30 Mar
30Mar

كنب : د. حسين القاصد

الصورة السيرية هي صورة عدستها الذاكرة وهي صورة تنتمي للنقد الثقافي، سبق لكاتب هذه السطور أن اجترحها في بعض كتبه من خلال ( نسق الاستدعاء) ينظر: الدلالة الثقافية وسيميائية النسق المضمر؛ وهي إحدى صور الأدب الوثائقي، ففي الشعر وثق لنا الشعراء الكثير من الأحداث؛ لا سيما في شعر المناسبات؛ أما في الدراما فقد سبق للراحل الكبير محمد علي الخفاجي أن يستدعي شخصية الإمام الحسين ويزجها في الحياة المعاصرة وذلك في مسرحيته ( ثانية يجيء الحسين) حيث  زج المؤلف برمزية الإمام الحسين في صراع تجري أحداثه في عام ١٩٧٠ وهو وقت كتابة المسرحية.

والسيرية كما هو واضح مشتقة من السيرة، وهي صور أرشيفية ثقافية لا تعتمد على التشبيه والاستعارة بقدر اعتمادها على أفق مخيال المؤلف وأثر الحدث في ذاكرته.

ولأن النقد الثقافي لا يستغني عن السيميائية فلابد من الوقوف على الحيلة ( التواضعية ) والحيلة اللغوية لنقع في فخ العنوان ( العشرة)، فالقارئ لن ينتبه لحركة ( الفتحة) فوق العين حتى لو كتبت بوضوح تام؛ لأن العشرة بكسر العين هي المهيمنة على وجدان المتلقي، ويذهب بأفق خياله وحزنه ليقول ( العشرة لا تهون) وأحداث المسلسل تدل على العشرة بمعنى المعاشرة، من باب الوفاء لمن ضحوا بأنفسهم.

لكن كسر أفق التوقع الثقافي يتجسد حين نعلم أو نرى فتحة على حرف العين ( عَشرة) وهنا ينفتح الدال على مداليل أخرى، ومنها ( العشرة المبشرون..) وهو نسق اصطياد ذكي قام به كاتب الدراما.

وحقيقة الأمر هو أن المسلسل يجسد حكاية عشرة شهداء، عشر قصص، لينهي العشرة الأولى من أيام رمضان المبارك، بقفزة نوعية في الدراما العراقية.

ولأن الدراما بأبطالها، فإن تألق الفنانة آلاء حسين وتقمصها لعشرة أدوار طيلة أحداث المسلسل، يعد انعطافة كبيرة بل استفزاز كبير لإمكانية آلاء حسين التي بدت كأنها كانت تنتظر نصاً دراميا يظهر مقدرتها الفائقة، يقابل ذلك الهدوء الصاخب لخليل فاضل خليل، الذي ظهر بأخلاق ميت تماما، ليس له أن يؤذي أحدا ولكن ليس لك أن لا تبكي عليه.

وأحسب أن هدوء ( خليل فاضل) الذي ورثه عن أبيه ( رحمه الله) قد استفز دموع وتعابير وجه آلاء حسين، وجعل ابتسامتها دموعها يظهران سوية في كل مشهد.

المسلسل من إنتاج مديرية اعلام الحشد الشعبي بدليل ( شعبة الكتابة) والإشراف الفني مهند حسين، والإشراف العام ( مهند العقابي) مدير اعلام الحشد الشعبي، لكنه صار من إنتاج القناة الرابعة بعد أن بثته وتحولت حقوقه الكاملة للقناة.

وهنا لنا أن نراجع كل حلقات المسلسل ونتساءل هل وردت كلمة ( الحشد) في الحوارات؟ هل تغنى خليل فاضل طيلة أدواره العشرة بشعارات الحشد وهتافاته؟ الجواب:لا؛ لذلك صار المسلسل عراقيا يمثل كل أطياف العراق، وصار حديث الشارع العراقي وصفحات التواصل الاجتماعي.

لكن، ماذا عن الحشد الشعبي؟ الجواب تحمله لنا العلامة السيميائية الواضحة، وهي الزي العسكري للحشد وهو واضح لدى خليل ورفاقه الذين يلتحق معهم.

أفاد المخرج والكاتب معا من الاشتغال على الاتصال الهاتفي بين الحي والميت، وهو أمر مسبوق حيث مشهد لدريد لحام، وقد ظهر في المسرحية مخمورا ليلدغه اتصال هاتفي من أبيه ويصعقه بالأسئلة، وكانت أسئلة الطرفين، دريد لحام وأبيه الشهيد، سياسية، حيث يسأل دريد لحام أباه : لماذا استشهدت؟

بينما لم نجد أي انكسار أو ندم بين آلاء حسين وخليل فاضل، بل وجدنا خليل فاضل يطلب من آلاء أن يكفوا عن طبخ ( الثواب) كل خميس لأن حالة والده المالية لا تعينه وإن ( الثواب) كلفته أكثر من خمسين ألف دينار.

ومن النسق التداولي أن الفنانة تقرأ (سورة يس) لعلها تحلم بالشهيد، لكن حزنها يمنعها من النوم! فتكون المفاجأة بنسق تداولي أقسى حين يقول لها الشهيد بأنه سيأخذ أباه معه، وهو نسق مأتمي فجائعي، حيث يموت الأب أو الأم بعد فقدهما ولدهما، وهو نسق هاجسي  يقلق الأحياء على أبائهم خشية موتهم حزنا ليلتحقوا بفقيدهم. 

خلاصة القول: هذه وقفة سريعة مع مسلسل دخل بيوت جميع العراقيين وسال مع دموعهم على خدودهم. 


فألف تحية لكل من كان وراء هذا الإبداع، والشكر موصول للصديق الأستاذ غزوان جاسم.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن