كتبت : وصال الشمري
لا يمكن أن ننظر إلى الأزمة في السودان من مشهد الاشتباكات الدائرة بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وعناصر الدعم السريع بقيادة حمدان دقلو حميدتي فهذه ليست إلا مشهدا اخيرا (فخيانة قائد الجيش العسكري "عبد الفتاح البرهان" لرئيس الوزراء "عبدالله حمدوك" وإعادة شخصيات من نظام البشير الى الحكم ،وتظاهر الآلاف السودانيين في العاصمة "لا للحكم العسكري...ومدنية خيار الشعب" فكان الاتفاق السياسي في ٢٥ اكتوبر الماضي ب١٤ نقطة من أهمها : تولي حمدوك مجددا رئاسة الوزراء وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين والعمل على بناء جيش قوي موحد ،لكن الإتفاق لم يلق قبولا بين أوساط السودانيين وقد افقد حمدوك الدعم الجماهيري حيث ينظر له بأنه خائن لجماهير الشارع ودماء الشهداء، رغم مزاعم حمدوك أنه عائد لحقن الدماء، الا أن القمع وسيطرة الانقلابيين على مفاصل الدولة مازال مستمرا ، فأصبح مرفوض من قبل الشارع و منذ تشكيله لمجلس الوزراء وهو ماجعل الأمم المتحدة تقرا الواقع السياسي في البلاد بشكل واضح ،خاصة أن ممثلهم أصبح مرفوضا من جميع الأطراف السياسية في ظل تدخلاته في الحياة السياسية في البلاد، وان اتفاق ٢٥ نوفمبر يعني تسليم السلطة المدنية لتصبح بيد العسكرية حيث أصبح للبرهان الكلمة النهائية في كل شيء وهو سبب فشل حمدوك في تشكيل حكومة تكنو قراط ) فهذا المشهد الاخير من سلسلة مشاهد صراع سياسي محتدم على مدى أربع سنوات ، منذ الاطاحة بنظام عمر البشير عام ٢٠١٩ ومع حالة الانسداد السياسي كان السبيل لاستخدام القوة العسكرية لفرض أطراف بعينها نفوذها بقوة السلاح وفي الوقت نفسه هي امتداد لمشاهد الصراع التي لم تغب عن القضية السودانية منذ الاستقلال.
ديموغرافيا ، بوصف أن السودان صورة مصغرة لأفريقيا حتى قبل انفصال الجنوب بحكم التنوع السكاني والتعدد الاثني والديني والعقائدي والثقافي ،حيث يوجد نحو ٥٦ جماعة اثنية ونحو ١١٥ لغة ولهجة تخاطب ،فضلا عن التنوع المناخي والسياسي والاقتصادي ، هذا التنوع كان واحدا من التحديات والاشكاليات الرئيسية أمام تصفية الاندماج الوطني التي واجهت الأنظمة التي حكمت السودان منذ الاستقلال ١٩٥٦.
بل كانت سببا لعديد من الصراعات والحروب الأهلية التي شهدها السودان في تاريخه المعاصر ،خصوصا في الجنوب قبل الانفصال وفي دارفور في الشرق .
ومع إخفاق الأنظمة الحاكمة في السودان في استيعاب حالة التنوع والتعدد الداخلي كانت الدولة الوطنية في السودان تتسم بالهشاشة والعنف على مر عقود ، ساعد على ذلك حالة عدم الاستقرار السياسي منذ الاستقلال ،واكبر دليل على ذلك كم الانقلابات التي شهدتها الدولة السودانية على السلطة الحاكمة منها ماحقق مراده ومنها مالم ينجح.
اولها / انقلاب الفريق عبود على الحكومة الائتلافية( حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي) ١٩٥٨...استمر ٦ سنوات .
ثانيها / عام ١٩٦٩ قامت مجموعة من الضباط بقيادة جعفر نميري بانقلاب عسكري على السلطة بعد فترة من الازمات السياسية ،استطاع النميري أن يحافظ على حكمه ١٥ عاما ،
ورغم تعدد الانقلابات لكنها فشلت إلى أن انتهت بعصيان مدني شامل واحتجاجات وتشكيل حكومة مدنية منتخبة برئاسة الصادق مهدي ١٩٨٥، ولم يشهد السودان استقرار في ظل صعود ملحوظ للتيار الإسلامي عام ١٩٨٩ ،قاد وقتها العميد عمر حسن البشير بدعم من التيار الإسلامي وتحديدا ( الإخوان) لتبدأ معها فترة الحكم الفيدرالي استمرت ٣٠ عام لم تغب فيها مشاهد الصراع بل أفضت إلى انفصال الجنوب عن الدولة السودانية.
لم يع نظام البشير درس انفصال الجنوب بتغيير نهجه السياسي وتقديم مشروع وطني يحقق الاندماج الوطني للدولة السودانية بل شهدت مناطق أخرى في السودان صراعات مماثلة كما في دارفور ، فضلا عن الأسلوب الاقصائي للقوى السياسية الداخلية حتى انتهى الأمر بثورة شعبية أطاحت بنظامه عام ٢٠١٩، بعد انحياز المؤسسة العسكرية إلى جانب مطاليب القوى المدنية المتمثلة ( بتحالف الحرية والتغيير) ومنذ ذلك الوقت وماتزال النخب السودانية بمكوناتها المدنية والعسكرية تتصارع على من ستكون له الغلبة والنفوذ والسلطة .
