حِراك الدولة الحديثة منذ القرن 16 الميلادي هو حِراك إنتزاع السلطة من اختطاف المحتكر لها والمستبد بها، فالدولة ظاهرة سياسية مجتمعية أنتجتها نضالات المحكومين لإنتزاع الصلاحيات المختَطَفة من قبل السلطات المطلقة لهدف تقنينها ومأسستها، فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة.
صحيح أنَّ الدولة حصيلة تطوّر بنى الإقتصاد والإجتماع والمعرفة والثقافة، لكن تبقى الدولة بالأساس ظاهرة سياسية شكّلتها علاقات التّحكم الجدلية بالسلطة والثروة والنفوذ، وطوّرها صراع الشرعية بين الحاكم والمحكوم ومديات تمثيل الحاكم للإرادة العامة، والإحتكام إلى القانون والمواطنية، وتحقيق العدالة بتوزيع الثروة. فتاريخ الدولة يتجلى بحِراك التّنازع والتّحكّم بحق التصرف الشرعي بالسلطة والثروة بين الحاكم والمحكوم. إلى أن حط المقام بالدولة (معيارياً) ككيان سيادي يجسّد الإرادة العامة للمواطنين، ويعبّر عن مصالحهم.
الدولة أعلى أشكال السلطة،.. والسلطة في الدولة الحديثة هي وظيفة يمارسها المسؤول بأجر ووفق اشتراطات معقدة ومقعدة على وفق القوانين والمؤسسات، وليست حقاً أبوياً أو ثيوقراطياً أو وراثياً أو ثورياً أو حزبياً!! بل هي حق الأمة تفوض به مَن تشاء وفق إرادتها الحرة وحقوقها الثابتة تحقيقاً لمصالحها العامة.
تُختطف الدولة بتغييب الإرادة العامة للمواطنين، وتُغيب الإرادة بالإستبداد من خلال مصادرة حق الجمهور بإنتاج السلطات ديمقراطياً. وتُختطف الدولة عندما يتم تجريد مواطنيها من حقوقهم وحرياتهم، وعندما تختل منظومات الحقوق والواجبات بفعل التمييز والإقصاء واللا عدالة المجتمعية والسياسية. وتغيّب الدولة بفشل إدارة وظائفها من أمن وخدمات وتنمية على يد السلطات الفاشلة والعاجزة عن الحكم الفعّال والكفوء.
وكما تُختطف الدولة باختطاف شرعيتها القائمة على فكرة التفويض، وباختطاف مشروعيتها بتحقيق وظائفها، تُختطف أيضاً بالتصحر السياسي الذي يفرضه انسداد الأفق بفعل الشموليات والأيديولوجيات الآسرة للدولة، وبالتلاعب والإبتلاع الحزبي والنخبوي والشخصي لكيانها ومصالحها العليا، وبسلب القوة والسيادة من سلطاتها من قبل المجتمع والجماعات،.. كل ذلك يؤدي الى اختطاف الدولة لتغدو سلطة بدائية تتلبس بالدولة زوراً، فتفقد شرعيتها وتنهار وظيفتها،.. عندها تغدو عبئاً على مواطنيها،.. وما عسى المواطن أن يفعل بدولة مختطفة الشرعية والوظيفة، يتلاعب بها المختطفون لها من أرباب المصالح والمغامرات!! وما نفعها من دولة عندما تغدو مملكة فرد أو اقطاعية حزب أو سوقاً لكارتيلات المال والسياسة!!
الدولة العراقية قبل 2003م هي إنموذج للدولة المختطَفة لصالح الأنظمة المستبدة والتمييزية والمغامرة، وبالذات نظام البعث/صدام الذي اختطف الدولة بانقلاب لتغدو إقطاعيته السياسية الإقتصادية الثقافية المغلقة المطلقة، والتي لم يغادرها إلا بتسليم الدولة ركام دم وتخلف وعصبيات واستلاب.
بعد 2003م خرجت الدولة من فج الإختطاف إلى نفق التشظي، فبدل أن يعاد بناء الدولة على وفق معايير الدولة الوطنية ومقومات الحكم الرشيد وبنواة حكم صلبة فعّالة،.. عوضاً عن ذلك تم اعتماد معادلة الحكم التوافقي المكوّناتي الحزبي الذي شظى الدولة على عدد الهويات والمصالح والقوى تحت عناوين الشراكة والتوازن والتوافق، وليصل التنازع والتحاصص إلى كل ما يتصل بالدولة من سلطات ومؤسسات وعلاقات سيادية!! فأنتج التشظي الإختطاف بدوره، على عدد مراكز القوى والنفوذ والمصالح!!
لا أمل بوحدة وقوة وعدالة وفاعلية وصلاح الدولة إن لم تتحرر من الإختطاف والتشظي، وهو أمل يتصل بفلسفة الدولة وببنية نظامها السياسي وبالقوى المسؤولة عن فعل الدولة ومآلاتها.