في عام 1973 وضع الانثروبولوجي (ليفي ستروس) مفهومي المجتمعات الباردة والمجتمعات الساخنة، وأظهر التباينات بينهما؛ إذ توثق المجتمعات الباردة الأحداث والوقائع وحتى الطقوس دون ربطها بالحياة اليومية أو مستقبل الجماعة وأفرادها. وعلى خلاف ذلك، تدرج المجتمعات الساخنة أحداثها ووقائعها الماضية في سلوكيات أفراد الجماعة، بطريقة تجعل ذاكرتها معبرة عن بناء اجتماعي للماضي وحاملة "للمعنى"، وهذا يجعل مفهوم الذاكرة الساخنة معبرا عن "الاستمرارية وتدفق المعنى" بآن واحد على خلاف الذاكرة الباردة التي تنقطع فيها الاستمرارية وتخذل تدفق المعنى عبر المدد الزمنية المتتالية.
بعبارة أخرى، تعيش الذاكرة الساخنة داخل الأجساد وتختزن الماضي الذي لا يقتصر وجوده على الوثائق والطقوس. وفي هذا المجال، يتم استدعاء الماضي بشكل مستمر لتوجيه مسارات أفراد الجماعة وانشغالاتهم حول طبيعة وجودهم ومصائرهم وهي ملازمة للأنا (الفردية) ونحن (الجمعية).
يتذكر اليهود دوما نبوخذ نصر وهتلر ويتذكر المسيحيون كذلك صلب السيد المسيح وموته وقيامته وكأن ذلك قد حدث قريبا، ويستذكر الشيعة حادثة الطف التي استشهد فيها الإمام الحسين بن علي بن ابي طالب ويعيدون قراءة القصة في كل عام والتعبير عن أحداثها بشكل طقوس جماعية وفردية مثل (مسيرة الأربعين) أو (ركضة طويريج) في تجسيد كامل لحاجة الشيعة (للتذكر) وتجنب النسيان، كما تظهره أبيات قصيدة الشاعر جابر الكاظمي (ابد والله لن ننسى حسينا):
ابد والله لن ننسى حسينا
وذا عهد ومعهود علينا
وتحرص الجماعة الشيعية خلال ممارستها للطقوس على تجسيد (المعنى) الذي تحمله واقعة الطف سلوكيا خلال أوقات التذكر (زيارات عاشوراء والأربعين). ويظهر ذلك جليا في أفعال التسامح بين الأفراد والصبر على قطع مسافات بعيدة وصولا إلى كربلاء وتوفير الطعام والشراب والخدمات بشكل مجاني.
تتحول بعض المجتمعات الباردة إلى ساخنة حين تجد نفسها فجأة داخل عاصفة التأريخ كما حدث للجماعة اليزيدية في العراق التي كانت تمارس طقوسها في مناطقها بشكل منعزل ولكن تعرضها إلى عمليات إبادة جماعية وسبي للأطفال والنساء خلال غزو (داعش) لمناطقهم، جعلها تعبر عن محنتها بأشكال متعددة ودفع أعدادا كبيرة من أفرادها إلى الهجرة واستذكار عمليات الإبادة أمام المجتمع الدولي. وعلى الرغم من حدوث عمليات إبادة سابقة لليزيدين عبر التاريخ، فإنَّ هذه العملية قد حظت باهتمام الرأي العام في أنحاء العالم بسبب تغطيتها بصورة حية من قبل القنوات الإعلامية العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي فضلا عن وجود قوات التحالف الدولي لمحاربة (داعش) في العراق ونجاح بعض الضحايا في الوصول إلى المحافل الدولية وسرد الأحداث وآثارها والحصول على اعتراف قانوني دولي بعملية الإبادة.
وفي السياق ذاته، انتقل سكان أميركا الهنود من "البرودة الاجتماعية" إلى "السخونة" بعد تمردهم على واقعهم الجديد الذي وضعهم فيه المستعمرون وتشكيل ذاكرة خاصة بأزمتهم وتنظيم واقعهم من أجل كسب الحرية واسترداد أراضيهم المغتصبة. وفي مقابل ذلك، يمكن للمجتمعات الساخنة أن تبرد عند ما تتوقف عن إنتاج التطور وتكرار أحداثها بعيدا عن التجديد. وتمثل بعض التهديدات في المجتمعات الساخنة مثل البطالة والانفجار السكاني والحروب مؤشرات التحول إلى مجتمعات باردة.