضربة، ومن الوريد إلى الوريد.. لنحر هذا الوهج!!.. وشفتا المذبوح ترسم للكُنه بدائع: ((اللّهم متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غنيّ عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء،.. أتوكل عليك كافياً.. اللّهم احكم بيننا وبين قومنا بالحق، واجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً، يا أرحم الراحمين))...



   وما هي إلاّ ثوانٍ حتى عانق الحُسين الملكوت.. فقد اشتقاق إليه المصدر، وحنّت إليه أركان الوجود.. (( يا أيَّتُها النَّفسُ المُطمئِنَّةُ. ارجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيةً مَّرضية. فادْخُلي في عِبادي وادخُلي جَنَّتي)).

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن