لا قيمة للأفكار الكبيرة اذا ما بقيت حسبية العقول والصدور، او كانت مجرد نوايا حسنة لا تخرج عن إطار الحديث او التمني بتحققها، وان قيمة الافكار تتأتى ممن يعمل على تحقيقها وأخراجها من دائرة الحيز العقلي الى الحيز الفعلي، والعراق وخلال العشرين سنة الماضية كانت يتحرك بخطى بطيئة لا تتماشى مع كمية الأفكار والطموحات التي تناقش او تطرح، ولعل مجموعة من هذه الأفكار الكبرى تتمحور حول تخلف العراق عن استثمار الغاز المصاحب او استخراج الغاز لكي يعزز تأثيره العالمي الجيوسياسي ويرفد موازنته بالمزيد من العوائد المالية ويتهيأ فعليا لعصر ضعف تأثير النفط القادم، او مشروع ربط الغرب بالشرق من خلال العراق (من شماله الى جنوبه) ليتحول الى نقطة وصل وطريق تجارة عالمي رابط بين المياه المتوسطية الباردة ومياة الخليج الدافئة، او التساؤول عن سبب تأخير تحول العراق الى دولة مؤسسات فاعلة مترابطة بالرغم من مرور 20 عاما على التغيير، ومما يلفت الإنتباه واقعا هو تحرك الحكومة العراقية الحالية بهذه الإتجاهات الثلاثة دفعة واحدة، بالرغم من الصعوبات التي تواجه هذه المشاريع الكبرى، ولكي لانبتعد عن جادة التقييم الموضوعي، فظروف العراق السابقة في أحيان كثيرة كانت أكثر تعقيدا وتأثيرا من النوايا الحسنة لدى أغلب القيادات.
فالمشايع الكبرى بحاجة دائمة الى أوقات مناسبة، والى همة وقرار حاسم في الوقت الحاسم، واستعداد لتحمل نتائج هذه القرارات، وتهيئة الأرضية الداخلية المتشعبة لتساند تلك المشاريع الكبرى بتجاوز الإشكالات الصغيرة الآنية والنظر الى ما تحققه لاحقا من أيجابيات كبرى في مجالات عدة
. فبعد قرار استثمار الغاز المصاحب، تأتي زيارة رئيس الوزراء الى تركيا، الثلاثاء 21 آذار، لتضع فكرة عملاقة أخرى على سلم التوقعات، فليس كل زيارة يمكن ان ينتج عنها الاتفاق على مشاريع كبرى يمكن ان تحقق نقله نوعية ليس على مستوى البلدين فقط بل على مستوى المنطقة، وبعد صبر طويل وتساؤلات عراقية داخلية عن السبب الذي يمنع العراق من ان يتحول الى ممرا (بين الشرق والغرب)، تتحول الفكرة الى مشروع فعلي، فتركيا ذات النصف أوربي والنصف آسيوي المطلة على البحر المتوسط والأقرب الى أوربا وذات التعاون الاقتصادي والمالي والتجاري الأوسع معها، تبحث دائما عن أقصر الطرق التي يمكن من خلالها ان تتحول الى نقطة توزيع للمنتجات العالمية، ولايمكن ان يتحقق ذلك بدون العراق، باعتبار ان الخط السككي او البري الذي يمكن ان يربط تركيا بالبصرة هو أقصر الطرق زمنا وتكلفة لكي يرتبط المشرق العربي وبالخصوص (العراق ودول الخليج) بتركيا وما وراءها من (بحر متوسط وأوربا)، لذلك فهذا المشروع هو نقطة تحول عالمية ستنعكس بالإيجاب ليس على تركيا والعراق فحسب بل جميع دول العالم بالخصوص الدول القريبة من طريق التنمية، مع تفهم عراقي تركي على ان هذا المشروع لايمكن له النجاح مالم تشترك في انتاجه وإنجازه كل الدول المعنية به، لذلك صرح السيد رئيس الوزراء بالاتفاق مع الرئيس التركي، على توجيه الدعوة لمجموعة من (دول الخليج وإيران) لعقد اجتماع موسع في بغداد قريبا لوضع اللمسات الفعلية الأولى بالاتفاق الجمعي على تحويل هذا الحلم الى واقع وفقا لجداول زمنية معقولة وتكلفة مقبولة، ولا ينبغي تجاوز الإشارة الى مقدار تأثير هذا المشروع على الواقع الجيوسياسي للعراق، اذا ما اضفنا ان طريق التنمية سيكون طريقا لنقل الطاقة بأسرع الأوقات ولن يقتصر على البضائع والسلع الغذائية والاستهلاكية، ومقدار تأثير ذلك على سوق العمل وتوفير مئات الآلاف فرص العمل للشباب العراقي خلال سنوات قليلة قادمة، ناهيك ان هذا الخط هو المنقذ الأول لميناء الفاو لكي يتحول الى منطقة جذب أساسية للبضائع والسلع
