لا يمكن للتاريخ الذي يسرد عهود صدام او القذافي او ستالين او حروب نابليون وغيرها الولوج الى اعماق الجماعات البشرية التي عاشت تلك العهود ليبعث لنا صورا عن ضحايا قُتلوا أو هُجروا أو اغتيلوا، أو عُذبوا أو سُجنوا أو تعرّضوا للإهانة وغير ذلك. وحين لا تكون مهمة التاريخ الذهاب ابعد عن الروايات المعرفية للأحداث ، يصبح التوثيق واعادة صياغة الاحداث بما يناسب المشاعر والحقوق، والاعتراف بالماضي وتهدئة النفوس في سياق بناء الذاكرة (او ترميمها)، بما يسمى ب "عمل العزاء" او كما عرفه ريكور في تعبير "واجب الذاكرة".
وقد طغت سرديات العهد الماضي في العراق واستعاراته التاريخية ورمزياته على الحيز العام تحت تأثير القوة القاهرة معززة لهوية عروبية بنسق (قبلي/ اسري)، واجبرت التنوعات العراقية على الاصطفاف حول "ذاكرة ارغامية" غاشمة والانكماش على ذاتها في الوقت نفسه.
ولا تكتفي القوة المهيمنة بقهر الوعي بطريقة "الارغام" بل تتعدى ذلك الى زرع حالة الارتياب داخل رموز الهويات الفرعية الموالية لها، في تأكيد صارخ لخطورة الثقافة الشمولية على جميع مكونات المجتمع.
وفي هذا الشأن، كتب وائل عصام ملاحظاته خلال الأيام الأولى لسقوط النظام (وقد أمكن لي ملاحظة احتفاظ حتى البعثيين بتأثير هوياتهم الفرعية من الاسبوع الاول لسقوط بغداد، عندما بحثت عن الدكتور المرحوم المفكر الياس فرح عضو القيادة القومية فوجدته مختبئا في كنيسة خوفا من الميليشيات الشيعية، التي اخذت تبحث عن البعثيين لقتلهم، ولم يحظ بحماية اي مقر او فرقة حزبية بعثية، بينما لم يستطع عزت ابراهيم رفيقه في الحزب الحفاظ على نفسه الا بالاختباء في تكية نقشبندية بحماية انصاره الصوفية….)