يمكن أن ننظر إلى مشهد الاشتباكات الدائرة حاليا التي بدأت في الخامس من ابريل الجاري بين قوات الجيش السوداني بقيادة (عبد الفتاح البرهان) وعناصر الدعم السريع بقيادة ( حمدان دقلو حميدتي) التي اصطفت قبلها في مناطق متفرقة بالقرب من تجمعات الجيش ليتصاعد الصدام المسلح بين أطراف المكون العسكري وفي الوقت نفسه تتصارع أيضا النخبة المدنية والسياسية التي لم تفلح في أن تتجمع على كلمة سواء على مدى أربع سنوات ،فلم تنجح الأطراف السودانية خصوصاً المكونين المدني والعسكري في تشكيل حكومة توافقية تقود المرحلة الانتقالية وصولا إلى إجراء انتخابات منذ الاطاحة بحكومة ( حمدوك)
مع قرارات رئيس مجلس السيادة الاستثنائية في أكتوبر ٢٠٢١ ومنذ ذلك التاريخ تتولى إدارة البلاد حكومة تسيير أعمال بجانب تمسك القوى السياسية بالتصعيد الشعبي بحشد مستمر لتظاهرات واحتجاجات في الشارع طوال الشهر ، وهي لاشك كان لها أثر بالغ على أوضاع اقتصادية متردية بالفعل بالسودان.
فليست هنالك دولة ذات سيادة تبحث عن استقرار سياسي وأمني وتسعى لبناء نظام سياسي جامع ولديها أكثر من قوة عسكرية مسلحة تصارع الجيش في نفوذه ومهامه.
هكذا تبدو قوات الدعم السريع بقيادة ( حمدان دقلو حميدتي) الذي ينتمي إلى القبائل العربية في دارفور وقد قاد مايسمى مليشيا ( الجنجويد) المسلحة التي قادت الصراع بدارفور في مطلع الألفية واستخدمها نظام عمر البشير وقتها لمساعدة الجيش على إخماد التمرد ثم تحولت لقوات الدعم السريع واستخدمت كقوات حرس الحدود لمواجهة الهجرة غير الشرعية وجرائم التهريب. وفي عام ٢٠١٧ تم إقرار قانون يمنح ( الدعم السريع) صنف قوة أمن مستقلة ،وفي عام ٢٠١٩ وقع قائد قوات الدعم السريع اتفاقا لتقاسم السلطة بعد أن شاركت قواته في إزاحة نظام البشير يتولى بمقتضاه منصب نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي وعلى الرغم من توافق مواقف قائد قوات التدخل السريع مع رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان ،فان تحركاته الداخلية والخارجية وممارساته لم تخفي طموحة السياسي ،ذلك أنه حاول كثيرا أن يستفيد من تعقيدات المشهد السياسي وتناقضاته بارتداء ثوب الزعيم المنقذ.
على هذا الأساس سبق الصدام المسلح في الخرطوم خلاف محتدم في نهاية مارس بين ممثلي الجيش السوداني وقوات الدعم السريع التي تستهدف وضع جدول زمني لدمج قوات الدعم السريع مع الجيش السوداني كما نص على ذلك اتفاق جوبا ٢٠٢٠ ورهن الجيش السوداني موافقته النهائية على الاتفاق الاطاري الموقع من القوى السياسية المدنية في ديسمبر الماضي بجدولة الدمج في فترة زمنية أقصاها عامان ، في حين طالبت قوات الدعم السريع منذ تلك الفترة نحو عشر سنوات.
عادت السودان إلى المربع صفر وإعلان حالة الطوارئ وإثارة الاحتجاجات والتظاهرات للمطالبة بحكم مدني وانهاء سيطرة المجلس العسكري على السلطة في السودان ،انقسامات في الشارع بين رافض ومؤيد ومتحفظ ، ورغم الوضع المأساوي للجيش لانستبعد الانجرار نحو حرب أهلية برغم الوساطة الخارجية الدولية بالعودة إلى مائدة المفاوضات السياسية لاستكمال الفترة الانتقالية والذهاب نحو انتخابات، في حين تسعى الدول إلى التسابق لتحقيق مصالحها والمشاركة الإقليمية لها في حل الأزمة خصوصاً التي لها مصالح استراتيجية مثل مصر بحكم العلاقات التاريخية والازلية بين الشعبين.
ودور الرباعية الدولية مثل السعودية والولايات المتحدة والإمارات والمملكة المتحدة وتأثيرها على الداخل السوداني أو دول الجوار مثل اثيوبيا وارتيريا.
من المستبعد عودة الأطراف لمائدة الحوار في ظل تصنيف المؤسسة العسكرية لقوات الدعم ب( المليشيا المتمردة) ، خصوصاً فقدان الثقة بين عناصر المكون المدني والعسكري....
بغض النظر عن الرابح اوالخاسر ،فكيف يكون هنالك رابح في بلد يهدم على يد ابنائه، هذه النخب السياسية يجب أن تتخلى عن حيادها وتقف مدافعه عن بلدها السودان بمؤسساته الوطنية حفاظا عليه من مصير مجهول.