ايضا امتازت الزيارة بموافقة الرئيس التركي على زيادة اطلاق المياة في نهر دجلة بصورة مضاعفة خلال الشهر القادم، ومع مطالبة العراق باستمرارية التدفق، تم الاتفاق على ان تعقد الجهات المختصة بالمياة لقاءات مكثقة خلال المدة القريبة لحل الإشكالات السابقة مع توسيع هذه الجهات لتشمل معها الاطراف المعنية بالزراعة التي تستهلك نسبة كثيرة من المياة في العراق، للتعاون الجاد الفني والاستثماري لتطوير قطاع الزراعة وفق أحدث وسائل المكننة الزراعية الحديثة المقننة لاستخدام المياة، فيما تقوم سياسية رئيس الوزراء داخليا الى جانب ذلك، باللجوء الى سياسية الاعتماد على النفس داخليا في ترشيد استخدام المياة الجوفية وتعزيز الخزين المائي وتقليل الهدر وتحلية مياة البحر، تبعا لخطط وجدوال متعاقبة حيث تم تخصص 400 مليار دينا عراقي لانجاز واتمام مشروع تحلية مياة الشرب بالبصرة في موازنة 2023.
ومع الاهتمام التركي بالملف الأمني المتعلق بحدودها مع العراق، اكد دولة رئيس الوزراء بصورة قاطعة بان سياسته ترتكز على تحصين العراق أمنيا وبأن لايكون منطلقا لإلحاق الآذى بدول الجوار كافة، وان ذلك بدأ بالتحقق من خلال حكومته بتحصين الحدود من خلال نشر قوات شرطة الحدود وما يستلزمة هذا الأمر من تبعات معنوية ومالية كبيرة على عاتق الدولة، مضافا الى توسيع قاعدة التعاون الأمني والاستخباري والمعلوماتي مع الدول المجاورة، والاستجابة الفاعلة حول كل ما من من شأنه ان يضر بحدودها وأمنها، وان حكومته مصممة على المضي بهذا الطريق لحين الوصول الى الإستقرار الأمني الكامل لحدود العراقي ومع كافة الدول المجاورة.
وامتازت الزيارة أيضا بواحد من أهم اللقاءات الاستثمارية حيث عقد دولته لقاءاً مع أكبر الشركات الاستثمارية التركية العاملة في العراق او الطامحة للعمل فيه، وقد استمع الى(35) متحدثاً بإسم هذه الشركات، وسجل ما طروحوة من ملاحظات فنية او مالية وأجاب على أغلبها وفق للقوانين العراقية النافذة، حيث كرر الحضور مجموعة من الصعوبات التي تواجه عملهم من قبيل، تسهيل اجراءات منح الفيزا لرجال الأعمال، التأثر ببرامج التحويل المالي، رغبة البنوك التركية بالعمل في العراق، او صعوبة حركة الشاحنات التركية في الأراضي العراقية خاج نطيق إقليم كردستان، او التأثر بقانون الازدواج الضريبي، او الحاجة الى أكثر من معبر جديد لتسيهل اجراءات التبادل التجاري بين البلدين، وإجمالا أكدت الشركات التركيبة بأنها إنجزت (1074) مشروعا في العراق بكلفة اجمالية قدرها (33) مليار دولار خلال السنوات الماضية، وبان العراق هو الشرك الأكبر الثالث لها في الشرق الأوسط، فيما قال وزير التجار التركي، (ان لدى العراق قدرات وإمكانات لتحقيق قفزة كبيرة بقيادة رئيس الورزء محمد شياع السوداني
في المقابل أكد دولة رئيس الوزراء للحضور أن لا مجال للمشاريع بدون منهج، وان الموازنة العراقية 2023 المليئة بالفرص الاستثمارية أسست على أصول المنهاج الوزاري المعتمد على خمسة أسس، وفي مقدمتها الخدمات، او المشاريع التي تساهم في تقليل الفقر او تقليل البطالة بتوفير فرص العمل، وان على الشركات ان تتواصل مع هيئة الاستثمار والوزرات العراقية وفقا لهذه الأصل.
كانت حفاوة الإستقبال والقاءات الخاصة التي عقدت بين قيادتي البلدين او بين الوزراء او قادة بعض المؤسسات مع نظرائهم الاتراك دليل على الاهمية القصوى لهذه الزيارة التي جائت بدعوة من قبل الرئيس التركي.
باسم العوادي
الناطق باسم الحكومة العراقية